عناصر الخطبة
1/ السبيل إلى تذوق طعم الإيمان 2/ ماهية طعم الإيمان 3/ من ثمرات تذوق طعم الإيماناقتباس
حلاوةُ الإيمان حلاوةٌ داخليّة، تسري في القلب سَرَيان الماءِ في العود، فلا يشعر صاحبها بأرَق ولا قلق، ولا يحس بضِيق ولا ضجر، يعيش في سعَة، ويتقلب في رضًا ونعمة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:64].
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه...
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فتقواه خيرُ زاد، وهي نِعم العدّة ليوم المعاد.
أيّها المسلمون: إن من يتمعن في أمور الحياةِ وشؤون الناس فيها يرى أناساً تعيش ألوانًا من التعبِ والشقاء، صدورُها مليئة بأنواعٍ مِن الضّجَر، وألسنتها تحكي الشّكوى، وتظهر عدم الاطمِئنان، وفقد الراحة والسعادة، غير راضية بحياتها.
وترى آخرين قد تنعموا بهنيءِ العيش وأنواع الخَير، نفوسهم كريمة، وقلوبهم سليمة، ووجوههم طليقة.
عباد الله: أتعلمون ما الذي فرّق بين هذين الفريقين؟ إنّه الإيمان. خرج مسلم في صحيحه عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً".
وفي الصحيحين وغيرهما، عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ".
أيّها الأحباب: إن للإيمان طَعما يفوق كلَّ الطعوم، وله مذاقٌ يعلو على كلّ مذاق، ونشوةٌ لا تعدلها نشوة.
حلاوةُ الإيمان حلاوةٌ داخليّة، تسري في القلب سَرَيان الماءِ في العود، فلا يشعر صاحبها بأرَق ولا قلق، ولا يحس بضِيق ولا ضجر، يعيش في سعَة، ويتقلب في رضًا ونعمة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:64].
الإيمانُ بالله هو سكينةُ النّفس، وهداية القلب، وهو منارُ السّالكين، وأمَل اليائسين، وأمانُ الخائِفين، ونُصرة المجاهدِين، وهو بشرَى المتّقين، ومِنحَة المحرومين.
من رضي بالله -عز وجل- ربًّا علم أنه الخالق المدبر، وأنه القائمُ على كلّ نفسٍ بما كسبَت، وأنه رحمنُ الدنيا والآخرة ورحيمُهما، وقيّوم السماوات والأرضين، ومُسْبغُ النِّعم، ودافع النقم، ومجيب المضطر إذا دعاه، وكاشف السّوء عمن رجاه، بيده الموت والحياة، (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50].
قد رضي بالله رباً من آمن بالله، وسلم نفسَه له، وسلك سبيل مرضاتِه، وجرّد نفسه من أهوائِها ورغباتِها، فعبد الله ورجاه، وخافه واتقاه، وتبتل إليه.
عباد الله: دين الإسلام هو دين الله الذي أنزله على خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- ورضيَه لعبادِه، ولا يقبَل منهم دينًا سواه. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
مَن استمسك به، وعض عليه بالنواجذ، وأقام أركانه وواجباته، وعمل بأوامره وانتهى عن منهياته، فقد رضي بالإسلام دينا.
أحبتي في الله: لقد أرسل الله -عز وجل- محمدا -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولاً لهذه الأمة، وختم به الرسالة، أرسله هاديا وبشيرا، وداعيا إلى الحق وسراجا منيرا.
بلغ رسالة ربه، وأدى أمانته، ونصح لأمته، ما ترك خيرا إلا دل الأمة عليه، ولا شرا إلا حذرها منه، كل يؤخذ من قوله ويرد إلا قوله -صلى الله عليه وسلم-، وكل الأحكام تصيب وتخطئ إلا حكمه -صلى الله عليه وسلم-، لا طاعة لأحد من البشر في شرع الله سواه -صلى الله عليه وسلم-، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7]، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]. من آمن بذلك فقد رضي بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا.
أحبتي في الله: إذا صحَّ الإيمان بهذه الثلاث، ووقر الإيمان بها في القلبِ، فاضَت ثمراتها على حياة صاحبها، إن مشَى على الأرضِ مشى سويًّا، وإن سار سار تقيًّا، وهو محبوب عند الله وعند الناس، قال -عز وجل- في الحديث القدسي: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه".
ومن هذه حاله، طابَ عيشُه، وعرف في الحياة طريقَه، فسار على نور وبصِيرة، فنال الرّضا وبلغ المُنى. (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22].
عباد الله: اسمَعوا كيف يصنع الإيمان بأهله: غضِب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرّةً على زوجته عاتِكة فقال لها: والله لأسوأنّك، فقالت له: أتسطيعُ أن تصرفَني عن الإسلام بعدَ إذ هداني الله إليه؟ فقال: لا، فقالت: أيّ شيء تسوؤني إذًا؟!.
الله أكبر! إنّها واثقةٌ مطمئنّة راضية مستكينة، ما دام دينُها محفوظًا عليها، حتّى ولو صُبَّ البلاء عليها صبًّا.
وتأمل حال المجاهدين كيف يستطيبون إزهاقَ أرواحهم في سبيل الله! أولئك الذين ملأت حلاوةُ الإيمان جوانِحَهم بأقدار الله، فاطمأنوا بما تجري به المقادير، ورضوا بها، فأقبلوا على دنياهم مطمئنين مهما اختلفت عليهم الظروفُ وتقلّبت بهم الأحوال، لا يأْسَوْنَ على ما فات، ولا يفرَحون بطَرًا بما حصّلوا، فهم موقنون بأنّ ما أصابَهم لم يكن ليخطِئَهم، إيمانهم ورضاهم مقرون بتوكّلٍ وثبات، يعتبِرون بما مضَى، ويحتاطون لما هو آت، ويأخذون بالأسبابِ، ولا يتقاعَسون عن العمل، شعارُهم قول الله -تعالى-: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].
(الواحد منهم) موقن بأن أمره كلَّه له خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرّاء صبر فكان خيرًا له.
وهو متحرّر من الخوفِ والجُبن والجزَع والضَّجر، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51]، منفكّ من رِبقة الهوَى ونزعات النّفس الأمّارةِ بالسّوء وهمزاتِ الشياطين وفِتن الدّنيا، قنوع بما أدرك، بعيد عن الشحِّ والبخل، محب للكرمِ والإيثار والعطاء والبِرّ والرّحمة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منَع، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه والتّابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يومِ الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عباد الله، فالسّعيد من خاف يومَ الوعيد، وراقب ربَّه واتّقاه فيما يبدئ وما يُعيد.
أيّها المسلمون: مَن ضعُف إيمانُه ضجّ مِن البلاء؛ لأنّه لا يعرِف المبتَلِي، ويخاف السَّفرَ؛ لأنّه لا زادَ له، ويضِلّ الطريقَ؛ لأنّه لا دليلَ معه، (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22].
ومن فقَد الإيمانَ انفرَط أمرُه، وانحلّ عِقده، يقول ويفعَل من غيرِ رقيب، ويسير في دنياه من غير حَسيب، وهو معدومُ الثّقة بنفسه وبالنّاس، يحلُّ التّدابُرُ عندَه محلَّ التّراحُم، والتفرّقُ محلَّ التعاون.
إذا (حُرم) الناسُ حلاوةَ الإيمان صاروا وحوشًا ضَارية، حبالُهم مع الله ومع النّاس مقطوعة، فينقادون لنفوسِهم الأمّارةِ بالسّوء، وتجتالهم شياطينُ الجنّ والإنس.
والحضارة المعاصِرة بمادّيتها المغرِقة وتِقنيتها الجافّة خيرُ شاهدٍ على أنّ السعادةَ والحلاوة لا تحقِّقها شهواتُ الدّنيا ولا مادّيّاتها، لا ترَى المرءَ فيها إلاّ منهومًا لا يشبَع، شهواتُه مستعِرة، ورغباتُه متشعّبة، يجرّه الحِرص على الخِصام فيشقى ويُشقِي، ويغرِس العداوةَ والعدوانَ حيثما حلّ وارتحَل.
لقد أورثَتهم حياتُهم هذه أمراضًا نفسيّة، واضطراباتٍ اجتماعيّةً، وتقلّبات فكريّة، فكان مفزعُهم إلى المخدّرات والمهدِّئات والعيادَات النّفسيّة والعلاجاتِ العصبيّة، وقد نبههم الله وحذرهم فقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124]، وقال: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُ) [الأنعام:125].
فاتّقوا الله عباد الله، وآمِنوا بالله ورسوله، واستمسِكوا بدينِ الله الذي ارتضاه لكم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
عباد الله: صلّوا وسلّموا على الرّحمة المهداة، والنّعمة المسداة، نبيّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربّكم جلّ في علاه، فقال عزّ شأنه قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم