عناصر الخطبة
1/ منزلة أسماء بنت أبي بكر 2/ صفاتها الخلُقية 3/ من عظيم أعمالها في فجر الدعوة 4/ حياتها الزوجية الطيبة 5/ محنة ابنها عبد الله بن الزبير 6/ مواقفها الشجاعة في تلك المحنةاقتباس
إنها امرأةٌ لا كالنساء، جمعتْ الفضلَ والحكمةَ والشجاعةَ والقوةَ، وقبل ذلك كانت مربيةَ أجيالٍ، وربةَ بيتٍ، كأحسنِ ما تكون ربةُ البيت.
طالما تحدثنا عن قصصِ الصحابةِ الكرامِ، ولعلنا في هذه الخُطبةِ أن نتحدثَ عن صحابيةٍ جليلٍ شأنها، وعظيمٍ قدرها، وكبيرٍ في الإسلام أثرها.
إنها امرأةٌ لا كالنساء، جمعتْ الفضلَ والحكمةَ والشجاعةَ والقوةَ، وقبل ذلك كانت مربيةَ أجيالٍ، وربةَ بيتٍ، كأحسنِ ما تكون ربةُ البيت.
صحابيتُنا هذه جمعتْ من المجدِ أطرافه كُلَّها، فأبوها صحابيٌّ، وأمها صحابيةٌ، وجدها صحابيٌ، وأخوها صحابيٌ، وأختها صحابيةٌ، وزوجها صحابيٌ، وابنها صحابيٌ، وحسبها بذلك شرفاً وفخراً!.
فأبوها الصدِّيقُ أبو بكر، وجدُها أبو عتيق، والدُ أبي بكر، وأخوها لأبيها عبدُ الرحمن بنُ أبي بكر، وأختُها أمُّ المؤمنينَ عائشةُ، وزوجها الزبيرُ ابنُ العوام، حواريُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وابنُها عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم أجمعين-.
إنها أمُّ عبدِ الله القرشيةُ التيميةُ أسماءُ بنتُ أبي بكر -رضي الله عنها وأرضاها-.
ولدت أسماءُ في بيت علمٍ وكرمٍ وحسبٍ ونسبٍ، أمُها قتيلةُ بنتُ عبدِ العزى، تزوجها أبو بكرٍ في الجاهليةِ فأنجبتْ له أسماءَ وعبدَ الله، ثم طلقها قبل الإسلام، وبقيت في جاهليتها مدةً ثم أسلمَتْ بعدَ الفتح.
وشهدت أسماءُ فجرَ الدعوةِ، وبدايةَ الانطلاقة، وعاشت مع أبيها أذى المشركين، وحملتْ لواءَ الدعوة بيدها وقلبها ومشاعرها.
قال ابنُ إسحاق: فحُدثتُ عن أسماءَ بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكرٍ -رضي الله عنه- أتانا نفرٌ من قريش فيهم أبو جهل بنُ هشام، فوقفوا على باب أبي بكرٍ، فخرجتُ إليهم فقالوا: أين أبوك يا أسماء؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي! قالت: فرفعَ أبو جهلٍ يدَه -وكان فاحشاً خبيثاً- فلطم خدي لطمةً طرح منها قُرطي.
لقد كتمت أسماءُ أمرَ هذه الرحلةِ التي غيرت وجه التاريخ، ولقد كانت مشاهدُ التربيةِ الإيمانيةِ الحقةِ تتكررُ على مرأى ومسمعٍ من أسماء، فقد رأت كيف وقف أبوها وحدَه في وجه زعماء قريش ومَنْ معهم من عشائرَ وقبائلَ ليدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ فيتركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقبلون على أبي بكر -رضي الله عنه-. رواه الحاكم؛ فكيف لا تتربى بعد ذلك على الشجاعة والصمود من أجل الحق؟.
لقد عاشت أسماءُ -رضي الله عنها- مع المسلمين الأوائل حياةَ الصبر والجهاد والمحنة العظيمة، وتحملت الأذى، وصبرت على البأساء، ورأت ما يفعلُه كفارُ قريشٍ بالمستضعفينَ من المسلمين، يذيقونهم ألوانَ العذاب؛ ولكنها لا تزدادُ إلا يقيناً وثباتاً.
وكلما أشرقت شمسُ يومٍ جديدٍ تعمقت جذورُ الإيمانِ في نفسها، وها هي تحدثنا عن موقفٍ من مواقفِ جهادها في أول طريق الدعوةِ.
تقول: صنعتُ سفرةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبى حين أراد أن يهاجر فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطهما، فقلت لأبي: ما أجدُ إلا نطاقي، قال: شُقِّيه باثنين فاربطي بهما؛ قالت: فلذلك سُمِّيتُ ذات النطاقين!.
ويمضي النبيُ -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في طريقهما إلى المدينة، ويذهب الصديق -رضي الله عنه- حاملاً معه كُلَّ ما يملكه من المال، تاركاً آلَ بيته لله -عز وجل-، واثقاً من حفظ الله لهم.
لكن أبا قحافةَ، والد أبي بكر -رضي الله عنه-، وكان آنذاك مشركاً، خَشي على أحفاده، فأراد الاطمئنان على آل بيت أبي بكر، وهنا تكشف أسماءُ -رضي الله عنها- عن حكمتها وقوة عقلها.
قالت أسماء - رضي الله عنها-: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخــرج أبو بكرٍ معه، احتمل أبو بكرٍ ماله كُلَّه، ومعه خمسةُ آلافٍ أو ستةُ آلافِ درهم، فانطلق بها معه.
قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأُراه قد فجعكم بماله مع نفسه! قالت: قلت: كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً.
قالت: فأخذتُ أحجاراً فوضعتها في كُوةٍ في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغٌ لكم.
قالت أسماء -رضي الله عنها-: ولا والله ما ترك لنا شيئاً! ولكني أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك. رواه ابن اسحاق. ثبتت المرأة المسلمة ولم تجزع من ذهاب راعيها بماله كُلِه.
تعالوا بنا بعد أن نظرنا إلى حياة الفتاة لننظر إلى حياة الزوجة المسلمة فقد تزوجت أسماء -رضي الله عنها- من الصحابي الجليل الزبيرِ بنِ العوام قبل الهجرة، وهو ابنُ عمةِ رسولِ الله صفية بنت عبد المطلب.
ولم يكن الزبيرُ غنياً بل كان فقيراً لا يملك من متاع الدنيا إلا البيتَ الذي يسكنه، والفرسَ الذي يركبه، والسيفَ الذي يحمله، ورضيت أسماءُ به زوجاً، وكيف لا ترضى به، وهو ابنُ الدعوة الذي شهد فجرها كما شهدته هي؟.
لقد كان بيتُها وبيتُ الزبير بيتاً من بيوت الإيمان، نشأت فيه شجرة التقوى، وأصبحت وارفة الظلال.
ولا زالتْ مع الزبير وفيةً له، صابرةً عليه رغم فقره، وضيقِ ذات يده، قالت أسماءُ -رضي الله عنها-: تزوجني الزبيرُ وماله في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيءَ غيرَ فرسه، فكنت أعلفُ فرسه، وأكفيه مؤونته، وأسوسه وأدق النوى الناضحة، وأعلفه وأسقيه الماء، وأخْرُزُ غربَهُ وأعجن.
تقول: ولم أكن أحسنُ أخبز، فكان يخبز لي جاراتٌ من الأنصار، وكنَّ نسوةَ صدقٍ، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعَهُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسي، وهي على ثلثي فرسخٍ فجئتُ يوماً، والنوى على رأسي، فلقيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه نفرٌ من أصحابه فدعاني، ثم قال: "إخْ إخْ"؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرتُ الزبيرَ وغيرته، وكان من أغير الناس، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني قد استحييت، فمضى.
وجئتُ الزبيرَ وقلت له، فقال: والله لحملكِ النَّوى كان أشدَّ عليَّ من ركوبكِ معه، قالت: حتى أرسلَ إلىَّ أبو بكرٍ بعد ذلك بخادمٍ فكفتني سياسةَ الفرس، فكأنَّما أعتقني. متفق على صحته.
انظروا إلى المرأة المسلمةِ العفيفةِ الكادحةِ الصابرةِ تقول: "فاستحييت أن أسيرَ مع الرجال"، حياءٌ، وعفافٌ، ومجانبةٌ للرجال.
وتأملوا -عباد الله- تعاونَ الجارات المؤمنات، لم تكن تحسن الخبر، قالت: فكان يخبز لي جاراتٌ من الأنصار، وكنَّ نسوةَ صدقٍ.
وتأملوا -رعاكم الله- مراعاتها لحق زوجها، ومراعاتها خاطرَه عندما قالت: وذكرتُ الزبير وغيرته، وكان من أغيَّر الناس؛ وهذه صفةُ المؤمن الحق، قال -عليه الصلاة والسلام-: "المؤمن يَغَارُ، والله أشدُ غيراً. وقبَّح الله مَن لا يغار على نسائه ومَنْ تحت يده!".
ورُغم فقر الزبير فقد كانت أسماءُ امرأةً سخيةَ النفس ذات جودٍ وكرمٍ، باذلةَ اليد، فكانت تقول لبناتها وأهلها: أنفقنَ وتصدقنَ ولا تنظرنَ الفضل، فإنكنَ إذا انتظرتنَ الفضلَ لم تفضُلنَ شيئاً، وإن تصدقتن لم تجدن فقده.
وقال ابنُها عبدُ الله - رضي الله عنه -: ما رأيت امرأةً أجودَ من عائشةَ وأسماء، وجودهما مختلفٌ، أما عائشةُ -رضي الله عنها- فكانت تجمع الشيءَ إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماءُ فكانتْ لا تدَّخر شيئاً لغدٍ.
وعن أسماءَ -رضي الله عنها- قالت: قلت يا رسول الله: مالي مالٌ إلَّا ما أدخلَ علىَّ الزبير، أفأتصدق؟ قال: "تصدَّقي، ولا توعي فيوعى عليك" رواه الشيخان.
والإيعاء: جعل الشيء في الوعاء، وأصلُه الحفظ والإيعاء؛ أي: لا تمنعي ما في يدك، فتنقطعَ مادةُ بركةِ الرزق عنك، فإن مادة الرزق متصلةٌ باتصال النفقة، ومنقطعةٌ بانقطاعها.
قال النووي-رحمه الله-: معناه الحثُ على النفقةِ في الطاعةِ، والنهي عن الإمساك والبخل، وقد ورد المراد بذلك في روايات الحديث في الصحيحين وغيرهما؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "تصدَّقي ولا تُحصي فيُحصي الله عليك".
امرأةٌ لا تملكُ شيئاً من المال سوى ما أدخلَ عليها زوجُها، ومع ذلك بادرت بالسؤال عن جواز الصدقة من مال الزوج؛ فأجاز لها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تتصدق، ولا تحصي ما تصدَّقت به فيحصي الله عليها رزقها.
لقدْ فتح النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأسماء -رضي الله عنها- ولغيرها من النساء باباً تدخلُ منه إلى سبيل أهل الصدقة، في الوقت الذي تحرص فيه المرأةُ العصرية على الادخار من مالها ومال زوجها شيئاً كبيراً، تستعينُ به على زخارفها، وما يحلو لها من لهوٍ!.
عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنتِ المنذر أن أسماءَ كانت تمرض المرضة، فتعتق كُلَ مملوك لها!.
إن جانبَ الصدقةِ قد ضعُفَ عندَ كثيرٍ من النساء، ولعَمرُ اللهِ! ذاكَ سبيلُ نجاتهنَّ من النار، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشرَ النساءِ! تصدَّقْنَ، وأكْثِرْنَ الاستغفارَ؛ فإني رأيتُكُنَ أكثرَ أهلِ النار".
وقد كانت أسماء -بحق- عند حسن الظن بها، فرفضت أن تفعل شيئاً حتى تستأذنَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعلمَ رأيهُ وحكمَه، وآثرتْ حكمَ الله -عز وجل- وحكمَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- على حكم البشر، وأبت أن تخضعَ لعلاقةِ رحمٍ، أو صلةِ قربى، تخالفُ حكمَ الله -عز وجل-، وحكمَ رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
جاءت أمُ أسماءُ بنتُ أبي بكر لزيارة ابنتها فلم تسرع أسماءُ بصلةِ أمها حتى ذهبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تطلب فتواهُ في هذا الشأن، فقالت أسماءُ -رضي الله عنها-: قدِمَتْ عليَّ أمي -وهي مشركةٌ- في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاستفتيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: إن أمي قدمتْ وهي راغبةٌ، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صِلِي أمكِ" رواه الشيخان.
وعن ابنِ الزبير قال: نزلت هذه الآية في أسماءَ، وكانت أمها يقال لها قتيلة، جاءتها بهدايا فلم تقبلها حتى سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة:8]. رواه أحمد وابن جرير وابن سعد.
ومن حفظ الله في الصغر حفظَه في الكبر قال -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك أحفظ الله تجده تجاهك" الحديث.
لقد عُمّرت أسماءُ -رضي الله عنها- زمناً طويلاً حتى بلغت مائة عامٍ وزيادةً، ولم يسقط لها سنٌّ، ولم يُنكر لها عقلٌ، وكفَّ بصرها بعد ما بلغت من الكبر عتياً، فصبرتْ واحتسبتْ؛ لتنالَ أجرَها من الله جل وعلا؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: "إذا ابتليْتُ عبدي بحبيبتيه فصبرَ، عوَّضْتُهُ منهما الجنةَ" رواه البخاري.
الخطبة الثانية:
ولئن نسيَ التاريخ لأسماءَ شيئاً فإنه لم ينسَ لها ذلك الموقفَ العظيم مع ابنها عبدِ الله ابنِ الزبير -رضي الله عنهما- والحجاجِ بنِ يوسفَ الثقفي.
ذلك أنه لما مات يزيدُ بنُ معاوية استفحلَ الأمرُ لعبدِ الله بنِ الزبيرِ، وبويعَ له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية، ولكن مروانَ بنَ الحكم عارضَه، وأخذَ الشامَ ومصرَ من نوَّاب ابنِ الزبير، وماتَ.
وتولى بعده عبدُ الملكِ بنُ مروان، وأرسلَ إلى العراقِ، وقتلَ مصعبَ ابنَ الزبير وأخذَها، ثم بعث إلى الحجاجِ فحاصر ابنَ الزبير في مكةَ قريباً من سبعةِ أشهر حتى ظفرَ به في يومِ الثلاثاء السابع عشر من جمادي الأولى، سنة 73هـ.
قال عروةُ بنُ الزبير -رضي الله عنه- دخلت أنا وأخي، قبل أن يقتل، على أمنا بعشر ليالٍ وهي وجعةٌ، فقال عبدُ الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجِعة. قال: إن في الموت لعافية. قالت: لعلك تشتهي موتي، فلا تفعل، وضحكت، وقالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك، إما أن تقتلَ فأحتسبُك، وإما أن تظفر فتقر عيني، إياك أن تعرض على خطة فلا توافق فتقبلها كراهية الموت قال: وإنما عني أخي أن يقتل فيحزُنُها ذلك، وذكر أنها قالت لابنها: يا بني، عش كريماً، ومُت كريماً، لا يأخذكَ القوم أسيراً.
ولما أراد أن يودعها نادته إليها وقبلتُه وضمته، فأحست بدرعٍ على صدره فقالت: ما هذا؟ ليس هذا لمن يريد الشهادة؟ قال: والله مالي به من حاجة إلا مخافةً عليك، قالت: انزعه، قال: يا أمهْ، إني أخاف أن يمثلوا بي، قالت: "يا بني، إن الشاةَ لا يضرها سلخُها بعد ذبحها".
ودّعت أسماء ابنَها، ثم أسلمتْ نفسَها لله، ورفعت يديها إلى الحي القيوم، وهي تقول: اللهم ارحم ذلك القيام، وذلك النحيب، والظمأ في الهواجر، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فقابلني بعبد الله بثواب الصابرين الشاكرين.
وخرج عبدُ الله بنُ الزبير إلى المسجد الحرام بمكة، وبات يصلي طوالَ ليلته، ثم جلسَ فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى ثم انتبه مع الفجر، ثم أذن وتوضأ فصلى ركعتي الفجر، ثم أقيمت الصلاة فصلى الفجر، ثم قرأ سورة (ن) حرفاً حرفاً ثم سلمَ، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وحرّض أصحابه على القتال، ثم نهضَ وحملَ وحملوا، فجاءته آجرةٌ فأصابته في وجهه فارتعش لها، فلما وجد سخونةَ الدم يسيل من وجهه قال: ولسنا على الأعْقابِ تَدْمَى كُلُومُنا *** ولكنْ على أقْدامنا تقْطُرُ الدِّما
ثم سقط على الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه، وجاءوا إلى الحجاج فأخبروه فخر ساجداً وارتجت مكةُ بالبكاء عليه - رضي الله عنه ورحمه-.
وخطبَ الحجاجُ الناسَ فقال: أيها الناس: إن عبدَ الله بنَ الزبير كانَ خيارَ هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازعها أهلَها، وألحد في الحرَم، فأذاقه الله من عذابه الأليم، وإن آدمَ كان أكرمَ على الله من ابن الزبير، وكان في ا لجنة، وهي أشرفُ من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة أخرج منها. قوموا إلى صلاتكم.
فقام له عبدُ الله بنُ عمر - رضي الله عنه - فقال: أما والله لو شئت أن أقول لك كذبتَ لقلت، والله إن ابنَ الزبير لم يغير كتاب الله، بل كان قواماً صواماً عاملاً بالحق.
ثم بعث الحجاج برأسه إلى عبد الملك بن مروان وصلبه منكساً في ثنية الحجون، فجاءته أمه حتى وقفت عليه فدعت له طويلاً ثم انصرفت، فجاءه عبدُ الله بنُ عمر -رضي الله عنهما- فوقف عليه فقال: السلامُ عليك أبا خبيب، السلامُ عليك أبا خبيب، السلامُ عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا، أما والله إن كنتَ ما علمتُ صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله لَأُمَّةٌ أنتَ شرُها لأمةُ خيرٍ، ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟!.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أما أبوه فحواري النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد: الزبير، وأما جده فصاحب الغار -يريد أبا بكر-، وأما أمه فذات النطاق -يريد أسماء-، وأما خالته فأم المؤمنين -يريد عائشة-، وأما عمته فزوج النبي -صلى الله عليه وسلم، يريد خديجة- وأما عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- فجدته -يريد صفية-، ثم عفيف في الإسلام، قارئٌ للقرآن. رواه البخاري.
لكن الحجاج لم يعتبر بهذا النسب الطاهر، ولا أقام وزناً لهذه القربى السامية، والصلة الرفيعة، فحاربَ ابن الزبير -رضي الله عنهما-، وأمسك به، وقتله، ثم صلبه على عقبةٍ بمكة.
ومع كل هذا الجبروت والظلم وقتل الحجاج لابن الزبير لم تخضع أسماء -رضي الله عنها- لهذا الطاغية، ولا ذلت نفسها لأحد، وظلت صامدةً عزيزةً حتى آخر عمرها.
يروى أن الحجاج لما قتل ابنَ الزبير دخل على أسماء وقال لها: يا أُمَّهْ، إن أمير المؤمنين وصَّاني بك، فهل من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة.
وذكر الإمام مسلم -رحمه الله- أن الحجاج أرسل إلى أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: لتأتينّي أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك. قال: فأبت وقالت: والله! لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني بقروني. قال: فقال: اروني سبتيّ، أي: نعلَيَّ.
فاخذ نعليه، ثم انطلق يتوذّف حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتيني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وافسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يا بن ذات النطاقين! أنا والله! ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطعام أبي بكر -رضي الله عنه- من الدوابّ، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه.
أما إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدّثنا أن في ثقيف كذاباً [الكذاب هو المختار ابن أبي عبيد الثقفي كان شديد الكذب] ومبيراً [أي: مهلكاً]؛ فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبيرُ فلا إخالك إلا إياه قال: فقام عنها ولم يراجعها. رواه مسلم.
وعن يحيى بن يعلي التميمي عن أبيه قال: دخلت مكة بعد قتل ابن ا لزبير بثلاث -وهو مصلوب- فجاءته أمه عجوزٌ طويلةٌ عمياء فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقاً، كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز، فقد خَرِفتِ، قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "في ثقيف كذابٌ ومُبير" ذكره الهيثمي ونسبه للطبراني.
لقد بلغ من شانها -رضي الله عنها- أن تقف في وجه طاغيةٍ كالحجاج بن يوسف الثقفي، ذلك الذي استباحَ الحرمَ الأمين، وأغرقه في بحر من الدماء الطاهرة الزكيةِ.
وعن ابن أبي مليكة قال: دخلت على أسماءَ بعد ما أصيب ابن الزبير فقالت: بلغني أن هذا صلبَ عبدَ الله، اللهم لا تمتني حتى أوتى به فأحنطه وأكفنه؛ فأتيت به بعد فجعلت تُحنّطته بيدها، وتُكفّنه بعد ما ذهب بصرها، وصلّت عليه، وما أتت عليه جمعة إلا ماتت.
وهكذا انتهت حياةُ أسماء بنت أبي بكر الصديق أمُ عبد الله بن الزبير وزوجُ حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ذات النطاقين، وآخرُ المهاجرات وفاةً.
انتهت حياتها وانتقلت إلى جوار ربها لتترك للمؤمنات دروساً خالدةً، ومواعظ غالية، لقد رحلت أسماء -رضي الله عنها- بعد أن تركت ميراثاً هائلاً من الثبات على المبدأ يتعلم منه الناس جيلاً بعد جيل.
وسيظل اسم أسماء -مهما تعاقب الزمان- يُذكرُ بالجهاد والصبر والتقوى، وسيظلُ لها لقب (ذات النطاقين) في سجل التاريخ وأسفار الخالدين.
فرضي الله -تعالى- عنها، وعن أبيها وزوجها وأبنائها في الخالدين، وألحقنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم