عناصر الخطبة
1/ فضل المعلم ومكانته 2/المعلم الذي نقصده 3/واجبات المعلم 4/من أدوار المعلم التربوية 5/إبراهيم وخطابه التربوي لأبيهاقتباس
لو تأملنا في حوار سيدنا إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه لوجدنا أنه يسعى إلى استمالة والده وكسب ثقته بالسؤال، والتحفيز، والبسط والشرح، والتهديد والعقاب، مما يدل على أن المعلم ينبغي عليه أن يكون لديه سعة أُفق، وقدرةٍ على التكيّف، ومرونةٍ في الأداء، وتنوع في الأساليب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائلُ: (وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)[آل عمران: 79]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ" [الترمذي (2685)]
أما بعد:
عباد الله: إن للمعلم مكانة عظيمة في ديننا الإسلامي الحنيف، ويكفيه شرفاً وفخراً أن الله -سبحانه وتعالى- وصف رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأنه بعثه معلماً، وامتن على المؤمنين بذلك فقال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آل عمران : 164]. وقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الجمعة : 2].
ما الفضلُ إلا لأهلِ العلْمِ إنّهُمُ *** على الهدى لِمن استهدى أَدِلاّءُ
فَقُمْ بِعِلْمٍ ولا تَطْلُـبْ به بَدَلاً *** فالناسُ مَوتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
إن المعلم في هذه الخطبة ليس الذي وظيفته التعليم، ومدرج ضمن كشوفات المدرسين في المدارس ويسميه الناس معلماً بهذا الاعتبار، وإنما المعلم الذي نريد اليوم الحديث عن دوره التربوي هو المعلم بشكل عام، ويدخل في ذلك الأب، والمربي، والمدرس، والمحفظ، والمدير، وغيرهم ممن يتولى عملية التعليم ويقوم بتبليغ العلم للناس.
إن المعلم التربوي هو الذي يستشعر في نفسه أنه يعلم الناس ويربيهم ليقربهم من الله، ويدلهم على طريق السير إليه، ويوصلهم إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة.
ولهذا فإن كل معلم همه نفسه ومصلحته وراتبه ليس هو في الحقيقة بمعلم، لأنه يخوض المعركة ضد الجهل بتفكير ضيق، ونفس دنيئة، وسلاح متخلف غير سلاح الإيمان بالله تعالى ورجاء ما عنده، والطمع في ثوابه. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر 2: 3]، والتعليم عبادة من أجل العبادات وأعظمها فالإخلاص فيها من أوجب الواجبات وأهم الضروريات.
لذا يجب على المعلم أن يكون مخلصاً في نفسه، وأن يربي طلابه على الإخلاص، وأن يكون له دور فعال في تنشئتهم على هذه العبادة الجليلة، لأن بعض الطلاب ربما يتصنع لدى المعلم أشياء، ويتزلف إليه بفعل بعض الأعمال التي يظهر فيها غياب الإخلاص، فهنا يجب على المعلم أن يقوم بدوره تجاه طلابه في تعويدهم على الإخلاص وتربيتهم عليه.
ومن الأدوار التربوية المهمة التي يجب على كل معلم أن يقوم بها: أن يربي من حوله على الثقة بالنفس، وقوة الإرادة، وصدق العزيمة، فقوة شخصية المعلِّم تقوم بالدرجة الأولى على مدى ثقته بنفسه، وبمادته العلمية، ورسالته الإنسانية، فإذا ما توفرت له ثقة بنفسه، وأحسن إعداد مادته العلمية، وآمن بنقل رسالته وصدق مع نفسه في أدائها، كان ذلك أدعى إلى تحقيق أهدافه، وإنجاح عمله التربوي, وكان أقدر على تربيتهم على الثقة بالنفس والاعتزاز بها، واستشعار القدرة لدى هؤلاء الطلاب بالتفاؤل والأمل والعزة والقدرة على تخطي العقبات، والتغلب على العوائق، والوصول إلى أرفع المقامات وأعلاها.
اسمعوا إلى سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وانظروا في ثقته بنفسه حينما قال: (يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)[مريم: 43] فإن قوله هذا يعكس ثقته بنفسه من جهة، ويسعى إلى كسب ثقة الطرف الآخر بما يقوله من جهة أخرى، بل صرح بأن ما عنده من العلم يفوق ما عند أبيه.
ومن الدور التربوي للمعلم الذي يجب عليه أن يقوم به: أن يرفق بطلابه ويعتني بهم، ويكون رحيماً شفوقاً عليهم، مقدماً للترغيب على الترهيب، ولليسر على العسر، وللرحمة على التعذيب، وإذا أنّب أو ضرب أو زجر فإنما هو للتأديب.
ألم يقل الله -تبارك وتعالى- لخير معلم عرفته البشرية: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران : 159]. ويقول: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة : 128].
كذلك يكون المعلم منوعاً لأساليب التربية مع من يربيهم، فلا يكون ذا أسلوب واحد، أو ماشياً على نمط واحد، وإنما ينبغي له أن ينوع في الأساليب، ويتدرج في الخطاب، ويغير في الطريقة، فمرة يستخدم التحفيز، ومرة السؤال، ومرة يرغب، وتارة يرهب.
لو تأملنا في حوار سيدنا إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه لوجدنا أنه يسعى إلى استمالة والده وكسب ثقته بالسؤال، والتحفيز، والبسط والشرح، والتهديد والعقاب، مما يدل على أن المعلم ينبغي عليه أن يكون لديه سعة أُفق، وقدرةٍ على التكيّف، ومرونةٍ في الأداء، وتنوع في الأساليب.
لقد قال له أربع مرات: "يا أبت" لأن في تكرار النداء له بالأبوة تحننن لقلب أبيه القاسي، ومحاولة متكررة لاستحضاره واستعطافه، وهو أسلوب نداء ترغيبي، أبلغ من لو قال له: "يا أبي".
وبدأ كلامه معه بأسلوب مثير إنه أسلوب السؤال فقال له: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ)[مريم: 42] ثم استعطفه بقوله: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم : 43]، فلم ينفع معه هذا الأسلوب، فاستخدم معه في النهاية أسلوب الهجر والزجر حينما رآه صاداً عن الحق معانداً له عن علم وبصيرة، وبعد أن استنفد معه كل وسائل الإقناع والتأثير، فلم يجد من أبيه أذناً صاغية ولا قلباً مفتوحاً، بل وجد إصراراً على الكفر، وسوءَ ردٍّ، وغلظةً في الحديث. في النهاية قال له: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم : 48].
وهكذا المعلم التربوي يجعل العقاب هو آخر الأساليب، والزجر والوعيد هو الطريقة النهاية، إذا لم تفلح مع المتربي كل الطرق، ولم تنفع معه كل المحاولات.
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أعلى بالعلم قدراً، وأعظم به أجراً، ووضع به وزراً، ورفع به ذكراً، والصلاة والسلام على أشرف من علمه، وأذكى من فهم وأفهمه، وعلى آله وصحبه الذين ترجموا القرآن واقعاً، واتخذوه إلى جميع المكرمات دافعاً، فسعدوا به في الدنيا ونهجاً في الآخرة شافعاً.
أما بعد:
أيها الناس: ومن الأدوار التربوية التي على كل معلم أن يهتم بها: هو التربية الخاصة، فهناك طلاب وأبناء يحتاجون إلى رعاية خاصة، وجلسات انفرادية، وتوجيهات موجهة لهم وحدهم دون غيرهم.
فعلى المعلم التربوي أن لا يكتفي بالخطاب العام، ولا يقتصر على النصيحة العامة التي تلقى على كل طلاب وتكون موجهة للجميع، لأن مثل هذه النصائح لا يتلقاها الكل بآذان صاغية وقلب معتبر، وإنما يتم رميها من هذا إلى ذاك، وكل واحد يرى أنها موجهة إلى غيره وليست له، وأن لا علاقة له بها ولا دخل له فيها.
لقد كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن ويخصهن بالحديث والوعظ، حتى يشعرن أن الخطاب ليس للرجال فقط وإنما لهم ولهن، كما جاء ذلك في الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ، وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ" [البخاري (1431) مسلم (2082)].
كذلك دور المعلم التربوي يكمن في التعويد على المشاركة والعمل، لأن كثيراً من ناشئة المسلمين اليوم اعتاد أن يُكفى كل شيء، فهو في المنزل يُقدم له الطعام والشراب، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه، فساهم ذلك في توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية.
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري، وصار دورهم مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة فلا بد أن تحدد لهم المراجع، وبأرقام الصفحات إلى آخره .
إن على المعلمين التربويين فعلاً أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم، وأن يسعوا بهم إلى أن يتجاوزوا في برامجهم التي يقدمونها القوالب الجاهزة، وأن يدركوا أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية بأنفسهم، وألا يبقوا أكلاّء على غيرهم في كل شيء.
لو تأملتم في سيرة خير مربي عرفته البشرية -صلى الله عليه وسلم- لوجدتم أنه لا تكاد تخلو غزوة، أو موقف مشهور في السيرة، من الاستشارة، وإعطاء القيادة للغير، ودعوة البعض للإمارة، أو التحكيم في القضايا، أو القضاء في المسائل والإفتاء فيها، مما يغرس فيهم الثقة، فلذلك وقفوا المواقف المشهودة في حروب أهل الردة وفتوحات فارس والروم.
كذلك من صفات المربي الناجح المتابعة، فالشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية، ولو كان فيه كل جميل من الخصال، لأن المتلقي نفسٌ بشرية وليس آلة تضغط على أزرارها مرة، ثم تتركها وتنصرف إلى غيرها، فتظل على ما تركتها عليه، بل هي نفس بشرية دائمة التقلب، متعددة المطالب، متعددة الاتجاهات، وكل تقلب، وكل مطلب، وكل اتجاه، في حاجة إلى توجيه ورعاية وإدارة. ولهذا يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ" [ أحمد (6756)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اهدي معلمينا لأحسن الأخلاق، وأحسن الأعمال، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنهم سيئ الأخلاق، وسيئ الأعمال فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم