عناصر الخطبة
1/ حال النار وأهلها 2/بكاء أهل النار وصراخهم وعويلهم 3/أعظم عذاب أهل النار 4/خوف السلف من النار (قصص) 5/ماذا فعل السلف لما خافوا من النار؟ 6/أصناف أهل النار 7/محاورة في النار بين الاتباع الضعفاء والكبراء الزعماء 8/كلام نفيس للإمام المحاسبي عن النار وأهلهااقتباس
أيها الإخوة المسلمون: سمع أسلافنا عن النار وعذابها، فماذا صنع في حياتهم، في حركاتهم، في سكناتهم، في أسماعهم وكلامهم، ونظراتهم؟ ماذا صنع الخوف في أكلهم، وشربهم وبيعهم وشرائهم ومعاملاتهم؟ لقد أورث خوفهم من النار يقظة في قلوبهم، وصلاحاً في نفوسهم، وصدقاً في أعمالهم، فالحاكم يقال له: اتق الله مع...
الحمد لله ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، الفعال لما يريد، المنتقم من العصاة بالنار بعد الإنذار والوعيد، والمتفضل على عباده بجنة نعيمها لا يفنى ولا يبيد؛ نحمده ونشكره، ونستغفره، ونسأله من فضله المزيد.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم، وشرابهم الصديد، ولباسهم القطران والحديد.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أعرف الخلق بربه، وأتقاهم له؛ فمن آمن به واهتدى بهديه فهو آمن سعيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على محبتهم من العبيد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وأعدوا العدة ليوم الوعيد.
أيها المسلمون: سبق الحديث في الجمعة الماضية عن نار جهنم، وما احتوت عليه من الغساق والغسلين، والحميم، وصنوف العذاب وألوانه، وفي هذه الجمعة نكمل الحديث إن شاء الله عن نار جهنم، ولمن أعدت هذه النار المحرقة، التي كان الحسن يقول عنها إذا ذكرها: "قد حُذيت لهم نعال من نار، ولُحف من نار، ومساكن من نار في شر دار، وأسوأ عذاب في الأجساد أكلاً أكلاً، وصهراً صهراً، وحطماً حطماً"
وقال وهب: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فهم في النار لا يهدءون ولا ينامون، ولا يموتون، ويمشون عليها، ويجلسون عليها، ويشربون من صديد أهلها، ويأكلون من زقوم أهلها، وفرشهم ولحفهم نار، وقُمصهم نار، وتغشى وجوههم النار، وجميع أهلها في سلاسل بأيدي الخزنة أطرافها يجذبونهم مقبلين ومدبرين، فيسيل صديدهم إلى حفر النار، فذلك شرابهم، ثم بكى وأبكى من حوله"[صفة النار لابن أبي الدنيا (ص87)، والتخويف من النار لابن رجب (ص120)].
فلم يقدر على مواصلة الكلام رحمه الله.
وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعود كما كان" الترمذي
قال الأوزاعي عند الآيات التي نزلت في أبي جهل، ومن على شاكلته من المجرمين:(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ)[الدخان:48] قال: "يؤخذ أبو جهل يوم القيامة فيخرق في رأسه خرق، ثم يؤتى بسجل من الحميم، فيصب في ذلك الخرق، ثم يقال له: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)[الدخان:49]"[التخويف من النار لابن رجب (ص135)].
أنواع من العذاب لم ترها عين، ولم تسمع بها أذن، توجه إلى المجرمين من المشركين والمتجبرين والعصاة، حتى يبكون منها أشد البكاء ندماً وحسرة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يرسل البكاء على أهل النار؛ فيبكون حتى تقطع الدموع، ثم يبكون حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، ولو أرسلت فيه السفن لجرت"[ابن ماجه: باب صفة النار (2/1446)، رقم (4324)، وحسنه الألباني].
يبكون مما يحل من اشتعال النار في أجسامهم، ووصولها إلى أحداقهم، ودخولها في أجوافهم.
يبكون من نار تأكل أكبادهم وأمعاءهم، ومن آنية تشوي وجوههم.
يا غافلاً عن منايا ساقها القدر *** ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إن العين غافلة *** عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سُعرت *** للظالمين فما تبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة *** لكان فيه عن اللذات مزدجر
يتساءل أناس عن هذه الأجسام الصغيرة التي سرعان ما تذوب وتزول إذا ألقيت في نار الدنيا؛ فكيف لها الصمود أمام تلك الأهوال العظام؟ فيجيب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال بقوله في صحيح البخاري ومسلم: "ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب السريع، وأما ضِرسه فقط فكجبل أحد، وأما سماكة جلده فمسيرة ثلاثة أيام"[البخاري: باب صفة الجنة والنار (5/2398) كما أخبر عن ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح؛ فسبحان الذي يقول للشيء كن فيكون، وهو على كل شيء قدير!
وإن أعظم عذاب يجده أهل النار: حجابهم عن الله، وإعراضه عنهم، وسخطه عليهم، كما أن أعلى رضوان من الله لأهل الجنة، وأرفع مكانة، وأعز منزلة في الجنة هي تجلي ربنا لهم، ورؤيتهم إياه جل جلاله، يقول الله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين:16-17].
فكل مُعمَّر لا بد يوماً *** وذي دنياً يصير إلى الزوال
ويفنى بعد جِدته ويبلى *** سوى الباقي المقدس ذي الجلال
وسيق المجرمون وهم عراة *** إلى ذات السلاسل والنكال
فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً *** وعَجُوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا *** وكلهم بحر النار صال
أيها الإخوة المسلمون: سمع أسلافنا عن النار وعذابها، فماذا صنع في حياتهم، في حركاتهم، في سكناتهم، في أسماعهم وكلامهم، ونظراتهم؟ ماذا صنع الخوف في أكلهم، وشربهم وبيعهم وشرائهم ومعاملاتهم؟
قال الحجاج لـسعيد بن جبير: "بلغني أنك لم تضحك قط! قال: كيف أضحك، وجهنم قد سعرت، والأغلال قد نصبت، والزبانية قد أعدت"
جلس عمر بن عبد العزيز مع أصحابه يوماً من الأيام، فأخذوا بالحديث وهو ساكت فقالوا: "ما لك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت مفكراً في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها، فبكى رحمه الله!!"[التخويف من النار لابن رجب (ص34)].
وقال الحسن: "والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره لم يصدق حتى يهجم عليها"[الزهد لا حنبل (ص265)، والتخويف من النار لابن رجب (ص34)].
وقال إبراهيم التيمي: "مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أُرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال: فأنت في الأمنية إذاً فاعملي"
وقال العوام بن حوشب: "ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما"
لقد أورث خوفهم من النار يقظة في قلوبهم، وصلاحاً في نفوسهم، وصدقاً في أعمالهم، فالحاكم يقال له: اتق الله مع فضله، وجلالة قدره، وحسن عمله وحكومته، فترتعد فرائصه، قال رجل لـعمر بن الخطاب: "اتق الله يا عمر؟" فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقول هذا لأمير المؤمنين؟ فينتهره عمر ويقول: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".
وتفقد أحوال رعيته يوماً فمر بعجوز، فقالت:" يا هذا ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً، فقالت: لا جزاه الله خيراً، قال: ولمَ؟ فقالت: والله ما نالني من عطائه منذ تولى أمر المسلمين، قال عمر: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحداً يلي على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها، فبكى عمر وقال: واعمراه! كل أحد أفقه منك يا عمر حتى العجائز؟ ثم قال لها: يا أمة الله، بكم تبيعيني ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار، فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله، فقال: لست بهزاء، فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي وعبد الله بن مسعود، فقالا: سلام عليك يا أمير المؤمنين! فقالت العجوز: واسوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه، فقال لها عمر: ما عليكِ يرحمك الله، ثم طلب رقعة من جلد، وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين ديناراً؛ فما تدعي عند وقوفه في الحشر بين يدي الله، فـعمر منه بريء، شهد على ذلك علي وابن مسعود"[سمط النجوم العوالي (3/68)].
ومعاوية رضي الله عنه وأرضاه يقطع الأعطيات المالية عن أفراد المسلمين؛ فيرتقي المنبر يوماً من الأيام فيقول: اسمعوا وأطيعوا، فينبري له أبو مسلم الخولاني ليقول له محاسباً عن هذا التصرف الخاطئ: لا سمع ولا طاعة يا معاوية، قال: ولم يا أبا مسلم؟ قال: يا معاوية! كيف تمنع العطاء، وهو ليس من كدك، ولا من كد أبيك، ولا من كد أمك، فغضب معاوية، ولكن ماذا صنع؟ نزل عن المنبر، وقال للحاضرين: مكانكم. ثم غاب ساعة فرجع، ثم خرج عليهم وقد اغتسل، فقال بعد ما صعد المنبر: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحد فليغتسل"
وإني دخلت فاغتسلت، ثم قال: صدق أبو مسلم إنه ليس من كدي ولا من كد أبي؛ فهلموا إلى عطائكم على بركة الله تعالى[حلية الأولياء (2/130)].
هذا الذي أورثته النار في قلوبهم من الخوف والوجل، فلم يقل معاوية: خذوه فاسجنوه، أو امنعوه، ولم يقل: أراد تمزيق الصف، وتشتيت الشمل، حتى بل لم يقل: كذب، أو أني منعت العطاء لأجل مشكلة ما، بل قالها صريحة: "صدق أبو مسلم"، ثم أمر بالعطاء.
فأين أقرانك يا أبا مسلم ليقولوها صريحة للحكام الذين يتقبلون في كامل النعيم على الشواطئ وفوق قمم الجبال؛ لتموت شعوبهم جوعاً؟!
وأين أقرانك يا معاوية ليقولوا للدعاة: صدقتم فأفيدونا؟
وكذلك كانت تلك الشعوب المسلمة تسير على منهج الله، ممتلئة بالصدق، وحسن الخلق، وحفظ الجوارح، مليئة قلوبهم وجلاً وخوفاً من عذاب الله.
أيها المسلمون: هذه النار التي سمعتم اليسير عنها مع شدتها، إلا أنه في يوم من الأيام سيأتي عليها وأبوابها كظيظة من الزحام، حتى تمتلئ عن آخرها، يقول الله تعالى: (لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود:119].
ولكن من هم أهلها يا ترى؟
أهلها كما أخبر الله ورسوله عنهم: المشركون الذين عبدوا غير الله، يقال لهم: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) [الشعراء:92-95].
أهلها المستهزئون بالدين، الذين سخروا بأمر العقيدة وأصحابها، فأخذوها مأخذ الهزل واللعب، والخوض بلا مبالاة، والتنطع بلفظتها دون تحقيق معناها: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) [المدثر:42-45].
أهلها السلاطين الظلمة، والحكام الخونة، مع أذنابهم وأتباعهم المصفقين لهم، وهؤلاء جميعاً لهم موقف عجيب، وحالة خاصة في الجزاء؛ لأن فساد هاتين الطائفتين هو سبب فساد الأرض قاطبة، والعكس بالعكس، فصلاحهما صلاح للأمة وللأرض، فيقول الله عن حالتهم: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ:31-33].
يلقي الضعفاء التبعة على الذين استكبروا إذا رأوا البلاء، ويقولون لهم هذه المقولة الصريحة، التي لم يكونوا يقولونها في الدنيا؛ لسبب الذل والضعف، والاستسلام، ودناءة النفس، ولسبب بيعهم لحرياتهم التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحها الله إياهم، أما اليوم وقد سقطت القيم، وواجهوا العذاب، وعرفوا قدر زعمائهم أصحاب الأبهات، وأصحاب الشعارات الزائفة، فهم يقولونها دون خوف: (لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ:31].
فيضيق الذين استكبروا بالذين استضعفوا، فالضعفاء الأذناب يتخلون عن تبعة سوء أفعالهم، ويحملونهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء، فيردون عليهم باستنكار وبسبٍ غليظ : (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ) [سبأ:32].
فيتخلى الزعماء أيضاً، يتخلى الزعماء الذين كانوا بالأمس يغلقون صدورهم عن الكلمة الطيبة، فضلاً عن المناقشة القوية، والذين كانوا لا يقيمون للضعفاء وزناً، ولا يأخذون منهم رأياً، ولا يعتبرون لهم وجوداً، حتى وإن كانوا أذناباً لهم وإمعات، فيقولون لهم هذه الكلمة وقد زال الحاجز المضروب في الدنيا لسقوط الهالات الكاذبة، والقيم الزائفة، وظهور الحقائق المستورة، فلم يسكت المستضعفون المخدوعون، بل أخذوا يجابهون المستكبرين بمكرهم، الذي لم يكن يفتر ليلاً ولا نهاراً، للصد عن الهدى، وللتمكين للباطل، ولتلبيس الحق، والأمر بالمنكر، واستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء.. يقولون لهم: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) [سبأ:33].
ثم يدرك الجميع أن حوارهم بائس لا نفع فيه ولا طائل منه، فلكل جريمته وإثمه، المستكبرون عليهم وزرهم وتبعة تسلطهم، وإغوائهم للآخرين، والمستضعفون عليهم وزرهم باتباعهم الطغاة رغبة منهم، فلا يُعفيهم كونهم مستضعفين، فقد أكرمهم الله بالإدراك والبصيرة، والحرية التامة من الخلائق دون الخالق سبحانه، ولكنهم عطلوا حريتهم وإدراكهم، ورضوا لأنفسهم بالذلة لكسب دريهمات، ولكسب منصب في الدنيا سرعان ما يزول وينقرض وينتهي، فاستحقوا العذاب جميعاً فسحبوا بالأغلال.
فالضعيف الذي كان يحلق لحيته، ويسبل ثوبه تلبية لرغبة زعيمه، ويشارك زعيمه في الظلم والتسلط، وإهدار الأموال والثروات، لم يشفع له أن كان ذيلاً وإمعة، ولم يخفف عنه كونه شاةً تساق، لا رأي له، ولا إرادة ولا اختيار، فهو بطوعه واختياره انساق وراء الكبر والكبراء، والملأ والحاشية، وسيرهم هذا أرداهم، فجعلهم يتقلبون في الجحيم مع قاداتهم، فساقهم القادة إلى النار كما ساقوهم في الدنيا سوق الشياه.
والعجيب في المحاورة هو سؤالهم لقادتهم وكبرائهم: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ) [غافر:47].
فأسيادهم الذين كانوا يوهمونهم في الدنيا بالذود عنهم، والذب عن ممتلكاتهم، وحمايتهم من الفساد بزعمهم، وقيادتهم إلى الرشاد، ومنعهم من كيد الأعداء، هم الذين كانوا يوهمونهم بذلك، ولذلك يوجهون إليهم هذا السؤال، لكن القيادات في ذلك اليوم تزداد ضيقاً وحنقاً، فيجيبون في ذل وهوان: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) [غافر:48].
وفي نهاية هذه المحاورة، وبعد اليأس الشديد والإدراك التام بأنه لا فكاك ولا خلاص لهم مما هم فيه، يتجهون جميعاً في ذلة وخزي -كما أذلوا دين الله- إلى خزنة جهنم، فيستشفعون حراس جهنم؛ ليدعوا ربهم رجاء أن يكشف لهم البلاء: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) [غافر:49].
لكن الجواب والرد عليهم: (أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)[غافر:50].
أهل النار! يا عباد الله: هم المنافقون الذين يُعجب الناس قولهم في الحياة الدنيا، وهم ألد الخصام، وأعداء الله ألسنتهم ذلقة، مظاهرهم تعجب، ومخابرهم تسوء، لكنهم إذا دعوا إلى الحق وإلى الصلاح لم يحاولوا إصلاح أنفسهم، بل تأخذهم العزة بالإثم في الانتقام ممن ناصحهم ووعظهم، ويمضون في طريقهم يهلكون الحرث والنسل بمعاصيهم، فحسبهم جهنم ولبئس المهاد.
أهل النار! هم المفسدون في الأرض الذين إذا انصرفوا إلى أعمالهم كانت وجهتهم الشر والفساد، في قسوة ولَدد، تتمثل في غدر الإنسان، والتجسس عليه، والسخرية به، والكلام في عرضه.
أهل النار! هم المصورون الذين يضاهون خلق الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يضعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" البخاري ومسلم
أهل النار! هم أهل العقوق الذين لا يعرفون لآبائهم قدراً، ولا لأمهاتهم منزلة، يقول عنهم رسولنا صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى" النسائي: باب المنان
وأصناف أهل النار كُثر، فنسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب من يحبه، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبه، ونسأل الله سبحانه وتعالى رضاه والجنة، ونعوذ به من سخطه والنار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي توحد بالملك والملكوت، وتفرد بالعظمة والجبروت، لا يحول ولا يزول، ولا يغيب ولا يفوت، هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، الذي لا يتغير ولا يموت؛ نحمده تعالى، ولا نعبد إلا إياه، ونشكره ولا نستعين بأحد سواه، ونشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، المنيب الأواه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق تقواه، وقوموا بما أوجبه الله عليكم تنالوا رضاه، واحذروا التمادي في العصيان؛ فإن النار لمن عصاه.
أيها المسلمون: تكلم المحاسبي عن النار وحالة من وقع فيها، فقال: مثل نفسك وأنت تنادي فلا تُرحم، وتبكي وتعطي الندم إن رُددت أن لا تعود فلا تقبل توبتك، ولا يجاب نداؤك، ثم توهم نفسك، وقد طال مكثك، فبلغت غاية الكرب، واشتد بك العطش، فذكرت الشراب في الدنيا، ففزعت إلى الجحيم، وتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك، ثم قربته إلى فيك فشوى وجهك، ثم تجرعته فسلخ حلقك، ثم وصل إلى جوفك فقطع أمعاءك، فناديت بالويل والثبور، وذكرت شراب الدنيا وبرده ولذته، فبادرت إلى حياض الحميم لتتبرد بها كما تعودت الاغتسال في الدنيا إذا اشتد بك العرق، فلما انغمست في الحميم تسلخ اللحم من قرنك إلى قدمك، فبادرت إلى النار رجاء أن تكون هي أهون عليك، وهكذا حالتك بين النار والحميم: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)[الرحمن:44].
عباد الله: صلوا وسلموا على خير عباد الله، فقد أمركم الله بذلك، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أصلحنا حكاماً ومحكومين، اللهم أصلحنا حكاماً ومحكومين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فرج كرب المكروبين، اللهم ارفع راية التوحيد خفاقة فوق بلاد العالم الإسلامي كله يا رب العالمين.
اللهم أحسن خواتيمنا، اللهم أحسن خواتيمنا، اللهم قِرَ عيوننا برؤيتك ورؤية نبيك في دار كرامتك يا رب العالمين.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم