اقتباس
اعتبروني سبَّاحًا وجد غرقى فقفز في البحر لإنقاذهم، أو رجل إطفاءٍ اقتحم النار ليغيث أهل الدار من حريق شب بدارهم، أو طبيبًا رضي بأن يقضي في قرية موبوءة زمنًا ليطبب أدواءهم... المهم ألا تتهموني في عقلي أو في ديني!..
تعلمون أني لم أكن أرغب مطلقًا في أن يأتي تعييني في هذا المسجد الذي فيه قبر، وكيف لا، وقد حفظت قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه: "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"([1])، ولسبب آخر طريف؛ وهو أنني لا أحب أن أجاور الأموات وأنا ما زلت حيًا! لكنني مكرهًا قَبِلْتُ، فقد اضطررت اضطرارًا وأُلجئت إلجاءً إلى هذا، وأيضًا فقد قلتُ لنفسي: ولما لا أكون سببًا في إنقاذ هؤلاء الحيارى؟ وإلى من أُسْلِمهم؟! فكان الأمر بالنسبة إليَّ دعوةً ثم تحديًا... فاعتبروني سبَّاحًا وجد غرقى فقفز في البحر لإنقاذهم، أو رجل إطفاءٍ اقتحم النار ليغيث أهل الدار من حريق شب بدارهم، أو طبيبًا رضي بأن يقضي في قرية موبوءة زمنًا ليطبب أدواءهم... المهم ألا تتهموني في عقلي أو في ديني!
وقد شجعني على الإقدام على ذلك أن القبر لم يكن في المسجد، بل قد كان خلفه في حجرة منفصلة عنه، وأن المسجد لم يبن على القبر، بل هو طارئ عليه، وإن كان المسجد يحمل اسم صاحب الضريح! وحان الموعد المرهوب، وخرجت قاصدًا ذلك المسجد أُقدِّم رجلًا وأؤخر أخرى، تتضارب في نفسي الأفكار والمشاعر وتتصارع، لكنني حسمت أمري وربطت جأشي وعاهدت ربي ألا يقر لي قرار حتى أُخرِج ذاك القبر من ذلك المسجد، في أقرب وقت ممكن.
ودخلت المسجد برجلي اليمنى، ودخل معي -حين دخلتُ- جلبابي الأبيض القصير ولحيتي المعفاة وسواكي الذي بين أسناني، فاستقبلني خادم المسجد مهرولًا متعجبًا وصائحًا فيَّ: أي مسجد تريد أيها الشيخ؟! تراك أخطأت الطريق؟! انتبه أيها الشيخ فإن هذا هو مسجد "سيدي الخنفوشي"!... ولم يفاجئني رد فعل خادم المسجد إذ رآني؛ فإنه لم يعتد رؤية الزهر ينبت في مزارع الخروع! ولا رؤية عنقود عنب يتدلى من شجرة اللبلاب! على كل حال هدَّأت من روعه واحتويت عجبه وأخرجته من ذهوله ثم أطلعته على المستند الرسمي بتوجيهي إمامًا وخطيبًا لهذا المسجد، وقبل أن يفيق من هول صدمته سألته: أين حجرة الإمام؟ فأجابني: قد امتلأت بالنذور المقدمة إلى "سيدي الخنفوشي"! فعاودت السؤال: فأين تقع دروة مياه المسجد؟ فأجابني: قد أغلقت لتجهيزات المولد السنوي لـ"سيدي الخنفوشي"! فسألته الثالثة على وجل: ومتى موعد ذلك المولد؟ قال: ما بقيت إلا أسابيع قليلة!
وساعتها فقدت جزءًا من حماستي، وشعرت كأنما الأمر فوق طاقتي، وفكرت في أن أنكص على عقبي وأرجع من حيث أتيت! ولكأنما قرأ خادم المسجد ذلك على صفحة خاطري؛ فقد عاجلني قائلًا: أما لك في نصيحة؟ قلت: بلي، قال: ليس هذا المكان مكانك، ولن يستقبلوك هاهنا بخير أبدًا، بل ستحدث فتنة كبيرة في المسجد، وستلاقي من المتاعب ما لا تحتمل!... ولم أجبه، بل غرقت في خواطري، وقد عاودني ما أعرف في نفسي من روح التحدي، وهمست في صوت لا يسمعه غيري: لكأنها هي التجربة النبوية -مصغَّرة- تتكرر من جديد؛ فقد بُعث -صلى الله عليه وسلم- والأصنام تحيط بالكعبة إحاطة السوار بالمعصم؛ ثلاثمائة وستون صنمًا، فلم يمنعه ذلك من أين يجعل الكعبة في قبلته بينه وبين المسجد الأقصى إذا صلى، ولم يحطمها إلا بعد فتح مكة، بعد أن ظلت ثلاثة عشرة عامًا تحيط بالكعبة!
وكأني ساعتها يتردد في صدري قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت"([2])، وقد مات -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعل... وعندها التفت إلى عامل المسجد -الذي انتظر إجابتي طويلًا- وقلت له: تقول أن الحمامات قد أُغلقت استعدادًا للمولد، فأين يتوضأ الناس؟! فأجاب: الجميع يأتي من بيته متوضأً، قلتُ: ألم يعترض أحدٌ؟! قال: وكيف يعترضون وهم يخافون من سطوة "سيدي الخنفوشي" أن يغضب عليهم! فقلتُ: اللهم أعني على حمل ذلك الجبل الذي استقر على كاهلي!
وأخذت جولة في نواحي المسجد أعاينه وأستطلعه، ووقفت أمام باب تلك الغرفة الذي يسكن داخلها "مقام السيد الخنفوشي"، وقلت في نفسي: الله أعلم بك؛ أتُنعَّم أم تُعذَّب!... وإذا بصوت أجش غليظ يقطع عليَّ خواطري، وهو يصيح فيَّ: لا مكان في هذا المسجد للمتشددين المتنطعين! أتقف أمام "سيدي الخنفوشي" غير منحنٍ ولا متخشعٍ! أما تخشى أن يبتليك بمرض أو بفقر أو بفقدان ولد! وهالني ما سمعته منه، ولم أتمالك أعصابي وأنا أبادله صراخًا بصراخ وأقول: ويلك! ويحك! لا يقدر على هذا إلا الله -تعالى- وحده! إن الأقدار والآجال والأرزاق بيده -سبحانه- لا شريك له! فازداد الرجل ثورة وهو يقول: إن الله قد وكَّل "سيدي الخنفوشي" في كل هذا!... وصار الزبد يتقاذف من بين شدقيه وهو يتابع صراخه وصياحه، وعندها سكتُّ تمامًا، وقلتُ في نفسي: إن هذا الرجل مقتنع تمام الاقتناع بما يقول، ولن تُفلح مواجهته ومَنْ خلفَه بالصياح، بل لا بد من منهج جديد، ولقد كان.
لقد مرت تلك الليلة، وعدت إلى منزلي واجمًا ساهمًا، يحدثني أهلي فلا أجيب، يستشيرونني في أمورهم فلا ينتفعون بي، تعشوا وناموا، وجلستُ شاردًا، طال الأمر فقمت فتوضأت ووضعت الجبهة على الأرض لله متذللًا مبتهلًا: يا رب ألهمني فإني حائر، ثبتني فإني مذبذب، علِّمني فإني جهول، وفقني أن أكون لهم سبب هدى وصلاح... وجلست وحيدًا خاليًا، وأمسكت بقلمي، وسطرت وسط الصفحة جملة: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم كتبت تحتها عنوانًا يقول: "خطواتي نحو تطهير القلوب ثم تطهير المسجد"، وكان مما كتبتُ الخطوات التالية:
الخطوة الأولى: التحبب إلى رواد المسجد:
فقد أدركت أنهم لن يتقبلوا مني كلمة حتى يقبلوني أنا -أولًا- ويحبوني، فأخذت بوسائل ذلك، مشترطًا على نفسي ألا أتنازل عن ثابت من ثوابت الدين أبدًا، وكان من طرائق هذا التحبب:
أولًا: التزام آداب الدعوة إلى الله، وآداب النصح: ومنها: عدم الجزم بضلال شخص بعينه، ألم يقل الله -تعالى- لمن كفروا: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سبأ:24]! فتجنبت تجريح الأشخاص والهيئات... ومنها: ما أجمله الله -تعالى- حين قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125]... ومنها: الرفق ثم الرفق: وأنعم به من أدب ناجح مجرب يزيِّن الأسلوب الدعوي، وفقدانه يشينه، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"([3])، وهل أبلغ في ذلك من أن يقول الله -تعالى- لموسى وهارون عن فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) [طه:44]، فمن دون فرعون لهو أولى بالقول اللين.
ثانيًا: حضور مناسباتهم الاجتماعية: من أفراح وأتراح، ملتزمًا أثناء ذلك بالأحكام الشرعية، وقد كلفت خادم المسجد -الذي كسبته في صفي- بتحري مناسباتهم واصطحابي إليها... وما أتيت بهذه من عندي، بل لقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعود المرضى ويجيب الدعوة ويحضر الولائم... بل لقد عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- غلامًا يهوديًا، وكان لذلك فعل السحر عليه وعلى أبيه، وقد أسلم الغلام، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار"([4])، ومرت به -صلى الله عليه وسلم- جنازة، فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: "أليست نفسًا"([5])، فقلت لنفسي: كيف بعد كل هذا لا أزور مسلمين وإن تلبسوا ببدع جهلًا؟!
ثالثًا: بدؤهم بالسلام إذا لقيتهم، والتبسم في وجوههم: وهي وصفة حب مؤكدة، وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"([6])، وأما التبسم فقد استحضرته من تأثر جرير بن عبد الله ببسمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال: "ما حجبني النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي"([7]).
رابعًا: حفظ أسمائهم، ومناداتهم بأحبها إليهم: وتلك مشورة الفاروق عمر حين قال: "ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته أولًا، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه"([8]).
خامسًا: توطين النفس على تحمل الأذى، ومقابلته بالإحسان: وتلك وسيلة للتحابب؛ فقد قال الله -تعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]، وذكرتُ حين مر اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "السام عليك"؛ يقصدون الموت والهلاك، فتغافل -صلى الله عليه وسلم- عن قولهم، وما زاد عن أن قال لهم: "وعليكم" وسكت، وعندها انبرت أم المؤمنين عائشة قائلة لهم: "السام عليكم، ولعنكم الله وغضب عليكم"، فعاتبها -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "مهلًا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف، أو الفحش"، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟! قال: "أولم تسمعي ما قلت؛ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في"([9]).
سادسًا: مواساة المحتاجين منهم بالمال: بل وغير المحتاجين، فإنه يجتث البغض ويزرع مكانه حبًا، يشهد بذلك صفوان بن أمية قائلًا: "والله لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ"([10]).
سابعًا: السعي في قضاء حوائجهم: إذا أردت أن تكسب قلبًا في صفك، فاسع في قضاء حوائجه، حتى تثبتها له إن استطعت، ولستَ -أخي الخطيب- في حاجة أن أذكرك أن "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"([11])، ولتستحضر نية أخرى: هي أن تدخل إلى قلبه من خلال قضاء تلك الحاجة.
ولقد أتى إليِّ ذات يوم رجل متواضع الحال، وكانت له حاجة، فوسوس إلي شيطاني قائلًا: أتمشي مع هذا الرجل الضعيف فيزدريك الناس؟! وقد استعذت بالله من الكِبْر، وتذكرت كيف كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت([12])، وكيف أن امرأة في عقلها شيء، قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: "يا أم فلان انظري أي السكك شئت، حتى أقضي لك حاجتك" فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها([13])... فقمتُ ومشيت معه وكانت مشية موفقة، وصار ذلك الرجل لا يفارقني، وإن فارقني لم يفارق الثناءُ عليَّ لسانَه.
ثامنًا: تكليف كلٍ بما يحب: كتبت هذه النقطة وأنا أتذكر حال الحاج محسن الذي كانت هوايته كتابة اللوحات كأنه خطاط، فكلفته بتعليق لوحة خشبية يكتب عليها كل يوم حديثًا جديدًا أختاره له، والأستاذ نعيم الذي كلفته بتحفيظ الأطفال القرآن؛ فقد كان يحب ذلك، وقد توسمت فيه الخير، أما الحاج عمر فقد كان جميل الصوت يحب الابتهالات، فتخيرت له بعض القصائد المؤثرة ليلقيها بعد أن أنتهي من درس المساء... وهكذا ارتبط كثير منهم بإمام المسجد -الذي هو محدثكم- من خلال تكليفهم بما يحبون...
تاسعًا: دروس خفيفة كل ليلة: ما قصدتُ منها تعليمًا بقدر ما قصدت بها التمهيد وتأليف القلوب، فأحكي فيها قصة من السيرة، أو نادرة من النوادر، أو شيئًا من الفقه، أو أشرح حديثًا في الرقائق، أو أصف الجنة والنار، أو أفصِّل في علامات الساعة، وأخوِّف بهول القيامة، وأعرج على سكرات الموت ثم عذاب القبر ونعيمه... من كل ما يرقق القلب ويذكِّر بالآخرة ويصل بالله، وأيضًا يعلق السامعين بمُحَدِّثهم.
عاشرًا: إهداؤهم وقبول هداياهم: وقد أعلنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت"([14])، والعلة في ذلك قد ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "تهادوا تحابوا"([15])... ولم أحاول أن أتكلف كثيرًا في شراء الهدايا بل كانت بما تيسر تبعًا لإمكانياتي، ولا تسمحوا لي أبدًا أن أحدثكم عن أول هدية أهديت إليَّ؛ لقد كانت "دستة" شموع لأوقدها على مقام "السيد الخنفوشي"! أما الهدية الثانية فكانت "علبة" بخور لأبخِّر بها المقام "المبارك"! أما الثالثة فقد كانت عنزة سمينة، والرابعة ديكًا أحمر، أما الخامسة فأستحي أن أخبركم بها... إلى آخر تلك الهدايا التي أدركت منها أمرين، الأول: أنهم يفعلون ما يفعلون بسذاجة وجهل، وهذا الجهل بسيط لا مركب؛ فإنهم لم يجدوا يومًا من يعلِّمهم، وأما الثاني: فأن قلوب البعض قد بدأت تميل إليَّ... وهنا أدركت أنه قد آن أوان الخطوة الثانية، وقد أقدمت عليها.
الخطوة الثانية: تثبيت أصول العقيدة في القلوب:
أتظنني قد تكلمت -أول ما تكلمت- عن حرمة بناء المساجد على القبور، وعن حكم الصلاة في تلك المساجد... كلا، إذًا لانفضوا من حولي وما سمعوا مني كلمة واحدة، وكيف أفعل ما لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! بل ما لم يصنعه القرآن الكريم نفسه؛ تقول عائشة عن القرآن: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا..."([16]).
وتأمل قولها: "حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام"؛ فكلمة ثاب أي: رجع، فكأنهم إذ سمعوا الغريب عليهم -وإن كان حقًا- نفروا وانفضوا، ثم لما تعقلوا الأمر بعد حين رجعوا إليه، ويؤيد ذلك ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر..."([17]).
ولنعد الآن إلى موضوعنا، فأقول: بعد أن انفتحت لي قلوب البعض -ولا أقول الجميع- وزال عنهم الفزع من لحيتي وجلبابي وسواكي! وأدركوا أني بشر مثلهم؛ فليست لي أنياب ولا مخالب! بعدها فقط، بدأت أعمل على ترسيخ أصول العقيدة في قلوبهم؛ فهي الأساس والأصل لما بعدها، وقد بدأت بالأهم ثم بالمهم، وكان أغلب كلامي بالتلميح دون التصريح، فكان مما ركزت عليه ما يلي:
أولًا: التوحيد والشرك: فعلَّمتهم أن الله -عز وجل- ما أرسل الرسل وأنزل الكتب إلا من أجل أن يُوَحَد فلا يُشرك به شيء، وأن الإشراك بالله هو الذنب الذي لا يُغفر إن مات عليه صاحبه... حتى جعلتهم يحرصون على التوحيد ويتعوذون من الشرك إجمالًا... ثم تطرقت إلى شيء من ألوان الإشراك بالله؛ كالشرك في المحبة وفي الخوف، وحفَّظتهم أن الخوف أنواع ثلاث؛ فخوف طبيعي، وخوف الجبن، والثالث هو خوف السر: وهو أن يخاف من مخلوق أن يصيبه بما لا يقدر عليه إلا الله كمرض أو فقر... وكانت هذه هي أخطر ما يحتاجون.
ثانيًا: الله وحده هو الضار النافع: وقد وقفنا مع هذه النقطة طويلًا، فقلت لهم: من سوى الله من إنس أو جن أو ملائكة... كلهم عاجز ضعيف مفتقر إلى الخالق -سبحانه وتعالى- لا يملك لنفسه -فضلًا عن غيره- نفعًا ولا ضرًا، وقد خاب أقوام وخسروا حين ظنوا أن سوى الله ينفع ويضر، فنعى الله عليهم ذلك قائلًا: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) [الحج:12]... وتراكم أدركتم الآن أن هذه النقاط تهدم من مكانة "الأولياء" -التي غالوا فيها- من قلوبهم.
ثالثًا: حال كفار مكة: فقد كان كفار مكة وأمثالهم إذا سئلوا من الخالق؟ قالوا: الله؛ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [الزخرف:87]، ثم إذا سئلوا بعدها: فكيف -إذن- تعبدون الأصنام من دونه؟! أجابوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3]!... ولقد وضَّحتُ لهم ذلك جيدًا حتى ترسخ في أذهانهم... وما دفعني للحديث عن هذا إلا لأنه يشبه ما وقع فيه بعضهم؛ فقد كانوا يرفعون بعض أوليائهم إلى درجة النبوة، بل فوقها! ويقولون: أن إليهم التصرف في أمور الكون! تمامًا كما كان يقول عبدة الأوثان عن أصنامهم!
رابعًا: لا مستحق للعبادة إلا الله وحده: ولم أجد عناءً يُذكر في إقناعهم بذلك، وإنما كان العناء كله في أن يقتنعوا أن الدعاء والنذر والركوع والسجود والذبح للتقرب... هي أنواع من العبادة.
وبدأت بالنذر؛ وكيف لا أبدأ به وقد احتلت المنذورات "للخنفوشي" حجرتي في المسجد! فرسَّختُ في عقولهم أن النذر عبادة كالصلاة والصيام، فلا يحل صرفها إلا لله -تعالى-، وعلَّمتهم حديث ثابت بن الضحاك -ولم يكن لهم به علم أصلًا-، وفيه أن رجلًا نذر أن ينحر إبلًا ببوانة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" قالوا: لا، قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله"([18])، فلو كان ببوانة عيدًا لهم -أو قل مولدًا لهم- لنهاه -صلى الله عليه وسلم- عن إيفائه بالنذر هناك وإن قصد بنذره وجه الله، فكيف إذا قصد بالنذر "وليًا" أو سواه!
وكان الأمر أسهل في إقناعهم أن الدعاء عبادة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قالها صراحة: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]([19])... وقد أَرْعَبَ الطيبين منهم قولُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله من ذبح لغير الله"([20])... وترك عدد ممن كانوا ينحنون أمام "الخنفوشي" انحناءهم لما سمعوا حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: أينحني بعضنا لبعض؟ قال: "لا"، قلنا: أيعانق بعضنا بعضًا؟ قال: "لا، ولكن تصافحوا"([21])...
أخي الخطيب: قد كتبتُ ما قرأتَ، وما أتممت حديثي بعد، فإن كان لك من ملاحظات فلا تعجل عليَّ حتى تقرأ الجزء الثاني من هذا المقال وهو تحت عنوان: "وما زلت في المسجد المقبور"؛ فستجد فيه -إن شاء الله- جواب تساؤلاتك.
----
([1]) البخاري (435)، ومسلم (531).
([2]) البخاري (1586)، ومسلم (1333).
([3]) مسلم (2594).
([4]) البخاري (1356).
([5]) البخاري (1312)، ومسلم (961).
([6]) مسلم (54).
([7]) البخاري (3035)، ومسلم (2475).
([8]) الإحياء للغزالي (2/181)، الناشر: دار المعرفة - بيروت.
([9]) البخاري (6401)، ومسلم (2165).
(([10] مسلم (2313).
(([11] مسلم (2326).
(([12] البخاري (6072).
(([13] البخاري ()، ومسلم (2580).
([14]) البخاري (2568).
([15]) البخاري في الأدب (594)، والبيهقي في الشعب (8568)، وحسنه الألباني (إرواء الغليل:1601).
([16]) البخاري (4993).
([17])سيرة ابن إسحاق (1/139)، الناشر: دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى 1398هـ - 1978م.
([18])أبو داود (3313)، والطبراني في الكبير (1341)، وصححه الألباني (مشكاة المصابيح: 3437).
([19])الترمذي (3247)، والنسائي في الكبرى (11400)، وصححه الألباني (صحيح أبي داود - الأم: 1329).
([20])مسلم (1978).
([21])ابن ماجه (3702)، وأحمد (13044)، وحسنه الألباني (الصحيحة:160).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم