عناصر الخطبة
1/ وسائل عملية لحفظ اللغة العربية (الاعتزاز باللغة العربية وغرس ذلك في نفوس الناشئة.. حفظ القرآن وتلاوته وتدارسه صيانة للغة العربية.. العناية بتعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات.. التحدث بالعربية في حياتنا اليومية.. تعريب العلوم الدنيوية، والوسائل الإعلامية). 2/ ثمار حفظ اللغة العربية وصيانتها على الفرد والأمة.اقتباس
وَنُشَاهِدُ اعْتِزَازَ وَافْتِخَارَ كُلِّ أُمَّةٍ بِلُغَتِهَا؛ فَيَفْتَخِرُ أَهْلُ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ بِالْإِنْجِلِيزِيَّةِ، وَأَهْلُ الْفَرَنْسِيَّةِ بِالْفَرَنْسِيَّةِ، وَأَهْلُ الْأَلْمَانِيَّةِ بِالْأَلْمَانِيَّةِ، وَمَا نَزَلَ بِإِحْدَاهُنَّ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ، وَلَا نَطَقَ بِهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا ارْتَبَطَتْ بِشَعَائِرِ دِينٍ وَعَقَائِدِهِ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَسَّ بِقِيمَةِ الشَّيْءِ وَمَدَى أَهَمِّيَّتِهِ؛ أَخَذَ بِكُلِّ سَبَبٍ مُمْكِنٍ لِحِمَايَتِهِ وَصِيَانَتِهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، خَاصَّةً إِنْ شَعَرَ بِأَنَّ عَدُوًّا يُرِيدُ أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِ وَيَنْتَزِعَهُ مِنْهُ... وَعَلَى مَدَى لِقَاءَاتٍ مَضَتْ أَدْرَكْنَا سَوِيًّا أَهَمِّيَّةَ لُغَتِنَا الْعَرَبِيَّةِ وَفَضَائِلَهَا وَخَصَائِصَهَا وَتَمَيُّزَهَا عَلَى سَائِرِ لُغَاتِ الدُّنْيَا، وَكَشَفْنَا كَمَّ الْحِقْدِ الَّذِي يَحْمِلُهُ أَعْدَاؤنَا تِجَاهَ لُغَتِنَا، وَكَيْفَ يَتَرَبَّصُونَ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ يُرِيدُونَ الْقَضَاءَ عَلَيْهَا.
وَإِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ؛ فَمِنْ أَوْجَبِ وَاجِبَاتِنَا: أَنْ نَسْتَفْرِغَ وُسْعَنَا فِي صِيَانَتِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ الْحِفَاظَ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ فِي حَقِيقَتِهِ حِفَاظٌ عَلَى مَا كُتِبَ بِهَا مِنَ الْقُرْآنِ كَلَامِ اللهِ، وَمِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَمِنَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَفِقْهٍ... وَمِنَ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالتَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ... وَمِنَ التُّرَاثِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ، لِذَا فَإِنَّنَا نَقُولُهَا فِي ثِقَةٍ: إِنَّ الْحِفَاظَ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ حِفَاظٌ عَلَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَجْمَعَ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ الْغَيُورَ عَلَى لُغَتِهِ لَيَتَسَاءَلُ قَائِلًا: وَكَيْفَ أَسْتَطِيعُ الْمُحَافَظَةَ عَلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؟ وَنُجِيبُهُ: إِنَّ وَسَائِلَ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ -وَالْحَمْدُ للهِ-، وَلَعَلَّ أَهَمَّهَا -فِي نَظَرِنَا- مَا يَلِي:
الْوَسِيلَةُ الْأُولَى: الِاعْتِزَازُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَغَرْسُ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ النَّاشِئَةِ: نَعْتَزُّ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُمَثِّلُ هُوِيَّتَنَا وَشِعَارَ دِينِنَا، وَلِأَنَّهَا تُعْلِنُ اسْتِقْلَالِيَّتِنَا عَنْ بَاقِي أُمَمِ الْأَرْضِ، وَلِأَنَّهَا لُغَةُ الْإِسْلَامِ كِتَابًا وَنَبِيًّا وَشَرَائِعَ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا وَفَخْرًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَإِنَّنَا لَنَرَى وَنُشَاهِدُ اعْتِزَازَ وَافْتِخَارَ كُلِّ أُمَّةٍ بِلُغَتِهَا؛ فَيَفْتَخِرُ أَهْلُ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ بِالْإِنْجِلِيزِيَّةِ، وَأَهْلُ الْفَرَنْسِيَّةِ بِالْفَرَنْسِيَّةِ، وَأَهْلُ الْأَلْمَانِيَّةِ بِالْأَلْمَانِيَّةِ، وَمَا نَزَلَ بِإِحْدَاهُنَّ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ، وَلَا نَطَقَ بِهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا ارْتَبَطَتْ بِشَعَائِرِ دِينٍ وَعَقَائِدِهِ؛ فَكَيْفَ لَا نَعْتَزُّ نَحْنُ بِلُغَتِنَا وَلَهَا مِنَ الشَّرَفِ مَا لَيْسَ لَهُنَّ؟!
وَالْوَاجِبُ أَنْ نَغْرِسَ ذَلِكَ الِاعْتِزَازَ فِي نُفُوسِ أَوْلَادِنَا مُنْذُ صِغَرِهِمْ، وَأَنْ نُقَوِّمَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى النُّطْقِ الصَّحِيحِ لَهَا، وَأَنْ نُخَاطِبَهُمْ بِهَا دَاخِلَ بُيُوتِنَا، وَأَنْ نُلَقِّنَهُمْ أَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ وَلُغَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهَا أَفْضَلُ اللُّغَاتِ وَأَسْمَاهَا وَأَشْرَفُهَا، وَهِيَ الَّتِي ارْتَضَاهَا اللهُ لِكَلِمَاتِهِ، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ نَعِيهِ: أَنَّ سَلَفَنَا كَانُوا يُؤَدِّبُونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى اللَّحْنِ، فَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَضْرِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَى اللَّحْنِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَقَدْ كَانَ يَضْرِبُ أَوْلَادَهُ عَلَى اللَّحْنِ، وَلَا يَضْرِبُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ.
وَمِنْهَا: حِفْظُ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ وَتَدَارُسُهُ صِيَانَةً لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: فَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى، وَأَهْلُ اللُّغَةِ قَدْ وَضَعُوا قَوَاعِدَ الصَّرْفَ وَالنَّحْوِ وَالْإِعْرَابِ عَلَى أَسَاسِ لُغَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَتَدَارُسُ الْقُرْآنِ وَلُغَتِهِ هُوَ الْوَسِيلَةُ الْأَنْجَحُ وَالْأَعْظَمُ أَثَرًا فِي حِفْظِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، الَّتِي لَوْلَاهُ مَا حُفِظَتْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، كَذَلِكَ فَاسْتِظْهَارُ الْقُرْآنِ فِي الصُّدُورِ هُوَ حِفْظٌ لِقَوَاعِدِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ الضُّلُوعِ.
وَمِنْهَا: الْعِنَايَةُ بِتَعْلِيمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْمَدَارِسِ وَالْجَامِعَاتِ؛ بِحَيْثُ تَكُونُ مَادَّةً أَسَاسِيَّةً تُؤَثِّرُ فِي مَجْمُوعِ دَرَجَاتِ الطُّلَّابِ، بَلْ وَمُحَاسَبَةُ الطَّلَبَةِ عَلَى الْأَخْطَاءِ اللُّغَوِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَادِّ الدِّرَاسِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللُّغَةَ مِنْ أَدَوَاتِ التَّعَلُّمِ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ الْأَدَاةَ فَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ! تَمَامًا كَالْجُنْدِيِّ إِذَا فَقَدَ السِّلَاحَ، أَوِ الطَّبِيبِ إِذَا نَسِيَ الطِّبَّ!
وَلَنَا فِي الْإِمَامِ الْكِسَائِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- الْقُدْوَةُ؛ فَقَدْ مَشَى يَوْمًا حَتَّى أَعْيَا، فَجَلَسَ وَقَالَ: "عَيِيتُ"، فَقِيلَ لَهُ: "لَحَنْتَ"، قَالَ: "كَيْفَ؟"، قِيلَ: إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ التَّعَبَ فَقُلْ: "أَعْيَيْتُ"، وَإِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ انْقِطَاعَ الْحِيلَةِ فَقُلْ: "عَيِيتُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَأَنِفَ مِنْ قَوْلِهِمْ: "لَحَنْتَ"، وَاشْتَغَلَ بِالنَّحْوِ حَتَّى مَهَرَ، وَصَارَ إِمَامَ وَقْتِه، وَكَانَ يُؤَدِّبُ الْأَمِينَ وَالْمَأْمُونَ.
وَهَذَا الْإِمَامُ الْأَصْمَعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ النَّحْوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَبَتَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"[متفق عليه]؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ وَلَحَنْتَ فِيهِ كَذَبْتَ عَلَيْهِ"؛ فَلْيَأْنَفِ الْعُقَلَاءُ وَالْفُطَنَاءُ مِنَ اللَّحْنِ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ، وَلْيُقْبِلُوا عَلَى تَعَلُّمِهَا كَمَا فَعَلَ الْكِسَائِيُّ، ثُمَّ لِيَعْتَبِرُوا بِتَحْذِيرِ الْأَصْمَعِيِّ.
وَمِنْهَا: التَّحَدُّثُ بِالْعَرَبِيَّةِ فِي حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّةِ: فَإِنَّ التَّعَلُّمَ النَّظَرِيَّ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّدْرِيبِ الدَّائِمِ، وَإِنَّكَ لَتَسْمَعُ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَامِّيَّةِ فِي طَلَاقَةٍ دُونَ تَلَعْثُمٍ وَلَا أَخْطَاءَ، وَمَا تَعَلَّمُوا لَهَا قَوَاعِدَ وَلَا عَرَفُوا لَهَا أُصُولًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بِهَا بِاسْتِمْرَارٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْعَرَبِيُّ فِي الْبَادِيَةِ يَتَحَدَّثُ الْفُصْحَى الْقَوِيمَةَ بِلَا لَحْنٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ قَوَاعِدُ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ أَصْلًا، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ؛ وَالسَّبَبُ أَنَّهُ نَشَأَ فَوَجَدَ النَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ بِالْفُصْحَى فَتَعَلَّمَهَا مِنْهُمْ.
وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَنْتَهِرُونَ مَنْ سَمِعُوهُ يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجُلَيْنِ يَتَرَاطَنَانِ (يَتَكَلَّمَانِ بِالْأَعْجَمِيَّةِ) فِي الطَّوَافِ، عَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: "لَا أُمَّ لَكُمَا، ابْتَغِيَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ سَبِيلًا"، وَهَذَا اللُّغَوِيُّ ابْنُ فَارِسٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: "وَقَدْ كَانَ النَّاسُ قَدِيمًا يَجْتَنِبُونَ اللَّحْنَ فِيمَا يَكْتُبُونَهُ أَوْ يَقْرَؤُونَهُ اجْتِنَابَهُمْ بَعْضَ الذُّنُوبِ".
وَمِنْهَا: تَعْرِيبُ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْوَسَائِلِ الْإِعْلَامِيَّةِ؛ فَلَا يَلِيقُ بِأُمَّةٍ لُغَتُهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ أَنْ تَسْتَبْدِلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَي بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ فَتُقْصِي اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ تَعَلُّمِ الطِّبِّ وَالْكِيمْيَاءِ وَالْفِيزِيَاءِ وَالْهَنْدَسَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تُعَرَّبَ هَذِهِ الْعُلُومُ؛ فَتُكْتَبَ وَتُقْرَأَ وَتُدْرَسَ وَتُدَرَّسَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ؛ فَلَوْ فَعَلْنَا زَادَتْ قِيمَةُ لُغَتِنَا وَمَكَانَتُهَا، لَيْسَ فَقَطْ عِنْدَ أَبْنَائِنَا، بَلْ أَيْضًا عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْعَرَبِ؛ إِذِ اضْطَرُّوا إِلَى تَعَلُّمِ مَا زِدْنَاهُ وَابْتَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ.
وَمَا قُلْنَاهُ عَنِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ، نَقُولُهُ أَيْضًا عَنِ الْوَسَائِلِ الْإِعْلَامِيَّةِ الَّتِي جُلُّ مَا فِيهَا بِاللَّهْجَاتِ الْعَامِّيَّةِ؛ فَلَوِ اسْتَطَعْنَا إِقَامَةَ أَلْسِنَةِ الْإِعْلَامِيِّينَ وَإِلْزَامَهُمُ التَّحَدُّثَ بِالْفُصْحَى فَقَدْ قَدَّمْنَا خِدْمَةً جَلِيلَةً لِلُغَتِنَا؛ إِذْ إِنَّ وَسَائِلَ الْإِعْلَامِ تَسَلَّلَتِ الْيَوْمَ إِلَى كُلِّ بَيْتٍ بِمُخْتَلَفِ الصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، فَلَمْ يَعُدْ يَخْلُو مِنْهَا مَكَانٌ؛ فَلَوِ اسْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى نَشْرَةِ الْأَخْبَارِ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَكَذَا الْبَرَامِجُ الْمُفِيدَةُ بِفُصْحَى تَخْلُو مِنَ اللَّحْنِ؛ لَتَعَوَّدَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى النُّطْقِ الصَّحِيحِ بِهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّنَا إِنْ حَافَظْنَا عَلَى لُغَتِنَا الْعَرَبِيَّةِ عَادَ ذَلِكَ بِالنَّفْعِ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كُلِّهَا، أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعَاتٍ، وَنَسْتَطِيعُ تَلْخِيصَ تِلْكَ الْمَنَافِعِ فِي النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلًا: الْعِصْمَةُ مِنَ الزَّلَلِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ؛ "وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ عَنِ الْقَصْدِ فِيهَا، وَحَادَ عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى إِلَيْهَا، فَإِنَّمَا اسْتَهْوَاهُ وَاسْتَخَفَّهُ: ضَعْفُهُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الْكَرِيمَةِ الشَّرِيفَةِ"، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الصَّحَابَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَيُخَاطِبُهُمْ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَادَتَهُمْ فِي الْكَلَامِ، حَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ..."؛ فَلَوِ اسْتَقَامَ النَّاسُ عَلَى قَوَاعِدِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَاحْتَكَمُوا إِلَيْهَا فِي فَهْمِ النُّصُوصِ لَقَلَّ الِاخْتِلَافُ وَالتَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ.
ثَانِيًا: صِيَانَةُ هُوِيَّةِ الْأُمَّةِ مِنَ التَّمَيُّعِ وَالذَّوَبَانِ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَيْفَ أَنَّ صِيَانَةَ اللُّغَةِ صِيَانَةٌ لِهُوِيَّةِ الْأُمَّةِ؛ بِحَيْثُ تَسْتَطِيعُ الِاتِّصَالَ بِتُرَاثِهَا الْإِسْلَامِيِّ وَلَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ، وَتَفْهَمُ الْخِطَابَ الرَّبَّانِيَّ وَالنَّبَوِيَّ، وَتَنْتَمِي قَلْبًا وَقَالَبًا إِلَى أُمَّتِهَا وَحَضَارَتِهَا وَسُؤْدُدِهَا، وَلَا تَلْتَفِتُ أَوْ تَتَلَطَّخُ بِغَيْرِهِ مِنْ خَبَالَاتِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى.
ثَالِثًا: اسْتِعَادَةُ هَيْبَةِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ بَيْنَ دُوَلِ الْعَالَمِ: فَإِنَّ الْوَاقِعَ الْمُعَاشَ يُؤَكِّدُ أَنَّ هَيْبَةَ الْأُمَّةِ مِنْ هَيْبَةِ لُغَتِهَا؛ لِذَا تَجِدُ الْأُمَّةَ الْقَوِيَّةَ وَقَدِ انْتَشَرَتْ لُغَتُهَا، وَحَرَصَتْ أُمَمُ الْأَرْضِ عَلَى تَعَلُّمِهَا، وَتَفَاخَرَتْ بِالتَّحَدُّثِ بِهَا.
رَابِعًا: التَّفَوُّقُ وَالتَّقَدُّمُ فِي الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ: فَإِنَّ مِنَ الْعَقَبَاتِ الَّتِي تَقِفُ فِي سَبِيلِ تَفَوُّقِ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْعُلُومِ هِيَ عَقَبَةُ اللُّغَةِ، فَلَوْ عُرِّبَتْ تِلْكَ الْعُلُومُ لَظَهَرَ فِيهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُسْلِمِينَ نَوَابِغُ وَعَبَاقِرَةُ.
وَخِتَامًا: -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- إِنَّنَا لَنُوقِنُ تَمَامَ الْيَقِينِ أَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ مَحْفُوظَةٌ بِحِفْظِ اللهِ -تَعَالَى- لَهَا؛ حِينَ تَكَفَّلَ -سُبْحَانَهُ- بِحِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ فَمِنْ تَمَامِ حِفْظِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- لِكِتَابِهِ الْكَرِيمِ أَنْ يَحْفَظَ اللُّغَةَ الَّتِي نَزَلَ بِهَا، وَذَلِكَ حِينَ قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)[الزمر: 28].
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ وَاجِبٌ، وَتَرْكَهَا تَقْصِيرٌ وَمَعْصِيَةٌ؛ فَمَعَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَادَاهُمْ دُونَ أَنْ تُرَاقَ قَطْرَةُ دَمٍ وَاحِدَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ، لَكِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْجِهَادَ؛ لِيَبْتَلِيَنَا، وَلِيَأْجُرَنَا عَلَى قِيَامِنَا بِالْأَسْبَابِ خَيْرَ قِيَامٍ.
فَمَنْ قَامَ بِوَاجِبِهِ خَيْرَ قِيَامٍ أُتِيَ أَبْيَضَ الْوَجْهِ، مُشْرِقَ الْمُحَيَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَهُ أَجْرُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ-؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ"[رواه ابن حبان]... وَمَنْ قَصَّرَ وَفَرَّطَ وَتَخَاذَلَ وَتَوَانَى عَنْ نُصْرَةِ لُغَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَتَى مُسْوَدَّ الْوَجْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، ثُمَّ نَالَ جَزَاءَ الْمُفَرِّطِينَ.
فَاللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الْحِفَاظِ عَلَى لُغَةِ كِتَابِكَ، وَقَوِّمْ أَلْسِنَتَنَا عِنْدَ النُّطْقِ بِهَا، وَهَبْنَا فَصَاحَةً وَبَيانًا، وَجَنِّبْنَا الْخَطَأَ وَالزَّلَلَ وَاللَّحْنَ، وَرُدَّنَا إِلَى دِينِنَا رَدًّا جَمِيلًا...
وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ، عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم