عناصر الخطبة
1/دروس مهمة من رحيل شهر رمضان 2/مواعظ شهر رمضان 3/ثمرات اليقين باليوم الآخر 4/فوائد تذكر الآخرة 5/الزجر والتخويف بيوم الوعيد 6/رسائل إلى المرأة المسلمة.اقتباس
إن الذي يعيش غافلاً عن الآخرة يعيش في عذاب نفسي, لا أمل له ولا عِوَض عما يلقاه في الحياة الدنيا.. إنَّه ليس شيء يدفع للبذل والعطاء, مثل تذكُّر ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبًا.. أو لم يكف ذلك اليوم هولاً أن الشمس فيه تُكوَّر, والنجوم تنكدر, والبحار تُسَعَّر, والجبال تُسَيَّر, والعشار تُعَطَّل, والوحوش تُحْشَر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير؛ أحمده –سبحانه- وهو للحمد أهلٌ، وهو الحقيق بالمنَّة والفضل، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدَى، وأخرج المرعى، نِعَمُه تَتْرَى، وفضله لا يُحْصَى، لا مُعْطِي لما منَع، ولا مانع لما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض، ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخشى الناس لربه وأتقاهم لمولاه، وأكثرهم له استغفارًا وذكرًا، وأصدقهم شكرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذل وكبره تكبيرًا.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
ثم أما بعد: يا معشر المسلمين والمسلمات! اتقوا الله حق تقاته، واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين، واتقوا يومًا تُرْجَعُونَ فيه إلى الله، ثم تُوَفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظْلَمُونَ.
وهكذا ودَّعَت الأمة شهر الصيام والقيام، وخاضت غمار معركة مع الشهوات انتهت بأقوام إلى درجات القبول والغفران، وأوصلتهم باب الريان، وبلَّغتهم الفوز والرضوان، فمن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، وخرج منها قومٌ ما زادهم رمضان إلا قسوةً وإعراضًا، فاستحقوا دعوة الروح الأمين بتأمين سيد المرسلين "رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يُغْفَر له".
رحل رمضان بعد أن علَّمنا أن الآخرة هي خير وأبقى، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
خرج رمضان بعد أن علَّمتنا مواعظه أن القلب الذي لا يحركه الوعد والوعيد الأخروي هو قلب كالحجارة أو أشد قسوة، وأن الذين لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياته غافلون؛ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون.
علَّمتنا مواعظ رمضان أنه لا يحرِّك النفوس للعمل ولا يردعها عن الخلل إلا تذكُّرها يومًا عبوسًا قمطريرًا؛ حيث هناك يفرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبَنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
إنَّ النفوس المؤمنة التي ربَّاها الصيام والقيام تجعل ذلك اليوم الشديد نُصْب عينيها كلما فعلت أو تركت، وكلما والت أو عادت، وكلما أحبَّت أو كرهت، بل وتجعله نُصْبَ عينيها كلما نَوَت وهمت.
إنَّ كل تهديد للعصاة والمجرمين، وكل نذير للطغاة والمفسدين سيظل قاصرًا حتى يقترن به التذكير بيوم الحسرة ومشهد يوم عظيم.
كل العقوبات الإلهية الدنيوية مهما عظُمت، واشتد ألمها، وكبرت آثارها ستكون جنَّة إذا قُرِنَتْ بأهوال القبور، وشدائد يوم مقداره خمسون ألف سنة، وفيه تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل، وفيه يردد الأنبياء مع جلالة قدرهم: "اللهم سلِّم سلِّم"، وفيه تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنَّ عذاب الله شديد.
إنه اليوم الشديد، الذي أسهَر ليل المتقين، وأظمأ نهارهم؛ يخافون يومًا يجعل الولدان شيبًا،
إنه اليوم الذي حمل همَّه عُمَّار المساجد فهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكْر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار.
إنه اليوم الذي يشتغل له الأبرار المتقون فهم يُوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شرّه مستطيرًا، ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، وغايتهم (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)[الإنسان: 9- 10]؛ فجاءت النتيجة (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الإنسان: 11- 12].
إنه اليوم الذي ما تذكره عاقل إلا وكان له رادعًا وزاجرًا عن كل خطيئة، فإذا ما سوَّلت له نفسه أن يعصي الله تذكَّر وقوفه بين يدي خالقه، وقال: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الأنعام: 10].
الإيمان بالآخرة: حاجز دون الصراع المحموم الذي تُدَاس فيه القِيَم والحرمات بلا تحرُّج ولا حياء. الإيمان بالآخرة: ضمان ليقظة القلب وتطلعه إلى ما عند الله.
الله أكبر، الله أكبر..
يا معشر الصائمين والصائمات: إن الإيمان باليوم العظيم؛ يوم يقوم الناس لرب العالمين، والاستعداد له؛ هو الذي يولِّد عند المؤمن الخوف من ذلك المقام بين يدي الله –تعالى- فيبتعد عن كل ما يغضبه، ويفعل كل ما يطلبه.
إن الذي يعيش غافلاً عن الآخرة يعيش في عذاب نفسي, لا أمل له ولا عِوَض عما يلقاه في الحياة الدنيا..
إنَّه ليس شيء يدفع للبذل والعطاء, مثل تذكُّر ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبًا.. أو لم يكف ذلك اليوم هولاً أن الشمس فيه تُكوَّر, والنجوم تنكدر, والبحار تُسَعَّر, والجبال تُسَيَّر, والعشار تُعَطَّل, والوحوش تُحْشَر، و(تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 2]؟!
أو ليس كافيًا في شدَّته أنه يوم تنشغل فيه كل نفس بأمرها, ولا تتلفت إلى ما سواها (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[النحل: 111].
التَّبِعَة في ذلك اليوم فردية, (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم: 93- 95].
يقطع هولُ ذلك اليوم أواصر الرحم والنسب، ويشغل الوالد عن الولد.. إنه يوم الفصل لا يوم الاعتذار (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)[المرسلات: 35- 36], في ذلك اليوم لا ترى إلا الصمت الرهيب, والكبت الرعيب، والخشوع المهيب, لا ترى إلا البكاء والعويل, والأمنيات والتوسلات؛ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون: 99- 100], وما أكثر من يقول: (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الزمر: 58].
إنه يوم يظهر فيه الخزي والاعتراف, بالخطايا والإجحاف, (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)[السجدة: 12].
ما أعظمه من يوم! يتولى فيه الرب -جل جلاله- الحكم والفصل, والملائكة تقف صفًّا صفًّا, ثم يُجاء بجهنم فتقف متأهبة لمن سيلقى فيها..
إنه يوم الآمال والأماني الضائعة (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[الأعراف: 53] !!
يا حسرة على العباد! تتاح لهم فرص النجاة فيُعرِضُون عنها، وتُفتح لهم أبواب الرحمة فيتنكَّبُون سبيلها, وهو يناديهم برحمته ولطفه: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)[الشورى: 47].
ما أعظم ذلك اليوم! (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً)[المزمل: 14], (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)[المزمل: 17].
ما أعظمه من يوم ترى فيه الأنبياء -على جلالة قدرهم ومنزلتهم- شعارُهم: «ربِّ سَلِّمْ سَلِّمْ».
ما أعظمه من يوم تقع فيه الواقعة: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ)[الواقعة: 2-3]؛ تخفض أقدارًا كانت في الدنيا رفيعة، وترفع أقدارًا كانت خفيضة، تختل الاعتبارات والقيم, ثم تستقيم في ميزان الله العدل الحكم.
إنه يوم عسير, (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)[المدثر: 10]؛ حيث تنشر فيه صحف الأعمال, فكم من سوءة مستورة في الدنيا يخجل صاحبها من ذِكْرها. فإذا هي في ذلك اليوم منشورة مشهودة..
فاستدفعوا -عباد الله- هول ذلك اليوم بأعمال صالحة, وعبادات صادقة, تظلكم في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله..
تذكروا إذا أوذيتم وعُوديتم أن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون؛ (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم: 42].
حينما نضعف أمام الشهوات، ونتراخى عن العبادات, فليس من رادع ينفع أو وازع يدفع, أعظم من تذكُّر يوم الدين, فإنه المحرك الكبير.
لن تلين قلوبنا القاسية, ولن تقبل نفوسنا المعرضة, إلا إذا جعلنا الآخرة أكبر همّنا ومنتهى تفكيرنا.
الله أكبر، الله أكبر.
يا معشر المؤمنين بالله واليوم الآخر: لن يحجزكم عن الذنوب ويقرِّبكم من علام الغيوب إلا تذكر يوم لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ)[البقرة: 232]، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم ضيفه.. فليصل رحمه .. فليقل خيرًا أو ليصمت"، و"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم"، ومن لم تردعه شدائد القيامة وأهوالها فلن تملك له من الله شيئًا، وأولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم.
يا معشر الوالغين في مستنقع الشهوات، الغارقين في بحور الشبهات: اعملوا ما شئتم وتمتعوا بالشهوات قليلاً؛ فإن من ورائكم يومًا عبوسًا قمطريرًا، وإن من ورائكم وقوفًا بين يدي رب العالمين؛ يوم يقوم الناس لرب العالمين.
يا من إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وإذا رأوا مطايا الذنوب ركبوها.. وإذا غفل الرقيب ارتكبوها, هَبُوا أنه قد غابت الهيئات وغفلت السلطات. ألا تظنون أنكم مبعوثون ليوم عظيم؛ يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أيها الوالغون في دماء المسلمين.. أيها المتساهلون في التخريب والقتل وإرهاب المؤمنين.. أيها المتعلقون بأدنى الشبه.. أيها المسلمون عقولهم لسفهاء الأحلام ورموز البغي والإجرام .. إذا لم تردعكم فضيحة الدنيا وعقوبات الشريعة أفلا يردعكم هول يوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وماذا تفعلون بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! وأي بركة ترتجونها أو شهادة تنشدونها وقد سلم منكم أعداء الدين ولم يسلم منك المسلمون وديار المسلمين؟!
يا من يسمع نداء الله يجلجل في أذنيه مناديًا "حي على الصلاة" فلا يجيب النداء ولا يخاف من رب الأرض والسماء.. إن لم تتب إلى ربك فستعلم عاقبة هَجْرك (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)[القلم: 42- 43].
يا دعاة التغريب والعلمنة ويا رعاة الشهوات: ربما كسبتم معركة المبادئ والأخلاق ومالت الأمة يسبب دعواتكم ميلاً عظيمًا، لكن تأكدوا أن خطواتكم ستكون عليكم حسرة ثم تُغلبون ويوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا وما لكم من ناصرين.
قل للطغاة والمتجبرين والظلمة والمتكبرين: كلوا وتمتعوا قليلاً، في جنات وعيون وكنوز ومقام كريم، فسوف تعلمون حين يقوم الناس لرب العالمين من تكون له عاقبة الدار، وسوف ترون أن غَمْسَة في النار ستُنْسِيكم كل ماكنتم فيه من تَرَف ونعيم، وسوف تجنون علقم ظلمكم يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، فكن واثقًا أيها المظلوم أن يوم القيام لرب العالمين هو عيد المظلومين ومأتم الظالمين؛ حيث ليس لهم من شفيع ولا صديق حميم.
إن الإيمان بيوم الحساب يؤدِّي دوره الأساس في إفاضة الأمن على روح المؤمن، ونفي القلق والسخط عنه. إن الجزاء الأكبر ليس في هذه الأرض، بل هنالك في الدار الآخرة، حيث العدالة التامة المطلقة, (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47].
إنَّ التخويف بالآخرة, لا يعني أن يعيش الناس فَزِعين قَلِقين, يرتجفون من الشدائد والأهوال، فالفزع الدائم من المجهول قد يشلّ طاقة البشر ويبدِّدها، فالله -جل جلاله- يريد من خلقه اليقظة والإيمان والتقوى, والإحساس ومراقبة النفس, وعدم الاغترار بزينة الدنيا ورخاء الحياة.
إن تذكُّر الآخرة والاستعداد لها, يعني التوبة والرجوع إلى الله, والتسابق إلى الخيرات والمنافسة على الجنات. إنَّ الأبرار يطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، ودافعهم أنهم يخافون (يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا)[الإنسان: 7].
يا ابن آدم: تخفَّف، فإن ظهرك والله لا يطيق كل الذي تحمله من ظلم هذا, وأكل مال هذا أو شتم هذا.. فلن تنفعك يومَ الحساب عباراتُ الندم والتحسُّر والتمني والرجاء, (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون: 99- 100]؛ فكِّر ثم فكِّر ثم فكِّر, قبل أن تندم على كل لحظة لم تجعلها في طاعة الله.. فلن يذهب معك إلا عملك الصالح.
لقد بنيت دارًا فما حملت معك منها حجرًا، واقتنيت مالاً فلم تأخذ منه معك شيئًا, وعرفت اللذائذ كلها فما الذي بقي في يدك حين الموت منها؟!
لقد بدَّلت ساعة الموت المقاييس كلها.
إن المسلم الحق لا تغره الحياة فيكون اطمئنانه بها، وليس هو بالشارد عن الحياة, بل يدرك أن الدنيا معبر وطريق، وأنها مزرعة للآخرة، فيعمرها بطاعة الله، ويسيرها كما يحب الله, يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا, ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. فَاللهَ اللهَ فِي السَّرَائِرِ، فَإِنَّهُ مَا يَنْفَعُ مَعَ فَسَادِهَا صَلاحٌ ظَاهِرٌ, فجاهدوا أنفسَكم جميعًا على هذه المعاني، وستجدون غبها نعيمًا وسرورًا, (وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المحْسِنِين)[العنكبوت: 69].
الله أكبر، الله أكبر..
أقول هذا القول ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
وتأسيًا بهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنقل الحديث للأخوات المسلمات شقائق الرجال في الخطاب والحقوق والواجبات.
لن أتقن يا أختي المسلمات بذكر صفاتك، ولن أجاري المتحدثين بذكر مكانتك في دين الله، وأثرك على الأمة صلاحًا أو فسادًا.
يكفيك فخرًا أنك أمة لله الذي خلقك فسواك فعدلك، وأي شرف أعظم من العبودية لله والتذلل له، والاستسلام لأمره، والانقياد لشريعته.
يا أمة الله: حينما تضعفين أمام دعاة الشهوات، وتنخدعين ببريق دعواتهم المضللة وتتحرري من عبودية الخالق لتسقطي في عبودية المخلوق.. حينها لن أخوفك فضيحة الدنيا، ولن أنذرك عقوبة الله العاجلة في الدنيا لكنني سأخوفك يومًا عظيمًا يقوم فيه الناس لرب العالمين، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
البسي من الأزياء ما شئت، وارتدي من العباءات ضيقها وقصيرها، واكشفي عما بدا لك من زينتك، ولكن قبل أن تفعلي تذكري "صنفان من أهل النار لم أرهما ... ومنهم: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها".
أسلمي عقلك وهواك إلى دعاة التغريب، وليحققوا من خلالك أهدافهم الدنيئة، ولكن تذكري؛ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)[البقرة: 166].
يا أمة الله: إنَّ الدموع التي سُكِبَتْ في رمضان، وإنَّ البكاء الذي تزيَّنت به المساجد في رمضان، وإنَّ الصيام والقيام، وإنَّ قلبك الذي يفيض بحب الله والشوق إليه والخوف من لقائه.. كل ذلك يدفعنا إلى أن نقول: مُوتُوا بغيظكم يا دعاة الضلال، فإن قلبًا جعل الآخرة همّه، وإن قلبًا تذكر يوم يقوم الناس لرب العالمين ما يكون له أن ينخدع بزيف باطلكم، وما يكون له أن يستسلم لعلقم شبهاتكم، وما يكون له أن ينحرف عن صراط الله المستقيم، وهو يُوقِن أنه يومًا ما سيقف بين يدي رب العالمين في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا مَن أتَى الله بقلب سليم.
وبعد يا أيها المسلمون والمسلمات: لا تكونوا ممن يحبُّون العاجلة، ويذرون وراءهم يومًا ثقيلاً، ولا تكونوا ممن رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم غافلون، وتذكروا وعيد الله؛ (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 29].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، واجعلنا ممن كانت الآخرة همّه، والجنة هدفه، ورضاك غايته، وارزقنا الاستعداد لما أمامنا.
الله أكبر، الله أكبر..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم