عناصر الخطبة
1/قصة إبراهيم ودروس في الاستسلام لأمر الله 2/إبراهيم وإسماعيل ودروس في تربية الأبناء 3/من سنن وآداب العيد 4/من أحكام الأضاحياقتباس
يورثنا هذا الموقف غاية من الحياء والخجل، حين نتذكر ضعفنا أمام أبناءنا في أمور بسيطة سهلة بل سخيفة؛ في قصة شعر، أو سروال ممزق، أو لباس متبرج، أو سماع لغناء، أو سفر لمنكر، أو تضييع لصلاة، أو لهف على ألعاب إلكترونية مدمّرة لدنياهم قبل دينهم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر، عدد ما أحرم الحجاج من الميقات، وعدد ما رفعوا بالتلبية لله الأصوات. الله أكبر، عدد ما طافوا بالبيت العتيق، وعظموا الحرمات. الله أكبر، عدد ما أراقوا من الدماء وحلقوا من الرؤوس تعظيما لفاطر الأرض والسماوات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
نحمده على ما من به علينا من مواسم الخيرات، وما تفضل به من جزيل العطايا والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسبغ النعم، ودافع النقم، وفارج الكربات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخلق، وأفضل البريات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما دامت الأرض والسماوات.
عباد الله: شيخٌ كبير بلغ من الكبر عِتيا، يعيش حياته من غير ولد، ثم يدركه الله برحمته فيرزقه ابنا فتيّا، فلا يزال يكبر حتى صار شابّا عند ربّه مرضيّا، فإذا بالشيخ يرى فلذة كبده على مشارف الموت، وهو المتسبب في موته، كم كانت فرحته حين رزق به! وكم سيكون حزنه إن هو فجع فيه! أمّا الشيخ فهو أبو الأنبياء إبراهيم، وأمّا الفتى فهو أبو العرب إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-.
الله أكبر، الله كبر، الله أكبر كبيرا.
خرج إبراهيم -عليه السلام- مهاجرا من وطنه، مفارقا لقومه؛ (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الصافات: 99]، فلما أحس بألم الوحدة ومرارة الغربة، رفع أكفّ الضراعة وقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصافات: 100]، إنها قلوب تؤمن بالله حقا، وتثق في الله صدقا، لم يستبعد أن يكون له ولدٌ مع أنّه في السن كبير، وذو زوج عقيم.
قف مع قوله: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصافات: 100]، وتعلّم أنْ ليس المهم أن ترزق الولد؛ بل الأهم أن تُرزقَه صالحا، وها هو إبراهيم يعلمنا أن اللجوء لله بالدعاء بلسان صادق، وقلب واثق، أحد أهم أسباب صلاح الأولاد، حينها تأتي الإجابة سراعا: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)[الصافات: 101]، هو إسماعيل -عليه السلام-.
فالله أكبر، الله كبر، الله أكبر كبيرا.
أخذ هذا الولدُ شعبةً من قلْب إبراهيم -عليه السلام-، فغار الله -سبحانه وتعالى- أن يكونَ فيه مكانٌ لغيرِه، فامتحَنَه بذَبْحه وبنفسه، لا يوكل أحدا في ذبحه؛ ليبقى قلب عبده سليما من التعلق بغيره، وليظهرَ أنّ سرَّ الخَلّة التي نالها إبراهيم -عليه السلام- هي تقدِيم محبّةَ الله على محبَّةِ ولدِه، فبقدر ما يمتلأ قلبك محبة لله وتعلقا به بقدر ما تعظم مكانتك عنده -سبحانه-.
فالله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا.
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)[الصافات: 102]، شبّ وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل، وبلغ سنا يكون -في الغالب- أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، حينها قال إبراهيم: (قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102]، مع أنّ إبراهيم منفّذٌ أمر ربّه لا محالة، ولكنّ ذلك لم يمنعه أن يعرض الأمر على ابنه؛ ليرضخ للأمر طاعة واستسلاما، لا قهرا واضطرارا، ولُيعلمنا مبدأ عظيما من مبادئ التربية، وأسلوبا راقيا من أساليب التعامل مع الأبناء، هو لغة الحوار والإقناع والرفق، فما أكثر ما يكون الابن مقتنعا بخطئه ولكن يعاند ويصرّ، لا لشيء إلا لأجل الطريقة التي سلكها والداه في التعامل معه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه".
ما كان ينبغي لإسماعيل بعد رقي تعامل أبيه معه، وبعد علمه أنّ أمر أبيه إنّما هو أمر من ربّ العالمين، لم يتردد في إرضاء الله وإرضاء والده؛ (قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)[الصافات: 102]، (يَاأَبَتِ) ليست كلمة عابرة، فما أكثر من يرددها أو يردد مثلها؛ بل هي كلمة تحمل في طياتها كلّ معانيَ البّر والاحترام، الذي ينبغي أن يتوجه به الأبناء للآباء؛ لذلك قال بعدها: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ).
فانظروا -أيها الأبناء- كيف يستسلم إسماعيل لربه -عز وجل-، ويستسلم لوالده فيطيعه في أمر جلل، ولا يعترض عليه، هكذا ينبغي عليكم أن تكونوا مع آبائكم فيما يأمرونكم به من المعروف والخير، عليكم أن تصبروا على طاعتهم ولو في أمر تكرهونه وتستثقلونه، ما دام ليست معصية لله -تعالى-، تماما كما صبر إسماعيل فقال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102]، وتذكروا دائما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما".
الله أكبر، الله كبر، الله أكبر كبيرا.
أسلم الولد لأبيه، وأسلم الوالد لربه؛ (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)[الصافات: 103] ألقاه عَلَى عُنُقِهِ وَخَدِّهِ، وَجَعَلَ أَحَدَ جَانِبَيْ جَبْهَتِهِ عَلَى الْأَرْضِ لِيَذْبَحَهُ، وَقَبَضَ عَلَى مِقْبَضِ سِكِّينِهِ لِيُنَفِّذَ الْأَمْرَ الرَّبَّانِيَّ، في غاية من الاستسلام والانقياد في تنفيد هذا المطلب الجلل، يورثنا هذا الموقف غاية من الحياء والخجل، حين نتذكر ضعفنا أمام أبناءنا في أمور بسيطة سهلة بل سخيفة؛ في قصة شعر، أو سروال ممزق، أو لباس متبرج، أو سماع لغناء، أو سفر لمنكر، أو تضييع لصلاة، أو لهف على ألعاب إلكترونية مدمّرة لدنياهم قبل دينهم، كيف لو أمرنا ربنا بنحو مما أمر ربه إبراهيم -عليه السلام-؟ هي الحقيقة لابد من مراجعة منهجيتنا في التربية من جذورها.
الله أكبر، الله كبر، الله أكبر كبيرا.
بعد ذلك المشهد العظيم من الانقياد والذل لله -تعالى- تأتي الرفع لأصحابه بنداء من السماء: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ)[الصافات: 104 - 106]، فإحسانك في امتثال الأمر، واجتيازك لهذا الاختبار الواضح الجلي تستحق عليه جزاء من الله عظيما؛ (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60]، أما الجزاء الأول: ففي قوله: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 107]، بذبح عظيم ذبحه إبراهيم، كان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة.
أما الجزاء الثاني: ففي قوله -تعالى-: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)[الصافات: 109 - 111]، إنها بشارة لكل من انتهج نهج الأنبياء عموما، ونهج إبراهيم وإسماعيل خصوصا، فتعلق قلبه بالله محبة ولم يتعلق بغيره، فإن أحب غيره فإنما يحبه محبة تابعة لمحبة الله، مقربة لله، إنها بشارة لكل من استسلم الله أمرا ونهيا في شؤونه كلها، وفي شأن والديه وأبنائه خصوصا أنّ له سلاما من الله -تعالى- كما كان لإبراهيم -عليه السلام-، لم يحدد نوع السلام ليشمل كل سلام من كل سوء وشر، في دينك ودنياك وآخرتك.
أما الجزاء الثالث: ففي قوله -تعالى-: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)[الصافات: 112، 113]، فبعد أن كان إبراهيم على مشارف أن يفقد فلذة كبده، فها هو رب العالمين يزيد من فضله فيبشره بولد آخر وهو إسحاق -عليه السلام-، وهو ابن آخر ليس ولدا عاديا، بل رسولا نبيا، وجعل في ذريتهما الأنبياء، فمن إسحاق يعقوب ويوسف، ومن إسماعيل محمد -صلى الله عليه وسلم-، هو كرم الله -سبحانه- إذا أعطى أدهش، فقط ثق في الله، ثق في شرعه، ثق في أمره ونهيه، فلن تعدم خيرا، ولن تجد إلا ما يسرّك؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3].
فالله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا.
الخطبة الثانية:
عباد الله: هذا عيدكم عيد الأضحى، وحق العيد أن يفرح فيه، فأظهروا الفرح فيه فإظهار السرور من شعار الدين، املؤوا أوقاتكم تكبيرا بالقلوب وبالألسنة، وخصوا أدبار الصلاة بمزيد عناية من التكبير أيام التشريق، وشاركوا المكبرين ولا تكونوا من الغافلين، ومن كان منكم مضحيا فليقتد بسنة نبيه، فلا يأكل شيئا حتى يأكل من أضحيته، فإذا ذبحتم أضاحيكم فلا تنسوا ذكر ربكم وتكبيره، ولا بأس أن تدخل من تشاء من العباد وتشركه معك في أجر أضحيتك.
وأنت تذبح أضحيتك اذبح متقربا لله -تعالى-، فالذبح في حد ذاته عبادة لله -تعالى-، وهي المقصد الأول من الأضحية والصدقة من اللحم تبعٌ، صحح نيتك ولا تذبح لمجرد إفراح الأبناء والأهل، لا تذبح لأجل أن لا تظهر مُعدما أو بخيلا، واحرص على أن تحسن الذبحة، فأحد شفرتك، وإذا احتجت لإحداد شفرتك فلا تحدها أمام أضحيتك، ولا تذبح شاة أمام أختها، وحلق الشعر وقص الأظافر ليس مانعا من أن تكون ذابحا، فإذا أتممت ذبحك فلا تعطين من لحمها للذابح أجرة، ويجوز لك أن تعطيه منها هدية والله يعلم ما في الصدور.
ثم كلوا من أضاحيكم واهدوا منها لإخوانكم أو جيرانكم أو قرابتكم، واجعلوا نصيبا منها للفقراء والمحتاجين الذين لم يُكتب لهم أن يكونوا مضحين، ابحثوا عنهم فإن منهم المتعففين الذين لا يُظهرون للناس حاجاتهم وفاقتهم.
عباد الله: دينكم دين النظافة والطهارة، فلا تدعوا أوساخا في المحال التي ذبحتم فيها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "طَهِّرُوا أَفْنِيَتَكُمْ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ لَا تُطَهِّرُ أَفْنِيَتَهَا"، وأهم من تنظيف الأفنية تنظيف القلوب من الشرك والريّاء، وتنظيفها من الحسد والبغضاء، تصافحوا بقلوبكم ولا تهاجروا، وتعانقوا بأفئدتكم ولا تدابروا، وقوا أنفسكم من أسباب انتشار الوباء بينكم، واحترزوا صونا لأنفسكم وأهليكم وكبار السن والمرضى منكم، عافانا الله وإياكم من كل بلاء ووباء.
اللَّهُمَّ إنا نسألك الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِنا وَدُنْيَانا وَأَهْلِينا وَأمَوالنا، اللَّهُمَّ استُرْ عَوْرَاتنا، وآمِنْ رَوْعَاتنا، اللَّهمَّ احْفَظْنِا مِنْ بَينِ أيديناَ، ومِنْ خَلْفنا، وَعن أيماننا، وعن شِمائلنا، ومِن فَوْقنا، ونعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ نغْتَالَ مِنْ تَحتنا، الله اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم مواتنا، وفك أسرانا، وآتنا في الدنا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وتقبل الله صيامكم وأعمالكم، تقبل الله ذكركم وقرآنكم، تقبل الله أضاحيكم وصدقاتكم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم