اقتباس
ترقى البلاغة النبوية إلى أعلى مدارج الكمال البشري، في حسن التأتي للمعاني بأدق ما يمكن أن تؤديه المفردات والجمل من دلالات ومعان تقع في النفوس موقعاً بالغاً من التأثير ما لا تنقضي عجائبه ولا يذهب بروائه ورونقه تقادم العهد وكثرة الترداد
في بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم
ترقى البلاغة النبوية إلى أعلى مدارج الكمال البشري، في حسن التأتي للمعاني بأدق ما يمكن أن تؤديه المفردات والجمل من دلالات ومعان تقع في النفوس موقعاً بالغاً من التأثير ما لا تنقضي عجائبه ولا يذهب بروائه ورونقه تقادم العهد وكثرة الترداد:
وإذا كان من شأن العرب أن يتكلفوا القول صناعة، يحسنها خطيبهم وحكيمهم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم - وقد صنعه الله على عينه - يرسل الحديث سليقة وإلهاماً، سليماً مما يعتري كلام الناس من خلل أو اضطراب، أو بعتور محدثهم من عيّ أو حصر (1).
والجاحظ خير من وصف بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "وهو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف،واستعمل المبسوط في مواضع البسط ،والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، وهو الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام" (2).
ولا غرو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نشأ في أفصح القبائل، إذ كان مولده في بني هاشم، وأخواله من بني زهرة ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، لذا قال عليه الصلاة والسلام: (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر) (3).
وحين تهيئه العناية الربانية للاضطلاع بأعظم ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل من رسالات، وفي قوم لهم في ميدان البلاغة والفصاحة القدح المعلى، فلابد أن يكون النبي المرسل إليهم أفضلهم بياناً وأقدرهم على التصرف في فنون القول، وأبعدهم عن عيوب الكلام زللاً واضطراباً واستكراهاً (فليس إلا أن يكون ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قد كان توفيقاً وإلهاماً من الله، أو ما هذه سبيله) (4).
والحديث الشريف كالقرآن الكريم يجري على سنن العرب في كلامها بحفوله بالأساليب والفنون العربية التي وقفنا عليها من خلال مباحث البلاغيين، إلا أن هذه الأساليب والفنون تأتي في البيان النبوي كما في القرآن الكريم على الصورة التي تتساوق فيها الفكرة مع الفن التعبيري على أدق وجه، فكل لفظة أو جملة أو فقرة لا تجدها تنبو عن موضعها، ولا يسع أحداً أن يخيلها عن ذلك الموضع، أو يستبدل بها غيرها لتكون أوفى دلالة وأشد إحكاماً.
(وليس أحكام الأداء، وروعة الفصاحة، وعذوبة المنطق، وسلاسة النظم، إلا صفات كانت فيه صلى الله عليه وسلم عند أسبابها الطبيعية.. لم يتكلف لها عملاً، ولا ارتاض من أجلها رياضة؛ بل خلق مستكمل الأداة فيها، ونشأ موفر الأسباب عليها، كأنه صورة تامة من الطبيعة العربية) (5).
وفي ضوء هذا كله كان جديراً بالدارسين أن تكون لهم وقفة ؛بل وقفات متأنية متأملة عند البلاغة النبوية بعقد مباحث تحليلية تكشف عن مواطن البراعة والدقة في فن القول في أرفع مستوياته.
الغاية من التحليل البلاغي لخطبة الوداع
جدير بطلاب العربية وباحثيها أن يلتمسوا في كلام أفصح من نطق بالضاد معالم الطريق إلى استشراف البلاغة العالية المنزهة عن العيوب والمثالب، لتكون أمامهم المثل الأعلى في الاستهداء بمعانيه وتمثل أساليبه، ومن هنا كانت هذه المحاولة المتواضعة في الدخول إلى ساحة البلاغة النبوية، من خلال دراسة نصّ كريم غنيّ بمعانيه السامية ومضامينه السديدة،
مصوغ بالأسلوب البليغ والأداء الدقيق.
فالغاية أن نقف عن مقاطع من هذا النصّ النبوي وهو (خطبة الوداع) متأملين دلالاتها البلاغية؛ للكشف عن جمالية توظيف الفن البلاغي الذي يرد في الحديث النبوي بعيداً عن معاناة للصنعة والإقحام، أو ابتغاء الحلية اللفظية التي لا غناء فيها.
ومما حملني على هذه المحاولة أني لا أجد كبير عناية بالنصوص، واحتفال بتحليل صيغها وتراكيبها، وبيان المواقع الدقيقة للفنون والأساليب البلاغية متميزة عن وجودها في كلام سائر الناس، كي يقف القراء على لون من ألوان الدراسة التي هي في الوقت ذاته موازنة ضمنية لتوظيف فنون البلاغة بقدرات تعلو حتى تبلغ حد الإعجاز، وإسفاف ينبئ عن تمثل شكلي ورصف لفظي وخواه فكري؛ فالإيجاز في البلاغة القرآنية والنبوية غيره في موضع آخر، وكذلك الإطناب، فإن دلالالته المعنوية والفنية غير ما توحي به هذه الظاهرة في موطن آخر قد يكون به حاجة إلى الإطناب أو لا يكون، وهو - في جميع الأحوال - يكشف عن خلل مرئي أو محسوس به هنا وهناك في مواضع شتى من النصّ.
والدراسات التحليلية للبيان النبوي قليلة غير ما كتبه الشريف الرضي في المجازات النبوية إذ بنى منهجه على أن يأتي (بأحاديث أو بأجزاء منه، بحسب ما وقع له في إطلاعه على مراجعه، ومنهجه أن يذكر النص، ويعقبه بالإشارة إلى اللون البياني، ويذكر ما يستدعي الذكر من المناسبة التي ورد فيها شارحاً موجهاً في إيجاز، مبيناً الوجه أو الوجوه التي يخرج عليها المعنى وكثيراً ما يجعل سر التعبير وأثره تعريفاً بالقيمة الجمالية التي تلزمه) (6).
وكذلك الزمخشري في كتابه (الفائق في غريب الحديث) حيث نعثر في غضونه لمحات وإشارات إلى جمال البلاغة النبوية ضمن مباحث في اللغة والنحو والإعراب.
أما كتاب (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) لمصطفى صادق الرافعي، فقد كان - ولا يزال - من أفضل الدراسات النظرية المستوعبة لخصائص الإعجاز القرآني والبلاغة النبوية، إلا أنه لم يلتمس لنفسه سبيل التحليل لنصوص من الحديث الشريف.
أما الكتاب الذي وقفت عليه مفيداً في هذا الباب فهو كتاب استاذنا القدير الدكتور عز الدين علي السيد , المسمى: (الحديث النبوي من الوجهة البلاغية) ، إذ جنح فيه إلى تحليل أحاديث شريفة لبيان مواضع الدقة والفطرة في صوغ الأفكار وجلاء المعاني.
إن هذا المبحث المتواضع يسهم بصورة أو أخرى في خدمة البلاغة النبوية من خلال دراسة (خطبة الوداع) دراسة تحليلية. تكشف من خلالها عن طواعية الفن الطاغي في الخطبة وعن دقة الموازنة بين الفن البلاغي وبين الغايات التي يهدف الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تحقيقها من خلال سوقه للعبارة الفنية المستوفية لكل متطلبات البلاغة، ضمن ثلاثة مسارات حددها الدكتور عز الدين علي السيد وهي:
1 - صفاء اللفظ ووفاؤه إفرادا وتركيباً.
2 - وضوح المعنى وظهور المغزى.
3 - وسائل التشويق والإيقاظ بعثاً للنشاط وإجابة للداعي، ومنها القولي، ومنها الحسي (7).
ومن أسرار البلاغة العربية وذوقها؛ أن تساير الأساليب المختلفة، وتتماشى مع المواقف والسياقات حسبما يتطلب المقام اللغوي والنفسي, " والبلاغة الحق - إضافة إلي كونها الكلام المكتوب أو المسموع- هي التي تقدر الظروف والمواقف, وتعطي كل ذي حق حقه, سواء أكانت شعرًا أم نثرًا, مقالا أم قصة, مسرحية أم حكاية, مديحا أم هجاء, غزلا أم استعطافا" (8).
الدراسة البلاغية
هذه الخطبةْ نموذجٌ رائع للخطب الدينية، وقد التزم الخطيب بالوضوح المشرق لأنّه عليه السلام يريدُ أن يَفْهمَ الناسُ عنه جميعاً، فأنت لا تشعر بلفظ غريب ولا بمعنى مبهم، وكيف؟ والداعيةُ الأمين يقدِّرَ موقفه ويعرفُ أنه يُخَاطِبُ جميع البشر، ولن يبلغ حاجَته بغير الوضوح السّاطع والإشراق الوضيء والمعاني متسلسلة، مع تحديد دقيقٍ كاشف.
(الحمدُ لله نحمدُهُ وَنَسْتَعِينُه، ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سيّئآتِ أعْمَالِنَا مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضَلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ. أَمَّا بعد):
بدأ الرسول الخطبة الجامعة بالحمد والثناء؛ فكانَ ذلك سنناً مرسوماً يحتذيه جميع الخطباء ؛بل إن الجمل الأولى من هذه الخطبة صارتْ محفوظة مشتهرة لكثرةِ ما يردّدهَا الخطباء مُعجبين، ولها مكانتها في نفوس السّامعين. وإن الثناء لله تعالى نثني عليه، ونطلب منه العون، ونرجو المغفرة والرجوع إليه، ونلجأ إليه تعالى من وساوس أنفسنا، ومن دنايا أفعالنا، فإنه تبارك وتعالى يحفظ من هداه، فلا سبيل إلى ضلاله، ومن فقد هدايته فلن يجد هادياً مرشداً.وهذه الافتتاحية تبدو عباراتها معبرة عن لب الإيمان وجوهره، وعن حقيقة الإسلام ومضمونه، وهذا مسلك فريد اتسمت به الخطابة الإسلامية التي ازدهرت في ظلال الإسلام.
(أَيُّها النَّاس)
نلحظ أول ما نلحظ هذا النداء القريب إلى النفوس، إذ استغنى عن أداة النداء (يا)، وغيرها تحقيقاً لهذا القرب والتلاحم مع أبناء الأمة الذين زالت الهوة بينهم وبين معلمهم وهاديهم.
إن حذف أداة النداء قد حقق هذا القرب والتلاحم، فكأن الناس قريبون إليه يناديهم بأرق النداء وأعذبه ليستميل قلوبهم إلى ما يلقي عليهم من حسن التوجيه وسديد الإرشاد.
ويا للنداء وضع في أصله لنداء البعيد، بدليل أنهم عدوا الأداتين (الهمزة وأي) للقريب (9).
وأما (يا) فقال ابن الحاجب: أنها حقيقة في القريب والبعيد لأنها لطلب الإقبال مطلقاً، وقال الزمخشري: إنها للبعيد) (10).
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن من الواضح أن يكون حذف أداة النداء دالاً على قرب المنادي للمنادى، والالتصاق به، والتحبب إليه.
وليس يسعنا في هذا الموضع؛ أن نحمل حذف الأداة على خلاف مقتضى الظاهر، لأن ذلك يدعونا إلى القول إن المنادى ممن سها أو غفل، وما كان له أن يكون على ذلك الحال، إلا أن حذف الأداة هنا جاء على الحقيقة والحال، وليس عدولاً عنها تنزيهاً من الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين عن السهر والغفلة.
( اسمعوا قولي )
اسمعوا, فعل أمر، وللأمر وجهتان في التعبير البلاغي: حقيقي ومجازي، وللمجازي أغراض متعددة.
ينبغي أن نحدد بادئ ذي بدء مدلول الأمر الحقيقي والمجازي لنتبين في أي المسارات تتجه هذه الصيغة.
الأمر الحقيقي: (صيغته موضوعة لطلب الفعل استعلاءاً، لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة) (11).
أما صيغة الأمر المجازي -فكما قال القزويني- قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة المقام، كالإباحة ... والتهديد ... والتعجيز... والتسخير) (12).
وإني أرجح أن الأمر في هذا الموضع مجازي، وذلك بدلالة الاستهلال الرقيق، فلا يسوغ أن يكون النداء يحمل في تضاعيفه من معاني التودد والتلطف ثم يعثبه مباشرة بما يدل على الأمر خشية أن يقع ذلك من نفوس سامعيه موقعاً لا يرتضيه، ولما يحصل من التفاوت بين الرقة والتلطلف وبين الشدة التي يحملها الأمر الحقيقي مدلولاً من مدلولاته.
أقول ذلك من غير أن يتبادر إلى الذهن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا قبل له بأن يأمر قومه بما يشاء فيطاع، هذا أمر لا مشاحة فيه. بقدر ما نود أن نرسم من خلال هذا المقطع صورة التناغم البياني بين أجزاء المقطع، وتلك خصوصية من خصوصيات البلاغة النبوية الكريمة، ولذلك فإن المعنى المجازي الذي أرجحه من خلال صيغة الأمر هو لفت الأنظار وتوجيه النفوس، أو تنبيه الجمع المخاطب إلى ما يعرضه عليهم من توجيهات.
وما يلي هذا الأمر من العبارات يعزز مجازيته، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
(فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا...) فجملة المقطع تتسم بالإنسيابية وهدوء النبرة، مما يتسق مع مجازية الأمر السابق على هذا المقطع، ولما في الأمر الحقيقي - لو كان المراد - من القوة والشدة.
(فَإنّيَ لاَ أَدْرِي)
إن: من أدوات التوكيد، وهي ترد في غضون الخطبة بكثرة ملحوظة، ولكل موضع ترد فيه (إن) دلالة التوكيد والأهمية.
فهل كانت (إن) من مؤكدات مضمون هذا القول، وهل هي من مقتضياته؟
أما كان منتظراً أن يقول: فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا؟.
أقول: لو جاء الكلام على هذه الشاكلة لما تأتى لهذا الكلام أن يفعل فعله التوجيهي العقائدي.
إن جو الكلام منذ استهلاله يوحي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقف وقفة الوداع، فأراد أن يقرر حقيقة رحلة الإنسان من حياته الدنيا، بتقريره أنه - وإن كان رسولاً يوحى إليه - فهو لا يدري متى سيكون رحيله.
-فإني لا أدري-: أي حتى هو بوصفه نبياً يوحى إليه - يجهل حقيقة هذا الأمر، ولعل مما يخالج نفوس المسلمين من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بذلك، فلكي يستقر هذا المفهوم بكل أبعاده من غير أن يعتري السمع شك في ذلك؛ جاء بصيغة التوكيد الذي من شأنه أن يرسخ الفكرة في الأذهان.
وربما يرد في هذا الموضع سؤال مفاده: أليس هذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوحي إليه بدنو أجله؟.
نقول: ربما أوحي إليه بذلك، ولكن لم يرد أن يقطع بشيء من ذلك، فالله وحده الذي يقرر. والاستشعار بدون الأجل ليس معناه معرفة ساعة الرحيل على وجه الدقة والضبط، ثم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجعل المسلمين في دوامة الاضطراب والقلق خشية أن ينفرط شملهم ويصيبهم من الذهول ما لا يرتضيه لهم.
ومن الملاحظ البلاغية في استخدام (إن) في هذا الموضع أنها جاءت في عقب جملة سابقة فقد كان مجيء (إن) ضرباً من ضروب التوثيق بين الجملتين.
قال الزملكاني: (وتجيء أي - إنّ - لربط بين جملتين لتوصل أحداهما بالأخرى، فتراهما بعد دخولها كأنهما قد افرغا في قالب واحد) (13).
ويرى الزملكاني أنه يسع المتكلم أن يأتي بالفاء مكان (إن) ولكن لا تؤدي مؤداها من قوة الربط والتوكيد والامتزاج.
يقول في ذلك: (... لرأيت الامتزاج والألف مقاصراً عما كان عليه) (14).
ولعل في هذا جواباً على تساؤلي في موضع سابق: ألم يكن منتظراً أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم)، ففي كلام الزملكاني ما يغني عن التفصيل والبيان.
(لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، بهذا الموقف أبدا).
(لعلي) أداة الترجي، هذه الأداة لم تحظ بعناية البلاغيين قدر ما عدوه أداة نحوية فحسب.
وكان الأجدر بالبلاغيين أن يتحدثوا عن هذه الأداة في جملة ما تحدثوا به عن غيرها من أساليب التعبير كالأمر والاستفهام والنهي والتمني، وأن يعدوها في الإنشاء غير الطلبي بوجه خاص، كما فعلوا بصنوها (ليت).
والمعنى الأساس للأداة (لعل) هو الترجي. ولو تتبعنا دلالالتها المجازية لوجدت أنها تخرج إلى معان أخر، وربما كان التقرير أو التمويه أو التمني من جملة دلالالتها.
وإني انفي أن تكون دلالتها في الخطبة ترجياً، بل هو تقرير وإشعار بدنو الأجل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل الأمر مرهوناً بالآجال التي قرر أنه لا يدري مواقيتها.
( أيها الناس إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ).
والتكرار في اللّغة أصله من الكرّ بمعنى الرجوع، ويأتي بمعنى الإعادة والعطف. فـ"كرّر" الشيء وكرره أي: أعاده مرة بعد أخرى (15) وأما في الإصطلاح، فالمقصود به: تكرار كلمة أو لفظ أكثر من مرة في سياق واحد لنكتة ما، وذلك إما للتوكيد، أو لزيادة التنبيه أو للتهويل، أو للتعظيم (16) وهو فنّ قولي من الأساليب المعروفة عند العرب، بل هو من محاسن الفصاحة وهو إشعار بأهمية الأمر وإعظام لشأنه.
ويشير الزمخشري إلى القيمة الفنية والمعنوية في ظاهرة التكرار بأنها (استدعاء مهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وطريقة الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا أو يغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به) (17). ويقول الجاحظ مبيّنًا الفائدة منه: "إن الناس لو استغنوا عن التكرير _ التكرار _ وكفوا مئونة البحث والتنقير لقلّ اعتبارهم. ومن قلّ اعتباره قلّ علمه، ومن قلّ علمه قلّ فضله، ومن قلّ فضله كثُر نقصه، ومن قلّ علمه وفضله وكثُر نقصه لم يُحمد على خير أتاه، ولم يُذمّ على شرّ جناه، ولم يجد طعم العزّ، ولا سرور الظفر، ولا روح الرجاء، ولا برد اليقين ولا راحة الأمن) (18).
قال صلى الله عليه وسلم: (كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا).
والحرمة في حياة المسلمين قضية لها من الخطر والجلال ما لها، وتكرار اللفظة إيقاظ الحواس، ولا يغب عن البال ما أضافه تكرار (هذا) في نهاية كل مقطع من إيقاع لفظي زاد من جلال التوكيد جلالاً، وكان له من الواقع ما يحفز النفوس إلى تثبيت والتملي واستيعاب القضية بكل أبعادها النفسية والفكرية، وهذا (على جانب من التنغيم النافذ إلى الروح، ندركه دائماً في حسن جرسه وتعانق معانيه وتتابع موجاته، يدفع بعضها في نشاط وتشابه) (19).
وانظر إلى تكرار لفظ (حرمة) على سبيل التأكيد ذلك أن حرمة الأموال والدماء، ولقاء الله، ووضع الربا والدماء مما تعد من كبريات القضايا التي كانت تسود حياة العرب، وكان لابد لها من الحسم القاطع، تنقية للمجتمع الإسلامي من كل بقايا الجاهلية ومواريثها.
ومن ناحية ثانية: نجد في (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) تقدم الجار والمجرور (عليكم) على خبر إن، وهو في عرف النحاة فضلة من حقها أن تتأخر، ولكن له في البيان النبوي تقدم ملموس ظاهر، ترى أكان التناغم اللفظي هو الذي استدعى هذا التقديم، أم أن وراء تقديمه غاية معنوية أخرى.
ليس بوسعنا أن نقطع بإجابة عن واحد من ذينك التساؤلين بقدر ما نود أن نوفق بين التساؤلين.
إن البيان النبوي قد توخى الإيقاع المتناغم الذي يكسب العبارة جمالية محببة إلى النفس من خلال توالي: دمائكم - أموالكم - عليكم -.
إذن نحن لا ننفي هذه الصيغة الجمالية التي هي من أجلى خصائص البلاغة النبوية التي اجتمعت فيها - على حد قول الرافعي - ثلاث صفات هي:
الخلوص والقصد والاستيفاء (20).
إلا أننا في الوقت ذاته نحسّ أن التقديم إن خلا من الفائدة المعنوية فإن الجانب الجمالي يظل حلية خاوية ننزه البلاغة النبوية عن أن تكون هدفاً من أهدافها.
إن الذهن ينتظر خبر (إن)؛ ليكتمل به المعنى الأساس، فإذا بالذهن يقرع بالجار والمجرور (عليكم) خطاباً مباشراً إلى المسلمين؛ إذن الأمر الذي سيسمعونه خطير، فهو يعنيهم ويمس وجودهم وكيانهم، ففي هذه اللحظة يساق الخبر حكماً من الأحكام خطير الشأن، بعد أن هيأ تقديم الجار والمجرور الأذهان لتلقي الخبر.
وللحديث بقية إن شاء الله في الأيام القادمة نترككم في رعاية الله وحفظه.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) جليل رشيد فالح , مجلة آداب الرافدين، العدد 13، ص407-424
(2) البيان والتبيين - 2/17.
(3) الفائق في غريب الحديث - 141.
(4) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية - 316.
(5) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية - 316.
(6) الحديث النبوي من الوجهة البلاغية 45.
(7) الحديث النبوي من الوجهة البلاغية 60
(8) د. بكري شيخ أمين - البلاغة العربية في ثوبها الجديد - الطبعة الرابعة - دار العلم للملايين - بيروت - 1995 - 1/15.
(9) السيرة النبوية لابن هشام. القسم الثاني - ص604 - 603.
(10) التلخيص في علوم البلاغة - الهامش 172.
(11) مواهب الفتاح (من شروح التلخيص) 334.
(12) الإيضاح في علوم البلاغة - 143 - ما سواه أي الأمر المجازي.
(13) المصدر نفسه 143.
(14) البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن - 156.
(15) ابن منظور، لسان العرب، مادة (كرر).
(16) ابن معصوم، أنوار الربيع في أنواع البديع، 5/34-35.
(17) الحديث النبوي من الوجهة البلاغية 265.
(18) أبو عثمان الجاحظ، رسائل الجاحظ، 3/181.
(19) المصدر نفسه 19.
(20) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية 373.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم