عناصر الخطبة
1/وصية الرسول بالجار والتحذير من أذيته 2/من صور أذية الجار والإضرار به 3/تعوذ النبي من الجار السيء 4/الحث على تبادل الهدايا بين الجيران 5/من ثمرات الهدية بين الجيراناقتباس
تبادل هذه الهدايا ليست هي الهدف؛ وإنما الهدف تلك المعاني العظيمة التي تتحقق من هذه الهدية، ومنها: غرس المحبة في قلوب الجيران، وإزالة العداوة والشحناء من قلوبهم لبعضهم البعض، وإزالة الحواجز التي بينهم، والتخلص من الأنانية التي فشت بيهم، وتفقد الجيران...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين -سبحانه-، سبحان الذي في السماء عرشه، سبحان الذي في الأرض حكمه، سبحان الذي في القبر قضاؤه، سبحان الذي في البحر سبيله، سبحانه الذي في النار سلطانه، سبحان الذي في الجنة رحمته، سبحان الذي في القيامة عدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة من قال: ربى الله ثم استقام، تقرب لعباده برأفته ورحمته، ونور قلوب عباده بهدايته.
سبحان من ملأ الوجود أدلة *** ليلوح ما أخفي بما أبداه
سبحان من ظهر الجميع بنوره *** فيه يرى أشياء من صفاه
سبحان من أحيا قلوب عباده *** بلوائح من فيض نور هداه
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه.
والله ما في الخلق مثل محمد *** في الفضل والجود والأخلاق والإيمانِ
فهو النبي الهاشمي المصطفى *** من خيرة الأنساب من عدنانِ
لو حاول الشعراء وصف محمد *** وأتوا بأشعار من الأوزانِ
ماذا يقول الواصفون لأحمد *** بعد الذي جاء في القرآنِ
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- وطاعته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: موضوعنا اليوم هو عن حق عظيم ضيعه كثير من الناس، إنه حق الجوار، يقول الله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[النساء: 36]، كان جبريل -عليه السلام- يلح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوصية بالجار، قال -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
وقد نفذ الصحابة وصايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجيران أدق تنفيذ، فكان أحدهم إذا ذبح الشاة قال: "احملوا إلى جارنا اليهودي منها"؛ وما ذاك إلا أنه وعي وفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله الذي أخرجه أحمد عن عمر: "لا يشبع الرجل دون جاره"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أحسن الناس جوارا.
فأذية الجيران حرام -يا عباد الله-، سواء كان الجار مسلما أو غير مسلم، ففي الحديث الذي أخرجه الشيخان: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"؛ يعني شره، وفي مسلم من حديث أبي هريرة: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره".
ولكن من المسلمين من نسوا وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو غلبتهم أنفسهم حتى أحبوها أكثر من حبهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فآثروا أهواءهم وأحقادهم على الحب والسماحة من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفعله -صلوات الله وسلامه عليه-؛ فتجدهم يؤذون الجار ولا يبالون به.
وأذية الجار -يا عباد الله- أنواع كثيرة منها: أذية الجار بالكتابة على جداره بالألوان وتشويهها، والعبث بسيارته وتخريبها أو تعطيلها، كذلك إلقاء القمامة والأوساخ أمام منزله، ومن أذية الجار أيضا: رفع الأصوات المزعجة أيا كان نوعها، ومنها أيضا: التجمع أمام منزله والتحدث طويلا أمام بابه، فإن هذا مما يضايقه وأهله، ومن الأذية: الجلوس عنده، والحديث معه طويلا حتى يملّ، فربما تكون عنده أشغال ومواعيد ويخجل من إحراجك لو أعلمك بذلك، فكن حصيفا خفيف الدم حكيما، اختر الوقت المناسب معه باتصال واتفاق على مواعيده المناسبة،؛ حتى تعرف ما يناسبه وما لا يناسبه من الأوقات.
ومن أذيته: فتح نوافذ البيت المطلة عليه، أو أذيته بتسرب المياه على فناء منزله أو على طريقه، ومن الأذية: مراقبته في دخوله وخروجه، أو النظر إلى محارمه، ومن أذيته أيضا: التصنت لكلامه وكلام أهل بيته من غير علمه، فهذا محرم ولا يجوز لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ؛ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَة"، الآنك: الرصاص المذاب.
ومن أذيته أيضا: أن يأتي بألعاب كثيرة لأولاده دون أولاد جاره، ويحرض أولاده بأن يخرجون بها أمامهم، ومن أشد الأذية وأفظعها -أجارنا الله وأياكم يا عباد الله- ما ورد التحذير منه في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"، قيل: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قيل: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك"، هذه قمة الفحش -يا عباد الله-؛ لأنه اجتمع فيه جريمة الزنى بامرأة جاره، وإفساد امرأة على زوجها، وخيانة للجار الذي كان يتوقع منه الأمانة.
فهذه الأمور المؤذية للجار كلها شر، تسبب الأحقاد بينهم والكراهية، ودوام البغض وكره المكان الذي يسكنه، فاسمع إلى ذلك الجاهلي حاتم الطائي الذي ما تلقى تعاليم سماوية، ولا سمع كلام المصطفى -عليه الصلاة والسلام- يقول:
إِذا ما بِتُّ أَختِلُ عِرسَ جاري *** لِيُخفِيَني الظَلامُ فَلا خَفيتُ
أَأَفضَحُ جارَتي وَأَخونُ جاري؟! *** مَعاذَ اللَهِ أَفعَلُ ما حَيِيتُ
وهذا عنترة جاهلي آخر يعرف حقوق الجار، وما ذاك إلا أن احترام حقوق الجار من الأخلاق التي تدعو إليها الفطرة يقول:
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي *** حتى يُواري جارتي مأْواها
فكيف لو رأى عنترة أخلاق كثير من المسلمين اليوم ماذا سيقول عنا؟.
عباد الله: قد يبتلى الإنسان بجار سوء، كما ورد في الحديث: "أربعة من الشقاء"، فذكر منهم: "الجار السوء"، فإذا ابتلى الرجل بجار سوء فما عليه إلا الصبر؛ حتى يفرج الله همه إما بصلاح جاره أو انتقاله عنه، وقد تعوذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الجار السوء المقيم فقال -عليه الصلاة والسلام-: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ؛ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ".
فلا بد من العناية باختيار الجار، وكما يقولون: "الجار قبل الدار"، ومع هذا فلا بد من الصبر على مشاكل الجار، فلا تكن له بالمرصاد كلما آذاك آذيته، وكلما أساء لك أسأت إليه؛ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 34 - 35].
الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان جيرانه في مكة ملاصقة بيوتهم ببيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا من أشد أعدائه منهم عمه أبو لهب وعقبة بن أبي معيط وغيرهم، فكانوا يضعون الشوك على طريقه ويصبر، ويضعون سلى الناقة على رقبته وهو يصلى في الحرم ويبقى ساجدا، حتى تأتي ابنته فاطمة فتزيله عنه، وهي تبكي وهو صابر، هذا هو قدوتنا -يا عباد الله-.
فالله الله في الجار -يا عباد الله-، وصية من جبريل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووصية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنا بأدائها، فاعتنوا بهذه الوصية -يا عباد الله-.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: في حديث أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك"، فلك -أخي الحبيب- أن تتخيل هذه الصورة، قطعة لحم صغيرة، يؤثر بها على نفسه، فيكثر الماء ويحرم نفسه طعم دسمها؛ لكثرة ما بها من ماء، من أجل إسعاد جيرانه وإدخال السرور عليهم.
ولك أن تتخيل أيضا لو أن كل الجيران أخذوا بهذه الوصية؛ لرأيت منظرا عجيبا طوال اليوم والليلة، وأنت ترى هذا يرسل لك بمرقة، وذاك بهدية، وأنت ترسل له نوعا آخر من الطعام، والجار الذي بيمينك يناول الذي بيساره هدية والعكس؛ لكانت صورة جميلة مشرفة تنقل عنا صورة الإسلام المشرقة، التي من رآها عرف أن هذا هو الدين الحق الذي يبحث عنه.
فالدروس التي نأخذها من هذا الحديث والذي قبله -يا عباد الله-، أن تبادل هذه الهدايا ليست هي الهدف؛ وإنما الهدف تلك المعاني العظيمة التي تتحقق من هذه الهدية، ومنها: غرس المحبة في قلوب الجيران، وإزالة العداوة والشحناء من قلوبهم لبعضهم البعض، وإزالة الحواجز التي بينهم، والتخلص من الأنانية التي فشت بيهم، وتفقد الجيران لبعضهم البعض، ومساعدة المحتاج، والتكافل بينهم، هذه بعضها وغيرها كثير.
فاتقوا الله -عباد الله-، وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلم عليه، فقد قال -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم