عناصر الخطبة
1/ استقبال البيت الحرام من نعم الله تعالى على الأمة 2/ استقبال المسجد الأقصى أول الأمر 3/ اشتياق النبي صلى الله عليه وسلم لاستقبال المسجد الحرام 4/ مسجد القبلتين لا يختص فيها مزية فضل ولا يصح تسميته بهذااقتباس
التسمية بمسجد القبلتين لا تختص بمسجد معين؛ لكونه صُلي فيه إلى القبلتين، فها هو مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى فيه إلى القبلتين, ومسجد قباء صُلي فيه إلى القبلتين, وسائر المساجد الموجودة في المدينة في ذلك الوقت صُلي فيها إلى القبلتين، وبهذا نعلم عباد الله أنه ليس هناك مسجد في المدينة يختص بفضيلة معينة لكونه صلي فيه إلى القبلتين...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن تقواه -عز وجل- أساس السعادة وسبيل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة, ثم اعلموا -رحمكم الله- أن نعم الله -جل وعلا- علينا عديدة لا تحصى، وكثيرة لا تستقصى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وإنا لنسأل الله -عز وجل- أن يوزعنا أجمعين شكر نعمه.
عباد الله: وإن من نعم الله الجليلة علينا أن هدانا في صلاتنا ودعائنا إلى استقبال بيته الحرام، فهي -عباد الله- نعمة عظمى، ومنّة كبرى، هدانا الله -جل وعلا- إليها، وأضل عنها غيرنا؛ ولهذا فإنا نُحسد على هذه النعمة؛ جاء في مسند الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر أهل الكتاب، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنهم لا يحسدوننا على شيء، مثل حسدهم لنا على يوم الجمعة، الذي هدانا الله إليها وأضلهم عنها, وعلى استقبال بيته الحرام الذي هدانا إليه وأضلهم عنه، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين". فهذه نعم عظيمة، كبيرة جليلة، يحسدنا عليها أهل الكتاب, ومن بين هذه النعم نعمة الله -جل وعلا- علينا بالهداية إلى استقبال القبلة، فها نحن -عباد الله- صفوفًا مستقبلين بيته الحرام -جل وعلا-، منتظرين أداء صلاة عظيمة، فهي منَّة عظيمة من الله -جل وعلا-، فالحمد لله على ما هدانا، والشكر له -جل وعلا- على ما أولانا.
عباد الله: لقد كان الأمر في بادئ الأمر وأوّل الإسلام عندما هاجر النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة، كان الأمر في أول الإسلام أن القبلة في الصلاة إلى بيت المقدس، وقد قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصلى فيها مدّة طويلة، مستقبلاً في صلاته بيت المقدس، كما أمره ربه -جلّ وعلا-، ومضى على هذه الحال مستقبلاً في صلاته بيت المقدس، مطيعًا لله -جل وعلا- في أمره، وهو -عليه الصلاة والسلام- ينظر إلى السماء، ويحب أن يحوَّل إلى بيت الله الحرام: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة: 144]، فكان -عليه الصلاة والسلام- ينظر إلى السماء ويدعو الله -تبارك وتعالى- ويسأله سبحانه، إلى أن جاء الإذن من الله -جل وعلا- باستقبال الكعبة.
روى البخاري في صحيحه عن البراء -رضي الله عنه- قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، مستقبلاً بيت المقدس، وهو -عليه الصلاة والسلام- يعجبه أن يتحول إلى الكعبة، فكانوا في صلاة العصر وهو في مسجده -عليه الصلاة والسلام-، فنزل عليه قول الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 144]، ومن حينها استقبل -عليه الصلاة والسلام- الكعبة في صلاته وفي دعائه، وكانت أول صلاة صلاها في مسجده -صلوات الله وسلامه عليه- مستقبلاً الكعبة صلاة العصر, فخرج رجل ممن صلى معه، وكان يمر على المسجد ويقول للناس وهم يصلون: أشهد بالله العلي العظيم أني صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قِبَل الكعبة، فكانوا يستديرون في صلاتهم مستقبلين بيت الله -عز وجل-، مطيعين لله، ممتثلين أمره.
يقول -جل وعلا-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) [البقرة: 177]، حقيقة البر طاعة الله -عز وجل- فيما يأمر به، ولو أمرنا في اليوم مرات عديدة، وكرات كثيرة، أن نستقبل جهات عديدة، لكان ذلك حقيقة البر, فحقيقة البر هي طاعة الله -جل وعلا-, وقد كانت حكمة الله -عز وجل- في أن يبقى الناس مستقبلين بيت المقدس تلك المدة الطويلة؛ ليتبين المؤمن الصادق من المرتاب، وليميز -تبارك وتعالى- بين المنافقين والمؤمنين، والمحقين والمبطلين؛ قال -جل وعلا-: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) [البقرة: 143]، أي بيت المقدس: (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة: 143].
وقد تساءل بعض الصحابة -رضي الله عنهم- عندما تحوّلت القبلة إلى الكعبة عن حال الصحابة الذين توفاهم الله -جل وعلا- قبل استقبال الكعبة، تساءلوا عن حالهم وعن حال صلاتهم التي مضوا فيها مصلين إلى بيت المقدس، فأنزل الله -جل وعلا- قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة: 143]، أي صلاتكم, فمن كان يصلي إلى بيت المقدس فصلاته تلك كانت طاعة لله وامتثالاً لأمر الله، فلا تضيع صلاته عند الله -جل وعلا- بل يثيبه عليها عظيم الثواب، ويجزيه عليها عظيم الجزاء, وهنا تبين حال أهل الريبة وحال السفهاء من الناس عندما تحولت القبلة، قال الله -جل وعلا-: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة: 142]، ويأتي الجواب من الله -عز وجل-: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة: 142]، الأمر لله -جل وعلا- من قبل ومن بعد، والناس عبيد له، وشأنهم طاعته وامتثال أمره أينما ولاَّهم وأينما وجههم، فهو -تبارك وتعالى- الآمر الحاكم.
عباد الله: لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلى بيت المقدس مدة طويلة، بلغت ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، كما جاء في صحيح البخاري في الحديث المتقدم, ثم تحول -عليه الصلاة والسلام- إلى استقبال القبلة؛ امتثالاً لأمر الله، وكان الحكم بعد ذلك منسوخًا، فلا يحل لمسلم أن يستقبل بيت المقدس في صلاة أو دعاء أو نحو ذلك؛ لأن ذلك حكم منسوخ, ومن اعتقد مشروعية ذلك أو جوازه فهذا كفر بالله -عز وجل- وكفر بما جاء في كتابه سبحانه.
عباد الله: ومما تقدم نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في مسجده مدة طويلة مستقبلاً بيت المقدس، ثم صلى إلى آخر حياته وأصحابه من بعده وأمة الإسلام من بعدهم إلى بيت الله الحرام, فأصبحت الكعبة هي قبلة المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم -عباد الله- التسمية بمسجد القبلتين لا تختص بمسجد معين؛ لكونه صُلي فيه إلى القبلتين، فها هو مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى فيه إلى القبلتين, ومسجد قباء صُلي فيه إلى القبلتين, وسائر المساجد الموجودة في المدينة في ذلك الوقت صُلي فيها إلى القبلتين، وبهذا نعلم -عباد الله- أنه ليس هناك مسجد في المدينة يختص بفضيلة معينة؛ لكونه صلي فيه إلى القبلتين, ولو كان هناك مسجد يختص بفضيلة لكونه صُلي فيه إلى القبلتين لكان أحق المساجد بهذه الفضيلة مسجد النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-، فقد صُلي فيه إلى القبلتين, لكن ليست هناك فضيلة تختص بمسجد لكونه صلي فيه إلى القبلتين، وبهذا نعلم -عباد الله- خطأ ما يفعله بعض الناس من قصد مسجد معين في المدينة يعتقدون أنه صلي فيه إلى القبلتين، فيخصونه بصلاة، وربما فعل بعض الجهال في بعض الأوقات الصلاة إلى القبلتين، يفعلون ذلك اعتقادًا منهم مشروعية ذلك، وقد تقدم بيان حكم ذلك في كتاب الله.
ألا عباد الله: فلنحمد الله -عز وجل- على نعمه العظيمة، ومننه الكبيرة، ومنها هدايته لنا إلى القبلة وإلى استقبال بيته الحرام، وإلى اتباع سيد الأنام -عليه الصلاة والسلام-, وإنا لنسأل الله -عز وجل- أن يحيينا على دينه، وأن يتوفانا عليه، وأن يجعلنا من أهل القبلة، وأن يتوفانا على ذلك، راضيًا عنا غير ساخط, إنه -تبارك وتعالى- سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان, وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن تقواه سبحانه هي العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معصية الله، على نور من الله، خيفة عذاب الله. واعلموا -رعاكم الله- أن الكيس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
واعلموا -رعاكم الله- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة, وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة, وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر الصّديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي, وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم أعنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك أواهين منيبين، لك مخبتين، لك مطيعين، اللهم تقبَّل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألستنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا.
اللهمّ ارفع عنا الغلاء والوباء والزلازل والمحن، والفتن كلها، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا.
اللهم إنا نسألك بأنه لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، المنان بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم اسقنا وأغثنا, اللهم اسقنا وأغثنا, اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وديارنا بالمطر.
إلهنا وربَّنا وسيدنا ومولانا وخالقنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق، اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم أغثنا, اللهم أغثنا, اللهم أغثنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم