عناصر الخطبة
1/ منزلة عبادة حسن الظن بالله ودعائمها 2/ نصوص نبوية تحث على إحسان الظن بالله 3/ أمور يتبين فيها حسن الظن بالله 4/ ارتباط حسن الظن بالله بالأعمال الصالحة 5/ إحسان الظن بالله في الدعاء 6/ تمكن الأعداء وتلبيسهم دافع للبعض لسوء الظن 7/ بيان أن العاقبة للمتقيناقتباس
حسنُ الظنِّ بالله عبادةٌ قلبيةٌ جليلة، ولا يتمُّ إيمان عبدٍ حتى يحسنَ الظنَّ بربه، وحسن الظن بالله مبنيٌّ على كمال علم العبد بسَعَةِ رحمة الله، وإحسانه، وقدرته، وكمال علمه، وكمال التوكل عليه. وإذا قام بالقلب هذا العلمُ أورد حسنَ الظن بالله؛ تُحسن الظن بالله، تحسن الظن بالخيرِ والفضلِ والجزاءِ العظيمِ من رب العالمين ..
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونستهديه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها الناس: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: حسنُ الظنِّ بالله عبادةٌ قلبيةٌ جليلة، ولا يتمُّ إيمان عبدٍ حتى يحسنَ الظنَّ بربه، وحسن الظن بالله مبنيٌّ على كمال علم العبد بسَعَةِ رحمة الله، وإحسانه، وقدرته، وكمال علمه، وكمال التوكل عليه. وإذا قام بالقلب هذا العلمُ أورد حسنَ الظن بالله؛ تُحسن الظن بالله، تحسن الظن بالخيرِ والفضلِ والجزاءِ العظيمِ من رب العالمين.
وقد جاءت النصوص من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحث المسلم على حسن ظنه بربه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله: أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ مِنْ حُسْنِ العِبَادَةِ".
أيها المسلم: وحسن الظن بالله يتبين في أمور عدة:
فأولا: إن الله -جل وعلا- وعد عباده المؤمنين بالثواب العظيم، والعطاء الجزيل، فالمسلم يحسن الظن بربه بأن يحقق ما وعده على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، اسمع الله يقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:71-72].
وقال -جل وعلا-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [المائدة:9-10]، وقال -جل وعلا-: (لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) [الزمر:20].
إذاً؛ فالمؤمن الحقُّ يعمل الصالحات، ويحسن الظن بربه أن يحقق له ما وعده في كتابه وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ومن حسن الظن بالله -لاسيما في آخر حياتك في آخر ساعة من الدنيا وأول ساعة من الآخرة- تحسن الظن بلقاء ربك، تحسن الظن بعفوه وكرمه وستره وجزائه العظيم، ورحمته التي وسعت كل شيء، فعند الاحتضار وقرب الرحيل من الدنيا يكون عند العبد حسن ظن بربه أنه سيلاقي ربه، أما أن ترضى بالرحيل إلى المحسن المتجاوز ذي الفضل والإحسان فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه.
عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- شاباً في مرض موته فَقَالَ: "ما تَجِدُكَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأَرْجُو اللَّهَ وأَخَافُ ذُنُوبِي. قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ".
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ"، قال عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: انظروا إلى المريض في حال مرضه، افتحوا له باب الرجاء وحسن الظن بالله حتى يلقى الله وهو يحسن الظن بربه، وفي الصحة والسلامة حذِّروه من معاصي الله، وبينوا له عقوبة المعاصي وأضرارها.
ومن حسن الظن بالله أن الله -جل وعلا- يحفظ عليك أعمالك الصالحة، يحفظ عليك ثوابها فلا تخشى نقصنا، لا تخشى أن ينقص من حسناتك، ولا أن تحمل سيئات غيرك، يقول الله -جل وعلا-: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) [طه:112].
حسناتك محفوظة لك، جِدَّ واجتهد؛ فهي محفوظة لك، لا تخشى عليها نقصاناً، إنْ صدَقْتَ اللهَ، ولم تُعْقِب الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة، يقول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف:30]، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90].
ومن حسن ظنك بربك أن تحسن الظن به عند دعائه، ورجاؤه، فتدعوه وأنت موقن بالإجابة، تدعوه بقلب حاضر، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ؛ فإَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبَ الدُعَاءً مِنْ قَلْبٍ لاَهٍ ساه".
ادعُ ربك وأنت موقن بأنه القادر على الإجابة، القائل لك: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]، وقوِّ يقينك بقوله -جل وعلا-: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، وقوّ يقينك بقوله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل:62]، فادع وأنت موقن بالإجابة، وأنه يراك، ويرى مكانك، ويسمع كلامك، ويعلم سرك ونجواك.
ومن حسن ظنك بربك أن تحسن الظن به أنك إن تبت إليه من سيئاتك وخطاياك فإنه سيقبل توبتك، ويقيل عثرتك، ويستر عورتك، ويقلب سيئاتك إلى حسنات: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:104]، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى:25]، وزيادةً على هذا تُحَوَّل سيئاتُك إلى حسنات: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان:70].
هو يحب إنابتك، ويحب توبتك، ويمد يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فلا إله إلا الله! ما أعظم كرمه وجوده! وما أعظم فضله وإحسانه! (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222].
تحسن الظن بربك عندما تحل بك المصائب وتحيط بك البلايا، تحسن الظن بربك أن ما جرى فمن حكمة الله وكمال عمله ورحمته وعدله، وإنما جرى خير لك في العاجل والآجل؛ لأنه أرحم بك من رحمة أمك الشفيقة بك، فلا تيأس ولا تحزن؛ ولكن ابذل السبب المشروع، وتحمَّلْ ذلك، واطرق بابه ليلاً ونهارا: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمان:29].
يقول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالدعاء: "أَيُّها النَّاسُ، إِربَعوا على أَنفُسِكم، فإنَّكْم لا تَدْعُونَ أصَمَّ، ولا غَائِبا، إن الذي تَدْعُوه سَمِيعا قريب، هو أَقْرَبُ إِلى أَحدكم من عُنُقِ راحلتِهِ" فمد الضراعة إليه فلا يكشف ضرك ولا يرفع بلاءك ولا يفرج همك ولا يقضي دينك ولا يُسر عسرتك إلا رب العالمين، إن التجأت إليه واضطرت بقلبك إليه (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل:62].
أخي المسلم: إن حسن الظن بالله لابد أن يصوره المسلم على حقيقته؛ لأن البعض من الناس قد يسوء ظنه بربه في أموره فترى بعضهم إذا ضاقت بهم الكروب أساء الظن بربه وقال: أنا من سيِّئي الحظ، أنا مظلوم -والعياذ بالله مما زيّن له الشيطان! فينسب الظلم إلى الله! والله منزه عن ذلك، إنما هي الجهالة وقلة الإيمان؛ فأحسن الظن بربك وقوّ الرجاء في ربك.
أيها المسلم: إن حسن الظن بالله مرتبط بالأعمال الصالحة، فالمحسن الظن بالله هو المنيب إلى الله، المقبل على طاعته، المستمر بالأعمال الصالحة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:218].
أما من أساء العمل، وتجاوز الحدود، ووقع في المعاصي والبلايا، فقد أساء الظن بربه، قال الحسن -رحمه الله-: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل.
فلْنَتَّقي الله في أنفسنا، ولنحسن الظن بربنا، ولنعمل ولنجتهد، فأعمالنا محفوظة لنا، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ: فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله: جاء في الحديث أن الله -جل وعلا- لما خلق الخَلق كتب في كتاب موضوع فوق العرش: "إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى" فرحمته سبقت غضبه، وحلمه يسبق عقوبته، فالعفو أحب أليه من الانتقام جلَّ جلاله وتقدس أسمائه.
أخي المسلم: أحسِن الظن بربك، وإياك أن تيأس من رَوْحه أو تقنط من رحمته، فلا يقنط إلا القوم الضالون، ولا ييأس من رحمة الله إلا الكافرون، مهما عظمت الذنوب وتنوعت وتعددت وكثرت وتعددت؛ فإنك إن تبت إلى ربك توبةً صادقة، وأقلعتَ عن الخطأ وندمت على ما مضى وعزمت على الاستقامة فإن الذنوب كلها ستذهب بلا شيء.
يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "قَالَ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ منكَ وَلاَ أُبَالِى، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".
أيها المسلم: أحسن الظن بربك في دعائك له، واعلم أن الله يسمع الدعاء ويجيب دعوة المضطر إذا دعاه؛ لكنه -جل وعلا- حكيم عليم رؤوف بعبده، رحيم به، محسن إليه، فقد يجيب دعوتك في الحال، وقد تؤجل إجابة الدعوة لخير لا تعلمه، الله يعلمه، أنت لا تدري إلا ما قدمت، والله يعلم ما وراء ذلك، فقد يؤجل الإجابة لمصلحتك، أولا ليقوى يقينك، ويعظم ارتجاؤك إلى ربك، فهذا أعظم من دعوتك، وقد يؤجل للآخرة التي هي أعظم من الدنيا وما عليها، وقد يُصرف عنك سوءٌ وبلاءٌ أنت لا تتصوره.
إذا؛ لن تندم في دعائك، فقد يُقضى في الحال، أو يؤجل لخير، أو يدخر للآخرة، أو يصرف عنك سوء لا تعلمه أنت، إذا؛ فألحّ بالدعاء، وأحسن الظن بربك، وليكن قلبك متعلقا بربك حباً له، وخوفاً منه، ورجاءً لثوابه، فهو ربك الذي خلقك وشق سمعك وبصرك، هو الذي أمدك بالنعم، وأوجدك من العدم، ورباك، تتقلب في نعمه، فلا تحزن ولا تيأس، وألِحّ في الدعاء، فهو يسمع ويرى، وله الحكمة فيما يقضي ويقدر.
أيها المسلم: أحسن الظن بربك أن أعمالك الصالحة لن تذهب، بل هي محفوظة لك، اسمع الله يقول: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران:195]، إذاً؛ فالأعمال محفوظة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
أخي المسلم، أحسن الظن بربك في كل بلاء ينزل بك، ومصائب تحيط بك، فكن محسن الظن في ربك، عالماً أن لله حكمة في ذلك، ارج ربك، وخذ بأسباب السلامة والعافية.
أيها المسلم: إن الله -جل وعلا- وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن هم نصروا دينه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، وقال: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:40].
قد يكون عند البعض شيء من سوء الظن، لماذا المسلمون الآن في كل قطر يطاردون ويشردون، وبلاد الإسلام تعج بالفتن والفوضى، واختلاف القلوب واضطراب الأحوال؟ سفك للدماء، وتدمير للممتلكات، وإخلال بالمصالح العامة، وفوضى عارمة، لا يدري القاتل فيما قَتَلَ، ولا المقتُول فيما قُتِلَ... فتن ومصائب وبلايا واختلاف قلوب، نسأل الله السلامة والعافية.
إن لله حكما فيما يقضي ويقدر، وقوله حق، ووعده صدق، لقد جرى على النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه المصائب عظات؛ لكن قوة الإيمان واليقين جَعَلت العاقبة للمتقين، يوم أحد كسرت رباعيته وشج رأسه وقتل عدد من أصحابه، ولكن العاقبة للمتقين: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].
أحاط الأحزاب في المدينة من العرب واليهود وغيرهم، وساء ظن بعضهم بالله، واشتد الكرب؛ ولكن الله هزمهم بريحٍ أرسلها عليهم فرقت جمعهم، وشتَّت شملهم، ولم يمكنهم الله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً) [الأحزاب:25].
ويوم الحديبية يصده المشركين عن بيت الله الحرام لما أراد العمرة، وتُعقد الهدنة في شروطٍ فيها إجحاف على المسلمين ظاهر؛ ولكن الله -جل وعلا- بقدرته حولها إلى أن تكون سبباً لفتح مكة، ودخولها في الإسلام في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
تعرض المسلمون في حملة التتار الغاشمة التي لم تبقِ ولم تذر، ولكن أعقبها خيرٌ للإسلام والمسلمين.
والحروب الصليبية وما جرى فيها من شر وبلاء، وانتهت العاقبة للمتقين، والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، والعاقبة للمتقين؛ لكن بالصبر واليقين تنال الإمامة بالدين.
أيُّها المسلمون: إن المتتبع لأحداث اليوم، والسامع لأحداث اليوم في عالمنا الإسلامي، يزداد هماً وحزنا، وإنه لَيتألم، يعتصر قلب المسلم مما يسمعه ويشاهده مما تنقله الشاشات عن هذه الفتن العارمة، والاضطرابات والانقسامات والبلايا التي شقت عصا الأمة، وشتتت شملها، وفرقت كلمتها، وتمكنت الغوغاء ومَن لا رأي ولا عقل عنده من ذبذبة الأمور، وتفريق الكلمة، وشق عصا الطاعة، والفرقة بين أبناء المجتمع المسلم، بوسائلهم المختلفة، وآرائهم الضالة.
كما لبّسوا على الأمة أن أعمالهم إنما هي ديمقراطية وعدالة وإنصاف؛ ولكن تحول الأمر إلى ظلم وعدوان، وإلى انقسام وشقاق، وإلى اضطراب في الأمور، فنسأل الله شكر نعمته، وحسن عبادته، ونسأله أن يمن على الأمة باليقظة من غفلتها، والإنابة إلى الله، ومراجعة النفس، ومحاسبة النفس، وأن يجعل في الأمة ذا عقل ورأي سديد يقودها للخير، ويحملها على الخير عن هذا الانقسام العظيم الذي أحدثه أعداء الإسلام لما عجزوا عن استعمال القوة، أرادوا بالثقافة إضعاف كيان الأمة وإذلالها وتمدمير اقتصادها وصناعتها وزراعتها وأعمالها، إلى أن تعود فقيرة مستصغرة ذليلة لغيرها؛ ليتمكن الأعداء مما يريدون؛ ولكن، يأبى الله إلا أن ينصر دينه، ويعلي كلمته.
إن على المسلم أن يستعين بالله، ويحسن الظن بالله، ويعلم أن ما أصاب الأمة فبالذنوب والمعاصي، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41]، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:165]، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد؛ امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك سيد ولد آدم، سيد الأولين والآخرين.
وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، واجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللَّهمَّ اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمرنا، وأصلح ولاة أمور المسلمين عامة.
اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبدالله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللَّهمَّ سدده في أقواله وأعماله، وبارك له في عمره وعمله، وألبِسْه ثوب السلامة والصحة والعافية، واجعله بركة على المجتمع المسلم إنك على كل شيء قدير.
اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بنَ عبدِ العزيزِ لكل خير، وأعنه على مسؤوليته، وبارك له في عمره وعمله، ودله على ما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].
عبادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم