عناصر الخطبة
1/ أعمال الإنسان تظهر نتائجها عند مماته 2/ الأعمال بالخواتيم 3/ أسباب سوء الخاتمة 4/ خوف السلف من سوء الخاتمة 5/ من علامات خذلان الله للعبد 6/ الانخداع ببريق الفنانين 7/ الاعتبار بمصائر أهل السوءاقتباس
إن الأعمال بالخواتيم، والأيام بالعواقب، وإن الخواتيم ميراث السوابق، فمن أدمن على معصية يخشى عليه أن تقبض روحه وهو مواقعها. أخرج البخاري من حديث سهل بن سعد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالخواتيم"، ولهذا كانت قلوب الأبرار معلقة... عباد الله: عندما يقع الموت، تزول الوساوس، وتضمحل الأوهام، ويشهد الناس بالحق على من مات، فإن عمل الإنسان الذي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المؤمنون: لقد جعل الله سبحانه في ثنايا حياة بني آدم عبرًا لهم وعظات، لتكون لبعض المسلمين ممن أراد الله نجاته رادعًا وزاجرًا، فيستفيق من سكرته، ويرجع من غفلته.
وإن هذه لَمِن نِعَمِ الله التي لا تعد ولا تحصى، فينبغي للعاقل أن يجعل له من صروف الدهر، وما يقع من البلاء على غيره معتبرًا وفكرًا، أخرج مسلم في صحيحه قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره".
فاحرص -رعاك الله- على أن تكون من السعداء الذين يتعظون بغيرهم، وإياك إياك أن تكون من الأشقياء الذين يكونون عظة بغيرهم، فلا ينتبهون إلا عند فوات الأوان.
أيها المسلمون: إن أعمال الإنسان في حياته -صالحة كانت أم سيئة- تظهر نتائجها واضحة جلية عند مماته، ولذلك أثر عن كثير من السلف -رحمهم الله- الخوف من الخاتمة.
كان سفيان الثوري يشتد قلقه من السوابق والخواتيم، فكان يبكي ويقول: "أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت".
عباد الله: إن الأعمال بالخواتيم، والأيام بالعواقب، وإن الخواتيم ميراث السوابق، فمن أدمن على معصية يخشى عليه أن تقبض روحه وهو مواقعها.
أخرج البخاري من حديث سهل بن سعد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالخواتيم"، ولهذا كانت قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم يقولون: بماذا يختم لنا؟!
فالحذر الحذر -عباد الله- من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا يخذل العبد عند موته، قال ابن أبي جمرة عن الخاتمة: "هذه هي التي قطعت أعناق الرجال، مع ما هم فيه من حسن الحال؛ لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم".
وقال الحافظ عبد الحق الأشبيلي -رحمه الله-: "واعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسبابًا، ولها طرق وأبواب، أعظمها الانكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجرأة على معاصي الله -عز وجل-، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه، وسبى عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبين المراد، ولا علم ما أراد، وإن كرر عليه الداعي وأعاد".
وقال -رحمه الله-: "واعلم أن سوء الخاتمة إنما تكون لمن له فساد في الأصل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب عليه ذلك، حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله".
أيها المؤمنون: إن من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنة، وروي أن رجلاً قيل له وهو يحتضر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: عشرة بأحد عشر. وقال عبد العزيز بن أبي داود: "حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة، لا إله إلا الله، فقال آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر". وكان عبد العزيز يقول: "اتقوا الذنوب؛ فإنما هي التي أوقعته".
وآخر قبضت روحه وهو في جريمة الزنا، وآخر قبضت روحه وهو سكران، فشتان شتان بين هؤلاء وبين من ختم له بالحسنى، كمن قبضت روحه وهو ساجد لله تعالى، ومن قبضت روحه وهو صائم، ومن قبضت روحه وهو يلهج بذكر الله.
عباد الله: إن الأعمال الصالحة هي الدليل إلى حسن الخاتمة، وعلى العكس إن الأعمال السيئة هي الدليل إلى الخاتمة السيئة، والعياذ بالله.
وإن من علامات خذلان الله للعبد: أن يسمع العبد بمثل هذه القصص، وتقع أمام ناظريه، ثم لا يتوب ولا يتذكر، أين نحن من عباد الله المخلصين، الذين صدقوا الله في حياتهم، فثبتهم الله عند مماتهم؟! فها هو طاوس بن كيسان -رحمه الله- يموت وهو حاج يلبي، وها هو مجاهد بن جبر -رحمه الله- يموت وهو ساجد في مصلاه، ولما حضرت زكريا بن عدي -رحمه الله- الوفاة، رفع يديه وقال: "اللهم إني إليك لمشتاق".
ولقد أخبرني الثقة أن شابًّا في مقتبل حياته، نشأ في عبادة الله، فقال لأبيه يومًا: لنذهب إلى بيت الله الحرام لأداء العمرة، وبعد إصرار شديد، ذهب هو وأبوه، فلما انتهيا من العمرة قال لأبيه: يا أبتي: إن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريب، فلو ذهبنا إلى مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أوقفا سيارتهما بجوار الحرم، نزل الشاب سريعًا وهو شاخص ببصره إلى المسجد الحرام، شوقًا إليه، فلما عبر الطريق جاءت سيارة مسرعة فاصطدمت به، فأسرع إليه أبوه مكبًا عليه، فإذا هو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يقول لأبيه: يا أبتي: لقِّنِّي سيد الاستغفار، ويكرر ذلك، والأب لا يحفظه، يقول: ثم انطلق لسان الشاب مرددًا لسيد الاستغفار: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، حتى ختمه ثم فاضت روحه، رحمه الله.
أيها المسلمون: فارنوا -رحمكم الله- بين هذه الموتات، وبين من حيل بينه وبين ما يشتهي، وعلى المسلم العاقل أن يصدق مع الله في الرخاء، ليثبت عند البلاء؛ وأن تكون له عبرة وعظة بمن حوله، ممن ابتلي بسوء الخاتمة.
اللهم وفقنا لحسن الخاتمة، واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
الخطبة الثانية:
عباد الله: عندما يقع الموت، تزول الوساوس، وتضمحل الأوهام، ويشهد الناس بالحق على من مات، فإن عمل الإنسان الذي يختم له به هو الدال على خبث طويته، أو حسن نيته، فشتان بين من يموت في أرض الجهاد يقاتل أعداء الله، بائعًا نفسه لله، وبين من يموت على خشبة المسرح وقد ضم بين جنبيه آله اللهو، ومن مات على شيء بعث عليه، ومن مات حاجًا بعث ملبيًا، ومن قتل في سبيل الله، بعث وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، كما ثبت ذلك عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المؤمنون: الجميع قد سمع بفاجعة الفن، حيث إن الله تعالى جعلهم عبرة للناس، فختم لهم بشر خاتمة، وإنها والله لموقظة لمن كان له قلب، وأراد الله له الهداية.
وإننا لا نكفر أحدًا من المسلمين بكبائر الذنوب، ولا نجزم لأحد من المسلمين بجنة ولا بنار، إلا من شهد له القرآن أو السنة.
إلا أن صاحب الخاتمة السيئة يُخشى عليه من العذاب الأليم، فالذنوب وإن أسرها العبد، وستره الله عليها، إلا أن صاحبها قل أن يوفق لحسن الخاتمة، بل تغلب عليه ذنوبه عند الموت، فيختم له بسوء، والعياذ بالله.
وإياك -أخي المسلم- ثم إياك أن تنخدع بتلك الحجب التي يسدلها أهل الإعلام والفن على تلك الخاتمة السيئة، بقولهم: المناضل، وشهيد الفن، وأبى إلا أن يسعد جماهيره، فإن هذه الزخارف تتقشع وتزول عند الموت، وبيان الخاتمة.
فمَنْ مِن الناس يتمنى أن يختم له بتلك الخاتمة السيئة، فالواجب على المسلم المكلف من الجن والإنس، الاتعاظ بما يجري ويحصل، وأن يخشى من سوء الخاتمة، وأن يستعيذ منها دائمًا، وأن يفر من المعاصي التي توبق العبد عند فراقه للدنيا.
ثم اعلموا -عباد الله- أن كلمة شهيد من الألفاظ الشرعية التي لا يجوز إطلاقها على أحد من الخلق، إلا من أطلقها عليه الشرع، فالشهيد هو من عده الشرع شهيدًا، كمن يبيع نفسه في أرض المعركة أو يصاب بمرضٍ عدّه الشرع شهادة، كالغرق وصاحب الهدم ونحوهم، أما أن يموت العبد وهو مقارف للمعاصي ثم يطلق عليه شهيدًا، فإن هذا من التلاعب بألفاظ الشرع، ومن العبث بعقول المسلمين، ومن قلب الحقائق وتزييف الباطل.
أيها المؤمنون: إن العاقل اللبيب الذي يعتبر بمصارع أهل السوء، ويتفكر في الذي أدى بهم إلى هذا المصرع السيئ، ويحذر من الذنوب والمعاصي جميعًا، فإنها هي من أكبر أسباب سوء الخاتمة، وأن يديم الاستعاذة من سوء الخاتمة، فلقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ منها، أخرج النسائي من حديث أبي اليسر –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: "وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت".
قال الخطابي -رحمه الله-: "وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت: فيُضله ويحول بينه وبين التوبة، فيختم له بالسوء، ويلقى الله وهو ساخط عليه".
وكان -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه حسن الخاتمة، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك عيشة تقية، وميتة سوية، ومردًا غير مخزٍ"، والميتة السوية أن تقبض روحه وهو على طاعة، من صلاة أو ذكر أو نحو ذلك.
اللهم وفقنا لحسن الخاتمة، اللهم أصلح لنا النية، ووفقنا لما تحبه وترضاه من الأعمال الصالحة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم