عناصر الخطبة
1/ عِظَمُ حرمة الدماء المعصومة 2/ مستوجباتُ عِظَمِ حرمةِ دماء المسلمين 3/ آثار التدمير والتفجير الانتحاري الذي شهدته البلاد 4/أسباب نشوء فكر البغي 5/ وسائل لحماية الأبناء من الغلوّاقتباس
إن عظم حرمة الدم المسلم عند الله يوجب الحياء من الله أن يعتدي شخص مسلم على أخيه بالقتل أو الضرب أو أي شكل من أشكال العدوان والظلم، يوجب الخوف والحياء من الله لأنه اعتدى على شخص جاء فيه: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قتل غلام غيلة، فقال عمر -رضي الله عنه-: "لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به" أخرجه البخاري.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك العظيم، البر الرحيم، يحكم بالحق ويقضي بالعدل، إن ربي على صراط مستقيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنقذ قائلها ومن عمل بمقتضاها من العذاب الأليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين لأمته ما ينفعها من الخير وحذرها عن الشر الذي يوقعها في عذاب الجحيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في نهجهم القويم، وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله: روى البخاري في صحيحه -رحمه الله تعالى- عن سعيد بن العاص عن أبيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراماً"، والدم الحرام كل ما حرم سفكه سواءً كان مسلماً أو معاهَداً. قال ابن العربي: الفسحة في الدين: سعةُ الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تفي بوزره.
وروى البخاري -أيضاً- عن ابن عمر: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدمِ الحرام بغير حله". والورطات جمع ورطة، وهي الهلاك. وقد أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر: "زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم".
ومما يدل -كذلكم- على عظم حرمة دماء المسلمين ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" رواه البخاري . وفي رواية لمسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء".
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا حرمة دم المسلم، وأنه ليس رخيصاً عند الله -عز وجل-، وهذا مدعاة ثقة بالله -سبحانه- وحب له، وثقة بهذا الدين الذي ننتسب إليه، وافرح -أيها المؤمن- أن كانت هذه منزلتك عند خالقك.
إن عظم حرمة الدم المسلم عند الله يوجب الحياء من الله أن يعتدي شخص مسلم على أخيه بالقتل أو الضرب أو أي شكل من أشكال العدوان والظلم، يوجب الخوف والحياء من الله لأنه اعتدى على شخص جاء فيه: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قتل غلام غيلة، فقال عمر -رضي الله عنه-: "لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به" أخرجه البخاري. وفي رواية في الموطأ أن عمر -رضي الله عنه- قتل خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة، وقال -رضي الله عنه-: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً".
فيا عجباً من رحمة الله وقوة هذا الدين وعدله وطهارته! والأعجب منه أن يعتنق أناس ديناً آخر يبيح إراقة الدماء بأبسط الأسباب، وأتفه الأمور، يبيدون الجماعات، ويدبرون المجازر الجماعية، في الوقت الذي يرفعون راية الحضارة، ويدعون الرقي والتقدم، ويزعمون أنهم يدافعون عن حقوق الإنسان! وأما من يدعي الإسلام، ويعتقد أن قتل المسلم الذي يخالف مبادئه قربة إلى الله -تعالى- فهذا أدهى وأمر، ويزداد حرمة إذا كان في الشهر الحرام أو البلد الحرام أو فيهما معاً، حتى ذهب جمع من أهل العلم، منهم الإمامان مالك والشافعي، إلى أن الدية تغلظ في الشهر الحرام.
معاشر المسلمين: ومنذ سنتين تقريباً شهدت بلاد الحرمين -حرسها الله- لوناً من ألوان القتل، اختلط فيه الحابل بالنابل، والتدمير والتخريب، روع الآمنين، دافعه استبطان أفكار مضللة وآراءٍ شاذة، ومبادئ ضلت الطريق، أضافت إلى قتل الغير قتل نفسها، والله -جل وعلا- يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء:29-30].
مفاسد عظيمة، وشرور كثيرة، وإفساد في الأرض، وترويع للمؤمنين والآمنين، جرائم نكراء، في طيها منكرات تثير الفتن، وتولد التحزب، وتخذل الدعوة، وتشغل الدعاة المصلحين، وتفتح أبواب الشر أمام ألوان من الصراعات، بل ربما هيأت فرصاً للتدخلات الأجنبية بحجة أو بأخرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله!.
وإن الموقف الصريح الذي لا لبس فيه، ولا يختلف عليه، إنكار هذا العمل الشنيع، واستنكاره، ورفضه، وتجريمه، وتحريمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1].
أحمده -سبحانه- على نعمه العظمى، وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، عليم حليم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون، لسائل أن يسأل: ما أسباب نشوء هذه الأفكار التي تنزع إلى العنف، وترى الحل والإصلاح لا يتم ولا يقوم إلا بالسلاح؟.
إن الجهل سيد الأسباب المشار إليها، وهو الأول بدون منافس.
وثانيها: الوقوع في دائرة الغلو، المؤدي إلى الهلاك حتماً؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والغلوّ! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" أخرجه أحمد، والغلو: مشاقة حقيقية لهدي الإسلام، وإعراض عن منهجه في الوسطية والاعتدال، والرحمة واليسر والرفق، الغلو ظلم للنفس وظلم للناس، بل هو صد عن سبيل الله لما يورثه من تشويه وفتنة وتنفير، وهو بدعة في الدين، وقد قال أبو قلابة: "ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف".
وأمر هذا شأنه فإن مصير صاحبه الهلاك، بنص حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- السابق، وبقوله: "هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! هلك المتنطعون!".
والسبب الثالث من أسباب نشوء فكر البغي: ردود الفعل التي تتولد عند بعض الشباب، ومرجعها أن فريقاً منهم سبق له إسراف على نفسه بالمعاصي ولجاج في الفساد، ثم ندم على تفريطه السابق، وقاده الجهل والهوى إلى أن الوسيلة الوحيدة للخروج من تلك الذنوب أن يقدم نفسه رخيصة في سبيل الله! هكذا يظن، ويحسب الأمر هيناً! تغلب عليه العبثية في تقييمه ونظرته!
يريد السعادة في موته *** ولم يدر ماذا وراء القدر
وفريق ثان عرف عنه الصلاح، لكن آلمه تسلط الكفار، ولا يملك صبراً على الدعوة والتعليم والتربية، فيختصر الطريق بتفجير؛ ظناً منه أنه الطريق الأسرع إلى الجنة.
وفريق ثالث لديه علم بالشرع، ولكن عبثت به الشبه في عقله، فلم يستطع دفعها إلا بممارسة أعمال التفجير والتدمير، موهماً نفسه أنه على الأقل له أجر المجتهد المخطئ، ونسي أنه ليس من أهل الاجتهاد، وجَهِلَ مواصفات العالم المجتهد.
لقد مكث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاثة عشر عاماً يرسخ عقيدة التوحيد، ويربي أتباعه على التجرد لله، وإسقاط حظوظ أنفسهم، والتغلب على شحها، لتتجرد لله وحده.
كان العربي يأنف أن تمس بهيمته بأذى، وتثور الحرب من أجل ذلك، أما أن يتطاول على شخصه أحد فهذا لا يمكن بحال من الأحوال أن يقبله أو يسكت عليه، هكذا كانت عاداتهم، وحينما جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- بالإسلام من عند ربه أراد الله -جل وعز- منهم أن يخلعوا كل شيء على عتبة الإسلام؛ تجرداً لله، وخضوعاً له، واستسلاماً وانقياداً لكل ما يأتي من رب العالمين، وألّا ينتصروا لأنفسهم في موقف أبداً، وإنما عليهم أن يتلمسوا ويتعرفوا على مراد الله ومحبوبه وشرعه فيأتوه؛ ونقْلهم من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية تطلب ثلاثة عشر عاماً من الجهود المضنية المؤيدة بالوحي المتواصل نزوله على الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والحاصل مما سبق -معاشر الفضلاء- أن الإسلام قد يمر بمحن مزلزلة، واختبارات قاسية لأهله، وعليهم أن يصبروا، ويوطنوا أنفسهم، ويضبطوا تصرفاتهم ولو شعروا بالإهانة، فليس الأمر بدعاً، فقد أوذي أنبياء الله -تعالى-، وأخرجوا من ديارهم، وقوتلوا، وقُتلوا، فصبروا؛ ومنه نعلم خطأ ما يفعله من يعمدون إلى التفجير وسيلةً للإصلاح، وأنهم إنما يهربون من الإصلاح والصبر عليه ومتطلباته.
وأخيراً -معاشر الآباء الفضلاء- وقفة صادقة مع النفس: إذا أردت إصلاح ولدك فأصلح نفسك أولاً، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وإذا أردت أن يسلك ولدك طريقاً وسطاً ومعتدلاً بين الإفراط والتفريط فلا تدعه يرى عليك جنوحاً في التفكير والتدين، وليتعلم منك أن الإسلام إسلام، والإجرام إجرام، والإصلاح غير الفساد، وإيذاء المؤمنين وسفك دمائهم ليس هو الجهاد المشروع، وليتعلم منك -نظرياً وعملياً- الصدق والصدقة، والعفاف والعفة، والعبادة، وطيب المأكل والمروءة، وحب الله ورسوله.
وحذار أن تحاول حمله على أن الوسطية والاعتدال تفلتٌ من التكاليف الشرعية، وتقصير في أداء الواجبات، وغشيان للمنكرات! حذار أن تحاول تلقينه أن التدين تساهل وتهاون ومزاجية؛ إنك إن فعلت ذلك فقدت مصداقيتك عنده، حتى وإن سكت أمامك، وأظهر لك الموافقة، فإن سكوته احتقان في فكره ينتظر متى يجد متنفساً آخر ليفرغه فيه.
لم يعد مصدر التعليم والتوجيه والتربية قاصراً على البيت فقط، أو المدرسة وحدها، أو هما معاً، بل استجدت وسائل أخرى، كالقنوات الفضائية، وما يدور فيها من تحاليل أو حوارات أو إضاءات أو إظلامات! وما يكتب قراءة وسماعاً على مواقع الشبكة العالمية له أثره، وابنك قد يطلع عليها، علمت أم لم تعلم.
واعلم -أيها الأب الكريم- أن تشجيعك ابنك على الذهاب إلى حلقات تحفيظ القرآن، واشتراكه في المناشط المدرسية، التي يقوم عليها خيرة من الأساتذة والمدرسين، وحضه على الصلاة جماعة مع المسلمين في المساجد... اعلم أن ذلك من أحسن الوسائل لحماية ابنك من الغلو المذموم، والتطرف المشؤوم.
سدد الله خطا العاملين والمصلحين، وهدى الله ضال المسلمين، ورد كيد الكائدين وأبطله، وأعاذنا الله جميعاً من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا وأغننا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا للخير، ودله إليه، وثبته عليه.
اللهم من أرادنا في ديننا وأمننا وأخلاقنا وقيمنا وبلادنا بسوء فأشغله في نفسه، اللهم من كادنا فكده، ومن بغي علينا فكف عنا شره بما تشاء، وأنت الحفيظ السميع...
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم