حركة الردة (1)

ناصر بن محمد الأحمد

2010-02-26 - 1431/03/12
عناصر الخطبة
1/ وقائع حركة الردة 2/ أسباب ارتداد القبائل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم 3/ أصناف المرتدين 4/ تصميم أبي بكر الصديق على قتالهم 5/ بُعد نظر الصديق أبي بكر رضي الله عنه 6/ خبر حركة بغايا اليمن

اقتباس

وبهذا يكون المرتدون أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ..

 

 

 

أما بعد: 

أيها المسلمون: حركة الردة بدأت منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لماّ تستعلن بشكل واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري -وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزل به وجعه الذي مات فيه، وتسامع بذلك الناس- بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرّأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه، ولما كانا أخطر متمردين على الإسلام -وهما الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب- وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق ردتهما قُدمًا دون أن يفكرا في الرجوع، وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة، فقد أَرى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أمرهما ما تقرّ به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده، فقد قال يومًا وهو يخطب الناس على منبره: "أيها الناس، إني قد أُريت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب، فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن وصاحب اليمامة".

وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة، فقالوا: إن نفخه -صلى الله عليه وسلم- لهما يدل على أنهما يُقتلان بريحه؛ لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإنّ وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما؛ لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان؛ لأن الأساورة هم الملوك، ودلاّ بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة؛ لكون السوار مضيقًا على الذراع.

إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها أسباب، منها: الصدمة بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنها رقة الدين والسَّقَم في فهم نصوصه، ومنها الحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، ومنها رغبة التفلّت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، ومنها العصبية القبلية والطمع في الملك، ومنها التكسب بالدين والشح بالمال، ومنها التحاسد، ومنها المؤثرات الأجنبية، كدور اليهود والنصارى والمجوس.

وأما أصنافهم: فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً وعاد إلى الوثنية وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحيّر وتردد وانتظر على من تكون الدائرة.

وبهذا يكون المرتدون أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

فلما ظهرت حركة الردة قام أبو بكر -رضي الله عنه- في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأعفى، إن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رثّ حبله، وخَلَق ثوبه، وضل أهله منه، إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم، والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويُقتل من قتل منا شهيدًا من أهل الجنة".

وقد أشار بعض الصحابة -ومنهم عمر بن الخطاب- على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق عن ذلك وأباه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو بكر -رضي الله عنه-، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر -رضي الله عنه-: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"؟! فقال: والله لأقاتلنّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق. ثم قال عمر بعد ذلك: والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة.

وفعلاً كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين رأيًا ملهمًا، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ، وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فسادًا.

لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين، وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح، إلا أنه كان سريع القرار، حاسم الرأي، فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له، وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر في حياته كلها، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.

لقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- أبعد الصحابة نظرًا، وأحقهم فهمًا، وأربطهم جنانًا، في هذه الطامة العظيمة، والمفاجأة المذهلة، كان موقف أبي بكر -رضي الله عنه- الذي لا هوادة فيه، ولا مساومة فيه ولا تنازل، موقفًا ملهمًا من الله، يرجع الفضل الأكبر بعد الله تعالى في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقرّ الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية، ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقفَ الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقها، واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله الأرض وأهلها.

انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه، فقرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسة، وتفرّس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تُؤتَوْن أم نهارًا! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يُؤمّلون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدّوا وأعدّوا.

ووضع الصديق خطته، فألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع، ونظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها، حتى يدفعوا أي غارة قادمة، وعيّن على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-، وبعث أبو بكر -رضي الله عنه- إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب، يأمرهم بجهاد أهل الردة، فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق -رضي الله عنه-، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن جهينة وحدها قَدِمت في أربعمائة من رجالها ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزّعها أبو بكر في الناس.

وبعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينةَ ليلاً، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أنِ الزموا أماكنكم، ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فهرب العدو، فأتبعهم المسلمون على إبلهم، فظن القوم بالمسلمين الوهن، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبَّى الناس، ثم خرج يمشي، وعلى ميمنته النعمان بن مقرّن، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرّن، وعلى الساقة سويد بن مقرّن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسًا ولا حسًا، حتى وضعوا فيهم السيوف، فاقتتلوا ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقُتل أخو طليحة الأسدي، وأتبعهم أبو بكر وكان أول الفتح، ووضع بها النعمان بن مُقَرن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذل بها المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين، فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم.

وعزّ المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين، وصمم الصديق -رضي الله عنه- على أن ينتقم للمسلمين الشهداء، وأن يؤدب هؤلاء الحاقدين، ونفّذ قسمه، وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتًا على دينهم، وازداد المشركون ذلاً وضعفًا وهوانًا، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة، وفي ليلة واحدة أثِرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: "نذير"، فيقول أبو بكر: "بل بشير"، وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه، وخلال هذه البشائر -التي تحمل معها بعض العزاء وشيئًا من الثراء- عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا، وصنع كل ما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق، فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وقال له ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم، ثم خرج بالذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله -يا خليفة رسول الله- أن تُعرّض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلاً، فإن أصيب أمرت آخر، فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.

لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد -في فهم المسلمين- قدوة في أعماله، فكان من آثاره هذه السياسة الصدّيقية أن تَقَوّى المسلمون وتشجّعوا لحرب عدوهم، واستجابوا لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة، لقد خرج الصديق في تعبيته حتى نزل على أهل الرَّبذة بالأبرق، فهزم الله الحارث وعوفًا، وأخذ الحطيئة أسيرًا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أيامًا.

وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا، إن خروج الصديق -رضي الله عنه- للجهاد ثلاث مرات متتالية يعتبر تضحية كبيرة وفدائية عالية، إن خروجه للجهاد ثلاث مرات متتاليات -وهو الشيخ الذي بلغ الستين من عمره- قد أعطى بقية الصحابة دفعات قوية من النشاط والحيوية.

قسّم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواءً، وجعل على كل لواء أميرًا، وأَمَرَ كل أمير جند باستنفار مَنْ مرّ به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها، وهكذا اتخذت قرية ذي القَصَّة مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاء عليها، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.

انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى -عز وجل- وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله -جل وعلا- هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره، وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.

نسأل الله -جل وتعالى- الثبات على دينه...

نفعني الله وإياكم بهدي ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: من أخبار المرتدين: ما حصل من بعض النسوة في اليمن، فقد قامت بعض بنات اليمن من يهود أو مَنْ لَفَّ لفهنّ في حضرموت، فقد طرن فرحًا بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقمن الليالي الحمراء مع المجّان والفسّاق، يشجعن على الرذيلة، ويزرين بالفضيلة، فقد رقص الشيطان فيها معهنّ وأتباعه طربًا؛ لنكوص الناس على الإسلام، والدعوة إلى التمرد عليه وحرب أهله، لقد حنَّت تلك البغايا إلى الجاهلية وما فيها من المنكرات، وانجذبن إليها انجذاب الذباب إلى أكوام من الأقذار، فقد تعودن على الفاحشة في حياتهنّ الجاهلية، فلما جاء الإسلام حَجَزَتْهُنَّ نظافتُه عنها، فشعرن وكأنهنّ بسجن ضيق يكدن يختنقن فيه، ولذا ما إن سمعن بموته -صلى الله عليه وسلم- حتى أظهرن الشماتة، فخضبن أيديهنّ بالحناء، وقمن يضربن بالدفوف ويغنين فرحتهنّ، فقد تحقق لهنّ ما كنّ يتمنينه على السلطة الجديدة، وكان معظمهنّ من علية القوم هناك، وبعضهنّ يهوديات.

لقد عُرفت هذه الحركة في التاريخ بحركة البغايا، وكنّ نيفًا وعشرين بغيًّا متفرقات في قرى حضرموت، ووصل الخبر إلى الصديق، وأرسل رجل من أهل اليمن إليه هذه الأبيات:

أبلغ أبا بكر إذا ما جئتـه *** أن البغايا رمـن شـرَّ مـرام
أظهرن من موت النبي شماتة *** وخضـبن أيديهـن بالعنـام
فاقطع هديت أكفهن بصارمٍ *** كالبرق أمضى من متون غمام

فكتب أبو بكر -رضي الله عنه- إلى عامله هناك المهاجر بن أبي أمية كتابًا في منتهى الحزم والصرامة، جاء فيه: فإذا جاءك كتابي هذا فَسِرْ إليهنّ بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهنّ، فإن دفعك عنهنّ دافع، فأعذر إليه باتخاذ الحجة عليه، وأعلمه عظيم ما دخل فيه من الإثم والعدوان، فإن رجع فاقبل منه، وإن أبى فنابذه على سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين.

فلما قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله ورجله وسار إليهنّ، فحال بينه وبينهنّ رجال من كندة وحضرموت فأعذر إليهم، فأبوا إلاّ قتاله، ثم رجع عنه عامتهم، فقاتلهم فهزمهم، وأخذ النسوة فقطّع أيديهنّ، فمات عامتهنّ وهاجر بعضهنّ إلى الكوفة.

لقد نلن جزاءهنّ في محكمة الإسلام العادلة؛ إذ أخذهنّ عامل أبي بكر على تلك البلاد، وطبق عليهنّ حد الحرابة.

ومن المرتدين طليحة الأسدي: قدم مع وفد قومه أسد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عام الوفود، سنة تسع للهجرة، فسلّموا عليه، وقالوا له: جئناك نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، ولما عادوا ارتد طليحة وتنبأ، وعسكر في منطقة في بلادهم، واتبعه العوام واستُكشف أمره، ومن خزعبلاته أنه رفع السجود من الصلاة، وكان يزعم أن الوحي يأتيه من السماء.

وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يحسم أمر طليحة، وتولى الخلافة الصديق -رضي الله عنه-، وعقد الألوية للجيوش والأمراء للقضاء على المرتدين، وكان من ضمنهم طليحة الأسدي، ووجه إليه الصديق جيشًا بقيادة خالد بن الوليد.

سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى وعَبَّأ جيشه هنالك، والتقى مع طليحة بمكان يقال له: "بزاخة"، ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم، وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة، واصطف الناس وجلس طليحة ملتفًا في كساء له يتنبأ لهم، ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل، حتى إذا ضجر من القتال جاء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه، وقال له: أجاءك جبريل؟! فيقول: لا، فيرجع فيقاتل. ثم يرجع فيقول له مثل ذلك، ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟! قال: نعم، قال: فما قال لك؟! قال: قال لي: إن لك رحًا كرحاه، وحديثًا لا تنساه، قال عيينة: أظنّ أنه قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه، ثم قال: يا بني فزارة: انصرفوا، وانهزمَ وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدّها، وأركب امرأته النوّار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه.

وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه: جِدّ في أمرك ولا تلن، ولا تظفر بأحد من المشركين قَتل من المسلمين إلا نكّلت به. فأقام خالد ببزاخة شهرًا في الطلب الذي وصاه الصديق، فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرًا، يأخذ بثأر من قُتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرقه بالنار، ومنهم من رضخه بالحجارة، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب.

وكان عيينة بن حصن من بين الأسرى، فأمر خالد بشد وثاقه تنكيلاً به، وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه، إزراءً عليه وإرهابًا لسواه، فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة مستهزئين، وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين: أي عدو الله: ارتددت عن الإسلام! فيقول: والله ما كنت آمنت قط. وجيء به إلى خليفة رسول الله، ولقي من الخليفة سماحة لم يُصدّقها، وأمر بفك يديه ثم استتابه، فأعلن عيينة توبة نصوحًا، واعتذر عما كان منه، وأسلم وحسن إسلامه.

أما طليحة فمضى حتى نزل قبيلة كلب على النقع فأسلم، ولم يزل مقيمًا في كلب حتى مات أبو بكر -رضي الله عنه-. وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرًا قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمرًا في إمارة أبي بكر، واستحيا أن يواجهه مدة حياته، ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به، خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام.

هذا وقد حسن إسلام طليحة الأسدي، وقد كان إسلامه صحيحًا، وقال يعتذر ويذكر ما كان منه:

ندمت على ما كان من قتل ثابتٍ *** وعُكّاشة الغنمي ثم ابن معبد
وأعظم من هاتين عندي مصيبة *** رجوعي عن الإسلام فعل التعمد
وتركي بلادي والحوادث جَمَّـة *** طريدًا وقِدْمًا كنت غير مُطَرَّد
فهل يقبل الصديق أنى مراجع *** ومعطٍ بما أحدثت من حدثٍ يدي
وأني من بعد الضلالـة شاهـد *** شهادة حق لست فيها بملحـد
بأن إله النـاس ربـي وأننـي *** ذليل وأن الدين ديـن محمـد

وقد منع الصديق -رضي الله عنه- بعد ذلك المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام، وهذا درس عظيم تتعلمه الأمة في عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في الإلحاد ثم ظهر منهم العود إلى الالتزام بالدين، على أن أخذ الحذر من مثل هؤلاء لا يعني اتهامهم في دينهم، ولا نزع الثقة منهم بالكلية.
 

 

 

 

المرفقات

الردة (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات