عناصر الخطبة
1/ ضرورة التدبر في القصص النبوي والقرآني 2/ فوائد تربوية من قصة أصحاب الغاراقتباس
والنجاة من مثل هذه الشهوات إنما يكون لمن عمل الصالحات وأخبت إلى الله، بحيث يكون أهلاً للنجاة من مثل هذه الأمور، فإن أهل المعصية يخذلون في مثل هذه المواقف، بعكس عباد الله الصالحين، فإن رعاية الله تشملهم، ألم تسمع لقوله...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه...
أما بعد:
فيا أيها الناس: لقد ذكر الله لنا في كتابه من القصص ما يكون لنا فيه عبرة وهداية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)، وكذلك قص النبي -صلى الله عليه وسلم- امتثالاً لأمر ربه: (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
لذا كان لزامًا على المرءِ المريدِ نجاة نفسه أن يتدبر هذه القصص لما فيها من العبر التي تسير بالمسلم إلى بر الأمان، بل إلى رضوان الله والجنة، وإن من تلك القصص التي قصها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إليّ فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله: أدِّ إليَّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله: لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك.
فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون".
عباد الله: هذا الحديث قد اشتمل على فوائدَ عظيمة، مَن تأمل فيه خرج بها بلا تعب، ولعلنا نمر على بعض من تلك الفوائد.
قوله: "فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار"، زاد الطبراني في حديث النعمان بن بشير من وجه آخر: "إذ وقع حجر من الجبل مما يهبط من خشية الله حتى سد فم الغار"، فدلت هذه الرواية على أن سقوط ذلك الحجر إنما هو من خشية الله، كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، ولقد قال مجاهد -رحمه الله-: "كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل فهو من خشية الله -عز وجل-، نزل بذلك القرآن".
قوله: "ممن كان قبلكم"، وفي حديث عقبة بن عامر عند الطبراني في الدعاء أن "ثلاثةَ نفر من بني إسرائيل"، فدل على أنهم من أهل الكتاب.
قوله: "فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم"، في رواية: "انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله"، ومثله لمسلم وفي رواية الكشميهني: "خالصة ادعوا الله بها"، وفي رواية: "ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه"، وفي رواية سالم: "إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم"، وفي حديث أبي هريرة وأنس جميعًا فقال بعضهم لبعض: "عفا الأثر، ووقع الحجر، ولا يعلم بمكانكم إلا الله، ادعوا الله بأوثق أعمالكم"، وفي حديث علي عند البزار: "تفكروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله بها، لعل الله يفرجُ عنكم"، وفي حديث النعمان بن بشير: "إنكم لن تجدوا شيئًا خيرًا من أن يدعوَ كل امرئ منكم بخير عمل عمله قط".
قوله: "فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب"، وفي حديث أبي هريرة: "فعمل لي نصف النهار، فأعطيته أجرًا، فسخطه ولم يأخذه"، ووقع في حديث النعمان بن بشير بيانُ السبب في ترك الرجل أجرته، ولفظه: "كان لي أجراء يعملون، فجاءني عمال، فاستأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاء رجل ذات يوم نصف النهار، فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في نصف نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره كله، فرأيت علي في الذمام أن لا أنقصه مما استأجرت به أصحابه لما جهد في عمله، فقال رجل منهم: تعطي هذا مثلما أعطيتني؟! فقلت: يا عبد الله: لم أبخسك شيئًا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه بما شئت، قال: فغضب وذهب وترك أجره".
وقولها: "ولا تفضن الخاتم إلا بحقه"، أرادت به الحلال، أي لا أحل لك أن تقربني إلا بتزويج صحيح، ووقع في حديث علي: "فقالت: أذكرك الله أن تركب مني ما حرم الله عليك، قال: فقلت: أنا أحق أن أخاف ربي"، وفي حديث النعمان بن بشير: "فلما أمكنتني من نفسها بكت، فقلت: ما يبكيك؟! قالت: فعلت هذا من الحاجة، فقال: انطلقي"، وفي رواية أخرى عن النعمان "أنها ترددت إليه ثلاث مرات تطلب منه شيئًا من معروفه، ويأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها، فأجابت في الثالثة بعد أن استأذنت زوجها، فأذن لها وقال لها: أغني عيالك، قال: فرجعت، فناشدتني بالله، فأبيت عليها، فأسلمت إلي نفسها، فلما كشفتها ارتعدت من تحتي، فقلت: ما لك؟! قالت: أخاف الله رب العالمين، فقلت: خفتيه في الشدة ولم أخفه في الرخاء، فتركتها".
وفي حديث ابن أبي أوفى: "فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة ذكرت النار فقمت عنها".
اللهم اجعلنا ممن يراقبك ويخاف مقامك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:
فيا أيها الناس: فما أجمل استنباط الفوائد من الكلم الخارج من مشكاة النبوة!! فمن الفوائد المجنية من الحديث: استحباب الدعاء في الكرب والتقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله، فالله -جل وعلا- يحب أن يسمع تضرع عباده ويحب الملحين في الدعاء، ولقد مدح نفسه بقوله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء).
وفيه: فضل الإخلاص في العمل، وأن العمل الخالص ينفع صاحبه وقت الشدة، ولهذا كان السلف يستحبون أن يكون للعبد خبيئة عمل لا تعلم بها زوجته.
وفيه: فضل بر الوالدين وخدمتهما وإيثارهما على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما، كيف لا وقد قرن الله حقهما بحقه في أكثر من موضع في القرآن؟!
وفيه فضل العفة والانكفاف عن الحرام مع القدرة، وأن ترك المعصية يمحو مقدمات طلبها، وأن التوبة تجب ما قبلها.
والنجاة من مثل هذه الشهوات إنما يكون لمن عمل الصالحات وأخبت إلى الله، بحيث يكون أهلاً للنجاة من مثل هذه الأمور، فإن أهل المعصية يخذلون في مثل هذه المواقف، بعكس عباد الله الصالحين، فإن رعاية الله تشملهم، ألم تسمع لقوله تعالى عن يوسف لما راودته التي هو في بيتها عن نفسه أخبر سبحانه أنه هو المتفضل عليه بالنجاة، وعلل ذلك بصلاحه من قبل: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
وإذا ألقينا نظرة إلى أعمالهم التي ذكروها أيها أفضل، فينبغي أن يكون عمل الثالث أكثرَ فضلاً من عمل الأخيرين، ويظهر ذلك من الأعمال الثلاثة، فصاحب الأبوين فضيلته مقصورة على نفسه؛ لأنه أفاد أنه كان بارًّا بأبويه، وصاحب الأجير نفعه متعدٍّ، وأفاد بأنه كان عظيم الأمانة، وصاحب المرأة أفضلهم؛ لأنه أفاد أنه كان في قلبه خشية ربه، وقد شهد الله لمن كان كذلك بأن له الجنة؛ حيث قال: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وقد أضاف هذا الرجل إلى ذلك ترك الذهب الذي أعطاه للمرأة، فأضاف إلى النفع القاصر النفع المتعدي، ولا سيما وقد قال: إنها كانت بنت عمه، فتكون فيه صلة رحم أيضًا، وقد تقدم أن ذلك كان في سنة قحط، فتكون الحاجة إلى ذلك أحرى، ومن وجه آخر فتلك الأعمال كانت طاعات، وهذه كانت تركًا للمعصية، ولا شك أن ترك المعصية أشق على النفس، فيكون أفضلَ من فعل الطاعة، ولقد جاء في رواية أنه آخرُ من دعا، وكان سقوط الصخرة بسبب دعائه.
عباد الله: ليتأمل كل منا حال هؤلاء الثلاثة وما وقعوا فيه، فلو كانوا من أهل المعاصي، أو لو أنهم لم تكن لهم أعمال صالحة، لبقوا في هذا الغار حتى يهلكوا، وشبيه ذلك قصة يونس -عليه السلام- لما سقط في بطن الحوت لم يشفع له عند الله إلا عمله الصالح: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ للَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فإذا تبين هذا فليعد كل امرئ منا إلى نفسه سائلاً لها: هل لو كنت مع هؤلاء الثلاثة، سأجد عملاً صالحًا أدعو الله به للخروج أم لا؟! تأمل فإن وجدت فاحمد الله، وازدد من العمل الصالح، وإن لم تجد فاعلم أنك على خطر وعلى طريق مجانب للصواب فتدارك أمرك.
اللهم ارزقنا علمًا نافعًا، وعملاً صالحًا، ورزقًا واسعًا يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا لك مخبتين أواهين منيبين، اللهم اسلل سخيمة صدورنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم