حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مع القرآن

عبد القادر بن محمد الجنيد

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ عظمة القرآن ومكانته 2/ هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القرآن وبعض أحواله معه 3/ حال الصحابة والتابعين مع القرآن وبعض قصصهم في ذلك

اقتباس

هو الكتاب الذي رفع الله به هذه الأمة وأعزَّها وأكرمها، ففتحت به مشارق الأرض ومغاربها، وهزمت به جيوش كسرى وقيصر، وهَدَت به العرب والعجم، الصغار والكبار، الذكور والإناث. وهو...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي نزَّل القرآن تبصرةً لأُولي النُّهى والألباب، وتذكرةً لمن خاف الوعيدَ والعذاب، وأَودَعه من فنون العلوم والحِكم العجب العُجاب، وجعله أجلَّ الكتب قدراً، وأغزرها علماً، وأعذبها نظماً، وأبلغها في الخطاب، قرآناً عربياً غيرَ ذي عِوَج، مَن قال به صدق، ومن تعلَّمه وعلَّمه وعمِل به أُجر ورُفع، ومَن حَكم به أصاب الحقَّ وعَدَل، ومن اهتدى بهداه هُدي إلى جنات النعيم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الجبار، العزيز القهَّار، الذي عَنَت لقيوميته جميع الوجوه، وخضعت لعظمته سائر الرِّقاب، وجلَّ عن الشَّبيه والنظير والنديد.

وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسوله، وحبيبه وخليله، وخِيرته مِن خلقه؛ حيث اصطفاه من أشرف الشعوب، وجعله في خير أمةٍ أُخرجت للناس، وأكرمه بالقرآن المعجزة المستمرة على تعاقُب الزَّمان، حتى كان خُلقه في حِلِّه وتَرْحاله، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الكرام الفِخام الرُّكع السجود، ومَن سار على طريقه واتَّبع هُداه، صلاةً وسلاماً دائمَين إلى يوم الحشر والمآب.

 

أما بعد:

 

أيها الناس: فإنَّ مِن أعظم ساعات المسلم هي تلك الساعات التي يقضيها مع كتاب ربه القرآن، فيتلو ويتدبَّر ويتعلَّم الأحكام، ويأخذ العِظَة والعبرة.

 

فهو كلام الله العظيم الجليل، مالك السموات والأرضين، الذي بيده أَزِمَّة الأمور ومقاليدها، والذي أدهش العقول، وأبكى العيون، وأحيا القلوب وليَّنها، وطأطأت له رؤوس أهل الكفر، وحرَّك ألبابَ الجنِّ حين سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمنت ورجعت إلى قومها تدعوهم للإيمان به.

 

وهو الكتاب الذي رفع الله به هذه الأمة وأعزَّها وأكرمها، ففتحت به مشارق الأرض ومغاربها، وهزمت به جيوش كسرى وقيصر، وهَدَت به العرب والعجم، الصغار والكبار، الذكور والإناث.

 

وهو النور المبين في القلب، والنور المبين في الوجه، والنور المبين في المنطق والاحتجاج، والنور المبين في القبر، والنور المبين في القيامة والعرض.

 

وهو والشفاء النافع للقلوب؛ فكم من ضالٍّ قد هداه؟ وكم من شاكٍّ قد أزال شكُوكه؟ وكم من تالٍ قد أدمعه وأبكاه؟ وكم من عاصٍ قد أبعده عن عصيانه؟ وكم من مهمومٍ مكروبٍ قد وسَّع عليه وآنسه؟

 

وهو الشفاء النافع لأمراض الأبدان؛ فكم من مريضٍ تُليت عليه آياته فقام معافاً بريئاً من المرض؟ وكم من لديغ قُرئت عليه آياته فقام كأنما نشط من عقال؟

 

وهو المعجز في بيانه، الجزيل في ألفاظه، الجميل في سياقه، المتين في معناه، فكم من مبطلٍ قد أفحمه؟ وكم من عاقلٍ قد أخذ بِلُـبِّه وأدهشه؟ وكم من تالٍ لم يأتِه الملل من كثرة الترداد؟

 

أيُّها الناس: لقد كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القرآن أكمل الأحوال، وكانت عنايته به أبلغ العناية، وكان اهتمامه به أجمل الاهتمام، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير المدارسة للقرآن، فكان يتدارسه مع جبريل -عليه السلام-، فصح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة".

 

وكان صلى الله عليه وسلم يتدارسه مع أصحابه حتى تذرف عيناه دمعاً، فصح عن ابن بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اقرَأ عليَّ" قلتُ: يا رسولَ الله! آقرأُ عليك وعليك أُنزل؟ قال: "نعم" فقرأتُ سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء: 41]، قال: "حسبُك الآن" فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرِفان.

 

وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام بالليل يصلِّي يُكْثر القراءة منه، ويترسَّل فيها، ويدعُو عند آيات الرحمة والعذاب منها، ويُنَزِّه ربَّه عند آيات التسبيح، فصح عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما- أنه قال: "صلَّيتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ ليلةٍ فافتتح البقرةَ فقلتُ: يركع عند المائة، ثُمَّ مَضَى، فقلتُ: يصلِّي بها في ركعَةٍ فمضَى، فقلتُ: يركعُ بها، ثُمَّ افتتح النِّساءَ فقرأها، ثُمَّ افتتح آلَ عمرانَ فقرأها، يقرأُ مُتَرَسِّلا، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سألَ، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ ركع فجعل يقول: سبحان ربِّى العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثُمَّ قال: سمع الله لمن حمده، ثُمَّ قامَ طويلاً قريبًا مِمَّا ركع، ثُمَّ سجد فقال: سبحان ربِّى الأعلَى، فكان سجوده قريبًا من قيامه".

 

وصح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "صليتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأطال حتى هممتُ بأمر سُوء، قيل: وما هممتَ به؟  قال: هممتُ أن أجلس وأَدَعه".

 

وكان صلى الله عليه وسلم يتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه، وما ذمَّه القرآن كان فيه سخطه، فصح عن سعد بن هشام أن قال لأُمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خُلُق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قلتُ: بلى، قالت: فإن خُلُق نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان القرآن".

 

وكان صلى الله عليه وسلم يقرأه وهو يسير على دابَّته، فصح عن عبد الله بن مُغفل -رضي الله عنه- أنه قال: "رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءةً لينة، يقرأ وهو يُرجِّع".

 

وكان صلى الله عليه وسلم شديد التأثر به؛ تذرف عيناه ويبكي إذا تلاه أو سمعه، فقد صح عن عبد الله بن الشِّخِّير -رضي الله عنه- أنه قال: "أتيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلِّي ولجوفه أزيزٌ كأزيز الْمِرجَل -يعني يبكي-".

 

وصح عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرةٍ يصلِّي ويبكي حتى أصبح".

 

وثبت عن عبيد بن عمير أنه قال لعائشة -رضي الله عنها-: حدثينا بأعجب شيء رأيتِه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فبكت، فقالت: "قام ليلةً من الليالي، فقال: "يا عائشة! ذريني أتعبَّد لربي" قالت: قلتُ: والله! إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهَّر ثم قام يصلِّي فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حِجْره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بَلَّ الأرض، وجاء بلال يُؤْذنه بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، قال: "أفلا أكون عبدًا شكورا، لقد نزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [آل عمران: 190] الآيات كلها".

 

وكيف لا تذرف عيناه ويبكي صلى الله عليه وسلم من أثر القرآن على نفسه؟ وقلبُه أَليَن القلوب وأرقها وأخشعها وأبرّها وأزكاها، فقد صحَّ عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فوالله! إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده".

 

أيُّها الناس: لقد كان اهتمام  الصحابة -رضي الله عنهم- بالقرآن كبيراً، وتدبرهم له شديداً، وتأثرهم به عجيباً، كانوا يحيُون به ليلهم، ويزينون بتعلُّمه وتعلِيمه وتدارس أحكامه نهارهم، وتدمع وتبكي عند تلاوته عيونهم.

 

وقد صح عن عائشة -رضي الله عنها- أنه قالت في وصف أبيها صدِّيق الأمة -رضي الله عنه-: "وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن".

 

وصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قال في مرضه: "مُرُوا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس"، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فقلت: "يا رسول الله! إن أبا بكرٍ رَجُلٌ رقيق؛ إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر؟".

 

وصحَّ عن عبد الله بن شداد -رحمه الله- أنه قال: "سمعت نَشِيجَ عمرَ وأنا في آخرِ الصَّف وهو يقرأ سورة يوسف: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) [يوسف: 86]".

 

وثبت عن نافع مولى ابن عمر -رحمه الله- أنه قال: "كان عبد الله بن عمر إذا قرأ هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد: 16]، بَكَى حتى يبلَّ لحيته البكاء، ويقول: بلى يا ربِّ".

 

وصحَّ عن عروة أنه قال: "دخلت على أسماء وهي تصلِّي فسمعتها وهي تقرأ هذه الآية: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [الطور: 27]، فاستعاذت، فقمتُ وهي تستعيذ، فلما طال عليَّ أتيت السوق ثم رجعت وهي في بكائها تستعيذ".

 

أيها الناس: كيف لا يكون هذا حاله صلى الله عليه وسلم مع القرآن حين سماعه، وحال أصحابه -رضي الله عنهم- ؟ وقد قال ربهم -جل وعلا- في وصف القرآن، ووصف أهل خشيته معه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23]، فالقرآن يؤثِّر في قلوب أهل الإيمان؛ فيزيد في خشيتها لربها، وتزداد له خشوعًا وخضوعا، وتقربًا وانقيادا، ورهبةً وخوفا، وحبًّا وإجلالا، وتعظيمًا وتقديسا، حيث قال الله -عز وجل- في أواخر سورة براءة مبينًا هذا الأثر للقرآن: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 124- 125].

 

كيف لا يكون هذا هو حال أهل الإيمان عند سماع القرآن أو عند قراءته؟ والله -عز وجل- قد أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يخصَّهم مِن بين خلقه بمزيد تذكيرٍ به، فقال سبحانه في سورة ق: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45].

 

 كيف لا يتأثرون؟ وكيف لا يتغيرون؟ فَيُحِلُّون محلَّ السيئة الحسنة، ويُتبِعون الطاعة بالطاعة، وهذا القرآن كلامُ ربهم وخالقهم ومالكهم ومدبِّر أمورهم وشؤونهم؛ رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، والذي لو أُنزل على الجبال الصُّم الصِّلاب الشامخة -وكانت تعقل ما فيه من الوعد والوعيد- لتصدَّعت وتشقَّقت؛ خشيةً من ربها، ورهبةً منه وخوفاً، فقد فقال الله -تعالى- فاطرُها ومثبِّت الأرض بها في سورة الحشر: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].

 

(لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وهذا هو المقصد من ضَرْب الله -سبحانه- هذا المثل؛ إنه تَذكُّر الإنسان وتفكُّره واعتباره كي يراجع نفسه فيبعدها عن دَنَس المعاصي وضررها، ويزكِّيها بالطاعات ويجمِّلها، لكن بعض هذه الأجساد التي خلقها الله من جِلْدٍ وعَصَب وعظم ولحم قد أصبحت قلوب أهلها أقسَى من الحديد؛ بل أقسَى مِمَّا هو أقسَى من الحديد؛ وهي الحجارة.

 

قال الله -سبحانه- مخبراً عن هذا الصنف من الناس، ومحذراً من مشابهته في سورة البقرة: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ) [البقرة: 74].

 

ولقد توَّعد الله -جل وعلا- أهلَ القلوب القاسية التي لا تلين عند سماع كلامه، وقراءة كتابه، ولا تتذكر بآياته، ولا تطمئن بذكره؛ بل هي معرضةٌ عن ربها، مُلتفتة إلى غيره، بالويل الشديد، والشر الكبير، فقال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 22].

 

وثبت عن مالك بن دينار -رحمه الله- أنه قال: "ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب".

 

وقال حذيفة المرعشي -رحمه الله-: "ما أُصيب أحدٌ بمصيبة أعظم من قساوة قلبه".

 

بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، وأقول قول هذا، وأستغفر الله لي ولك إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، أعلم الخلق بالله ودينه وشرعه، وأنصحهم للناس وأنفعهم، وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات، ومن تبعهم إلى يوم الحشر والجزاء.

 

أما بعد:

 

أيها الناس: لقد كان للسلف الصالح من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين ومَن بعدهم مع القرآن حالاً عجباً، وإقبالاً شديداً، وحرصاً بالغاً، واهتماماً متزايداً، فكان أُبَيُّ بن كعب -رضي الله عنه- يختم القرآن في كلِّ ثمان، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يختمه من الجمعة إلى الجمعة، وكان تميم الداري -رضي الله عنه- يختمه في كلِّ سبع، وكان الأسود بن يزيد -رحمه الله- يختمه في كلِّ سِت، وكان علقمة -رحمه الله- يختمه في كلِّ خمس.

 

وكان لكثيرٍ منهم حزب وورد معلوم من القرآن، يقرؤه كلَّ يوم ولا يتركه.

 

وكان بعضهم إن شُغل عن حزبه منه بالنهار قرأه بالليل، وإن لم يتيسر له قرأه من الغد مع حزبه الجديد.

 

فاقتدوا -سددكم الله- بسلفكم الصالح في ذلك، واجعلوا لأنفسكم حزباً وورداً معيَّناً من القرآن؛ جزءًا أو نصف جزء، أو أقلَّ أو أكثر، كلَّ يومٍ تقرؤونه لا تُخِلُّون به، تجعلون له وقتاً محدَّداً من اليوم، أو تفرِّقونه في سائر اليوم، تقرءونه قياماً أو قاعدين أو مضطجعين؛ فإنَّ في ذلك خيرٌ عظيم لكم؛ حيث يعينكم على الاستمرار في القراءة ما دُمتُم أحياء، وتَكثُر أجوركم به وتزداد، وتتثبت في قلوبكم ألفاظه ومعانيه وترسخ، وتدفعون عن أنفسكم هجره، وتنْزِل عليكم السكينة، ويقتدِي بكم زوجاتكم وأولادكم، وينفر الشيطان من بيوتكم؛ فإن هذا القرآن مباركٌ في تلاوته، مباركٌ في منهاجه، مباركٌ في آثاره، مباركٌ في ثوابه، واستشعروا أنكم تقرؤون كلام الله ربكم وخالقكم ومالككم؛ فأحضِرَوا قلوبكم عند تلاوته، وتدبَّروه وتفهَّموا ما فيه من أَمرٍ ونهي، ووعدٍ ووعيد، وخبرٍ ونبأ؛ لتنتفعوا بهذه التلاوة فيحصُل لكم الثواب، ويحصُل لكم العلم والمعرفة.

 

هذا وأسألُ الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجِلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وأن يجعلنا ممن يتلونه حقَّ تلاوته، ويحفظونه أحسن حفظ، وأن يرزقنا به السعادة والفلاح والرِّفعة في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا به مؤمنين، ولأخباره مصدِّقين، وبأحكامه عاملين، متَّفقين فيه غير مختلفين، مؤتلفين غير متعادين.

 

اللهم ارفع لنا به الدرجات، وكفِّر عنَّا به السَّيئات، وباعِد بيننا وبين هَجره، إنك سميعٌ مجيب.

 

 

المرفقات

النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مع القرآن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات