عناصر الخطبة
1/ تربة الجنة وأشجارها وظلالها 2/ تميز بعض الجنان بالثمار والظلال والأفنان 3/ الغرس في الجنةاقتباس
الْجَنةِ لها تُرْبَةٌ وَأَشْجَارٌ وَظِلَالٌ، فَمَا تُرْبَتُهَا؟! وَمَا أَشْجَارُهَا؟! وَمَا طُولُ ظِلَالِهَا؟! كُلُّ ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنةِ؛ لِيَشْتَاقَ قَارِئُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمُسْتَمِعُهُمَا إِلَى الْجَنةِ، فَيَعْمَلَ بِمَا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا، وَيَجْتَنِبَ مَا يُبَاعِدُهُ عَنْهَا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُن إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الناسُ اتقُوا رَبكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِن اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أَيُّهَا الناسُ: الْحَدِيثُ عَنِ الْجَنةِ حَدِيثٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ، تُحِبُّهُ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَرْوِحُ بِهِ أَنْفُسُ المُتقِينَ، وَيُزِيلُ كُرُوبَ المَهْمُومِينَ، وَيَزِيدُ يَقِينَ المُوقِنِينَ، وَيَشُدُّ صَبْرَ الصابِرِينَ.
إِنهُ عُدةُ المُؤْمِن فِي ابْتِلَاءَاتِ السراءِ وَالضراءِ؛ فَفِي السراءِ لَا يَغْتَرُّ وَلَا يَبْطَرُ؛ لِأَن وَرَاءَهُ دَارًا لَا يَدْخُلُهَا أَهْلُ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ، وَفِي الضراءِ لَا يَجْزَعُ؛ لعِلْمِهِ أَن الدُّنْيَا لَيْسَتْ نِهَايَةَ المَطَافِ؛ فَثَمةَ قَبْرٌ وَبَعْثٌ وَحِسَابٌ وَجَزَاءٌ.
إِنهُ حَدِيثٌ عَنْ دَارٍ لَا دَارَ مِثْلهَا، وَعَنْ نَعِيمٍ لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ الْآذَانُ، وَلَا يَرِدُ فِي الْخَيَالِ، فَمَهْمَا جَالَ الْعَبْدُ بِفِكْرِهِ فِي نَعِيمٍ يَتَمَناهُ، وَلَذةٍ يَطْلُبُهَا، وَسَعَادَةٍ يَنْشُدُهَا؛ فَإِن نَعِيمَ الْجَنةِ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَأَكْبَرُ مِما تَخَيلَ، وَمِما تَمَنى. وَهو حَدِيثٌ ذُو شُجُونٍ؛ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ النُّصُوصِ.
عباد الله: الْجَنةِ لها تُرْبَةٌ وَأَشْجَارٌ وَظِلَالٌ؛ فَمَا تُرْبَتُهَا؟! وَمَا أَشْجَارُهَا؟! وَمَا طُولُ ظِلَالِهَا؟! كُلُّ ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنةِ؛ لِيَشْتَاقَ قَارِئُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَمُسْتَمِعُهُمَا إِلَى الْجَنةِ، فَيَعْمَلَ بِمَا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا، وَيَجْتَنِبَ مَا يُبَاعِدُهُ عَنْهَا.
وَتُرْبَةُ الْجَنةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الطِّيبِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن ابْنَ صَيادٍ، سَأَلَ النبِي -صلى الله عليه وسلم- عَنْ تُرْبَةِ الْجَنةِ؛ فَقَالَ: "دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ، مِسْكٌ خَالِصٌ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
والمعنى: أَنهَا فِي الْبَيَاضِ دَرْمَكَةٌ، وَفِي الطِّيبِ مِسْكٌ، وَالدرْمَكُ هُوَ الدقِيقُ الْحَوَارِيُّ الْخَالِصُ الْبَيَاضِ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ثُم أُدْخِلْتُ الجَنةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ"(مُتفَقٌ عَلَيْهِ).
وَاشْتَاقَ الصحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَوْمًا إِلَى حَدِيثِ الْجَنةِ، فَقَالُوا: "يَا رَسُولَ اللهِ! حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟! قَالَ: لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزعْفَرَانُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَححَهُ ابْنُ حِبانَ).
وَأَهْلُ الْجَنةِ يُنَعمُونَ فِي ظِلَالِهَا؛ فالظل دائماً ما يجلب الأنس والطمأنينة للنفس، قال تعالى: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)[النساء: 57]؛ فما أجملها من سعادة حين يكون المرء في جلسة هانئة مع أهله يتفيؤ الظل متكئاً على أريكته، قال تعالى: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتكِئُونَ)[يس: 56]، (إِن الْمُتقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ)[المرسلات: 41].
وَظِلَالُ الشيْءِ عَلَى مِقْدَارِ حَجْمِهِ، وَظِلَالُ الْجَنةِ مُتسِعَةٌ لِعِظَمِ أَشْجَارِهَا وَضَخَامَتِهَا، وَمَا سُمِّيَتِ الْجَنةُ جَنةً إِلا لِكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا، وَاشْتِدَادِ خُضْرَتِهَا، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ! لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى أَن فِي الْجَنةِ شَجَرَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا. فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: السِّدْرُ؛ فَإِن لَهَا شَوْكًا. فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)[الواقعة: 28]، يَخْضِدُ اللهُ شَوْكَهُ فَيُجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةٌ، فَإِنهَا تُنْبِتُ ثَمَرًا، تُفْتَقُ الثمَرَةُ مَعَهَا عَنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا، مَا مِنْهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَححَهُ).
وَدُونَكُمْ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- هَذَا الْحَدِيثَ الْعَجِيبَ فِي شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَهُ عَنْهُ- عَنِ النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِن فِي الجَنةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الراكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا" وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)[الواقعة: 30] (متفق عليه).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِن فِي الجَنةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الراكِبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا"(متفق عليه)؛ وَالجَوَادُ المُضَمرُ: هُوَ الذِي حُبِسَ عَنْهُ الطعَامُ لِيَشْتَد جَرْيُهُ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ، وَذَكَرَ الْجَنةَ، ثُم قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فِيهَا فَاكِهَةٌ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى، فَذَكَرَ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، قَالَ: أَيُّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ؟! قَالَ: لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ أَرْضِكَ، فَقَالَ النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَتَيْتَ الشامَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشامِ تُدْعَى الْجَوْزَةُ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْفَرِشُ أَعْلَاهَا، قَالَ: مَا عِظَمُ أَصْلِهَا؟ قَالَ: لَوْ ارْتَحَلَتْ جَذَعَةٌ مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ مَا أَحَاطَتْ بِأَصْلِهَا حَتى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتُهَا هَرَمًا"، قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَلَا يَفْتُرُ، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْحَبةِ؟ قَالَ: هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطُّ عَظِيمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمكَ قَالَ: اتخِذِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَإِن تِلْكَ الْحَبةَ لَتُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي؟! قَالَ: نَعَمْ وَعَامةَ عَشِيرَتِكَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَأَشْهَرُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنةِ: سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وَقد جَاءَ وَصْفُهَا فِي السُّنةِ بِمَا يَأْخُذُ الْأَلْبَابَ؛ فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ قَالَ النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأَنهُ قِلاَلُ هَجَرَ -يُرِيدُ: أَن ثَمَرَهَا فِي الْكُبْرِ مِثْلُ الْقِلَالِ- وَوَرَقُهَا كَأَنهُ آذَانُ الفُيُولِ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ"(رواه البخاري).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ"، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: "فَلَما غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَهَا تَغَيرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا".
فَلْنَتَخَيلْ شَجَرَةً يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، وَقَدْ غَشِيَهَا مِنْ نُورِ اللهِ تَعَالَى مَا زَادَهَا حُسْنًا عَلَى حُسْنِهَا، وَثِمَارُهَا كَالْقِلَالِ الْكَبِيرَةِ. فَمَا حَجْمُ هَذِهِ الشجَرَةِ؟! وَمَا مَسَاحَةُ ظِلِّهَا؟! وَمَا مِقْدَارُ جَمَالِهَا وَحُسْنِهَا؟!
إِنهَا لَا تُوصَفُ، وَقَدْ قَالَ مَنْ رَآهَا -صلى الله عليه وسلم-: "فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا".
عباد الله: إِن اللهَ تَعَالَى وَصَفَ جَنتَيْنِ مِنْ جَناتِهِ فَقَالَ: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)[الرحمن: 48]؛ أَيْ: أَغْصَانٍ نَضِرَة حَسَنَةٍ، تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ نَضِيجَةٍ فَائِقَةٍ، قَالَ عَطَاءٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: "فِي كُلِّ غُصْنٍ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ".
وَوَصَفَ جَنتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بِأَنهُمَا: (مُدْهَامتَانِ)[الرحمن: 64].
وَهُوَ وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّهْمَةِ، وَهِيَ لَوْنُ السوَادِ، وَهو مُبَالَغَةٌ فِي شِدةِ خُضْرَةِ أَشْجَارِهِمَا، حَتى تَكُونَا بِالْتِفَافِ أَشْجَارِهَا وَقُوةِ خُضْرَتِهَا كَالسوْدَاوَيْنِ؛ لِأَن الشجَرَ إِذَا كَانَ رَيانَ اشْتَدتْ خُضْرَةُ أَوْرَاقِهِ حَتى تَقْرُبَ مِنَ السوَادِ.
وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- عَنِ احْتِوَاءِ هَاتَيْنِ الْجَنتَيْنِ عَلَى أْشَجَارِ الْفَوَاكِهِ وَالنخِيلِ: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمانٌ)[الرحمن: 68].
قَالَ ابْنُ عَباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "نَخْلُ الْجَنةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَكَرَانِيفُهَا ( كَرَبُهَا) ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا كسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنةِ، مِنْهَا مُقَطعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ أَوِ الدِّلَاءِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَلَيْسَ لَهَا عَجْمٌ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَححَهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا فِي الجَنةِ شَجَرَةٌ إِلا وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
فَمَنْ أَحَب نَخِيلَ الدُّنْيَا وَأَشْجَارَهَا وَخُضْرَتَهَا وَظِلهَا وَثَمَرَهَا، فَغَرَسَهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ بُسْتَانِهِ، أَوْ مَزْرَعَتِهِ، وَتَمَتعَ بِجَمَالِهَا، وَتَفَيأَ ظِلَالَهَا، وَتَلَذذَ بِثَمَرِهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكرَ الْجَنةَ وَأَشْجَارَهَا وَظِلَالَهَا وَثَمَرَهَا، وَأَنْوَاعَ النعِيمِ فِيهَا، فَيَعْمَلَ لَهَا، وَيَجِد فِي طَلَبِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصالِحِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُنَعِّمَنَا بِأَشْجَارِ الْجَنةِ، اللهُم إِنا نَسْأَلُكَ الْجَنةَ وَمَا قَربَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَأَهْلِنَا وَذُرِّياتِنَا، وَمَنْ أَحْبَبْنَا مِنْ عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَدْ يَشْتَهِي بَعْضُ أَهْلِ الْجَنةِ أَنْ يُبَاشِرَ الزرْعَ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَشْتَهِي أَمَامَهُ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن النبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: "أَن رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنةِ اسْتَأْذَنَ رَبهُ فِي الزرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟! قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَإِذَا أَرَادَ المُؤْمِنُ أَنْ يَغْرِسَ أَشْجَارَهُ فِي الْجَنةِ وَهُوَ لَا يَزَالُ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بِالذِّكْرِ؛ فَإِن الْأَحَادِيثَ دَلتْ عَلَى أَن الذِّكْرَ هُوَ غِرَاسُ الْجَنةِ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمدُ! أَقْرِئْ أُمتَكَ مِنِّي السلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَن الجَنةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنهَا قِيعَانٌ، وَأَن غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسنَهُ).
إِنهَا وَصِيةُ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السلَامُ- الناصِحِ لَنَا، نَقَلَهَا إِلَيْنَا نَبِيُّنَا مُحَمدٌ -عَلَيْهِ الصلَاةُ وَالسلَامُ- وَهُوَ المُشْفِقُ عَلَيْنَا، يُخْبِرُنَا فِيهَا بِطِيبِ تُرْبَةِ الْجَنةِ، وَعُذُوبَةِ مَائِهَا، وَيُعَلِّمُنَا أَن الذِّكْرَ هُوَ غِرَاسُهَا.
وَمَر النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا فَقَالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! مَا الذِي تَغْرِسُ؟ قُلْتُ: غِرَاسًا لِي، قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الجَنةِ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنةِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
ذَلِكُمْ -عِبَادَ اللهِ- شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنةِ وَشَجَرِهَا، لَعَل قُلُوبَنَا تَلِينُ مِنْ قَسْوَتِهَا، وَتَتَنَبهُ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَتَشْتَاقُ إِلَى جَنةِ رَبِّهَا، فَتَجِدُّ فِي الْعَمَلِ لَهَا وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهَا، وَتُبَاعِدُ عَما يَكُونُ سَبَبًا فِي الْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنةِ وَبَسَاتِينِهَا وَأَشْجَارِهَا وَخُضْرَتِهَا وَأَنْوَاعِ النعِيمِ فِيهَا.
اللهم اجعلنا من أهل جنتك، المستظلين بظلها، المتنعمين بنعيمها، والمتمتعين بالنظر إلى وجهك الكريم.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
المصدر: جنة الخلد (5) تربة الجنة وأشجارها؛ لشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم