عناصر الخطبة
1/درجات الجنة ومنازل أهلها 2/درجات الشهداء في الجنة 3/درجة الفردوس وجنانها ومنزلة الوسيلة فيها 4/أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم.اقتباس
ودرجات الجنة بعضها فوق بعض، يرى الأدنى منهم منزلة الأعلى فوقه -وما فيهم دني- كما يرفع أحدنا رأسه إلى السماء ليرى قمرها وأنجمها؛ وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة يتراءون أهل...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إذا ذكرت الجنة تحركت قلوب المؤمنين؛ طمعاً فيها، وشوقاً إليها، ولهجت ألسنتهم بذكر الله تعالى؛ استعظاماً لوصفها، ودعاء ببلوغها، لا يرون نعيماً في الدنيا -مهما بلغ- يداني نعيم الجنة، فضلاً عن أن يشابهه أو يماثله. قد علموا أن ثمنها الإيمان والعمل الصالح، فآمنوا، واجتهدوا فيما يقربهم منها، ولم يتكلوا على عملهم؛ لعلمهم أن أعمالهم مهما كانت لا تفي نعمة واحدة من نعم الله تعالى الغزيرة عليهم، يلهجون بسؤال ربهم قائلين: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[آل عمران: 193-194].
والحديث عن الجنة حديث طويل لا ينتهي؛ لأنها دار الرحمن، وخزائن الرحمن لا تنفد، وعطاياه لا تنقطع: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[هود:108]؛ ولا شك أنهم ما بلغها أهلوها إلا بفضل الله ورحمته، وإحسانه ومنته، نجاهم ربهم المرة بعد المرة، وتابع عليهم النعمة تلو النعمة.
أيها الإخوة: الجنة درجات ومنازل بعضها فوق بعض، والمؤمنون فيها تتفاوت منازلهم بحسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[آل عمران:162- 163]، (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ)[الأنعام: 132]، (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال:44].
ودرجات الجنة بعضها فوق بعض، يرى الأدنى منهم منزلة الأعلى فوقه -وما فيهم دني- كما يرفع أحدنا رأسه إلى السماء ليرى قمرها وأنجمها؛ وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين"(متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما تتراءون الكوكب في السماء"(متفق عليه).
ودرجاتها لا يعلم عدتها إلا الله تعالى، للمجاهدين في سبيل الله تعالى منها مائة درجة يختصون بها، قال تعالى: (فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)[النساء: 95-96].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة"(متفق عليه).
ولما استشهد حارثة بن سراقة في غزوة بدر أتت أمه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"(متفق عليه).
والفردوس الذي هو أعلى منازل الجنة ودرجاتها جاء ذكره في كتاب الله تعالى، بعد أن ذكر سبحانه جملة من أوصاف المؤمنين، فأعقبها بقوله عز وجل: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون:10-11]، قال قتادة -رحمه الله تعالى-: "الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها".
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفردوس أربع جنان، منها: جنة عدن التي جاء ذكرها في القرآن كثيراً؛ كما روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جنان الفردوس أربع: اثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما"(رواه أحمد).
وأعلى ما في الفردوس منزلة لا ينالها إلا رجل واحد من البشر هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة الوسيلة التي من سألها للنبي -صلى الله عليه وسلم- حلت له شفاعته، فقد روي أنه قال: "سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة"(رواه مسلم).
إن أعلى أهل الجنة منزلة هو سيد ولد آدم -صلوات الله وسلامه عليه-، وهو أفضل الرسل؛ كما قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)[البقرة:253]، قال مجاهد وغيره: (ورفع بعضهم درجات) "هو محمد -صلى الله عليه وسلم-".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وسميت درجة النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسيلة؛ لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن، وهي أقرب الدرجات إلى الله تعالى، وأصل اشتقاق لفظ الوسيلة من القرب؛ ومعنى الوسيلة من الوصلة؛ ولهذا كانت أفضل الجنة وأشرفها وأعظمها نوراً".
وقال الفضيل بن عياض: "أتدرون لم حسنت الجنة؟ لأن عرش رب العالمين سقفها... ولما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهي أعلى درجة في الجنة، وأمر النبي أمته أن يسألوها له؛ لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله تعالى، وزيادة الإيمان".
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه وجزيل عطائه وإحسانه أن يبلغنا منازلهم ، ويرفعنا إلى درجاتهم، ويحشرنا معهم، ووالدينا ووالديهم؛ إنه سميع مجيب.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المسلمون: إن أعلى الناس منزلة في الجنة هم الرسل والنبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون ومن رافقهم؛ وإن لم تكن منزلته كمنازلهم: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً)[النساء:69].
وأما أدنى أهل الجنة منزلة، فهو رجل أعطاه الله أعظم ممن ملك الدنيا بأجمعها، وحكم الأرض كلها؛ فمنزلته أعظم من ملكه، وصدق الله إذ يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً)[الإنسان:20].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي؟! أو: أتضحك بي وأنت الملك؟!" قال ابن مسعود: "لقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة"(متفق عليه).
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم ترعين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله -عز وجل-: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)"(رواه مسلم).
وبين أعلى منزلة في الجنة وأدناها منازل متفاوتة، أعظم من تفاوت أهل الدنيا في دنياهم: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)[الإسراء:21].
ألا فشمروا -عباد الله- عن سواعد الجد في تحصيل أعلى درجاتها، ولا يغلبنكم عليها أقوام هم أقل منكم في درجات الدنيا، بل اغلبوهم عليها بالأعمال الصالحة والبر والإحسان، مع اجتناب المحرمات والموبقات؛ فمن فعل ذلك بلغ المنازل العالية في الجنة بفضل الله تعالى ورحمته.
وإذا كانت الدنيا تنال بالجد والعمل، كما تنال بالحسب والنسب، وتتاح فرصها لبعض الناس دون بعض، وهي على كل حال غير مضمونة؛ فقد يحوزها المرء ولا يتمتع بها لمرض أو علة، وهو زائل عنها لا محالة، إذا كان هذا حال الدنيا وأهلها؛ فإن منازل الجنة متاحة للناس كلهم، وهي الدار المضمونة في بقائها، ولذة من بلغها، بها لذة لا تعدلها كل لذات الدنيا، ولا يوصل إليها إلا بالإيمان والعمل الصالح، ولا ينفع فيها حسب ولا نسب؛ عدلاً من الله تعالى بين عباده، وما نفع امرأتي نوح ولوط أن زوجيهما نبيان، ولا أوصلت أبا طالب الجنة عمومته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا انجى ابن نوح -عليه السلام- أن أباه كان نبياً. وكل عامل سيجد ما عمل، فاستودعوا الخير صحائف أعمالكم تجدوه غداً محضراً: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)[آل عمران:30].
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...
المصدر: جنة الخلد (2) الدرجات والمنازل؛ للشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم