عناصر الخطبة
1/خلافة الله للإنسان في الأرض 2/ ضرورة إقامة الخلافة الإسلامية 3/ السبيل لإقامة الخلافة في الأرض 4/ الخليفة في الإسلام تكليف لا تشريف 5/ إقامة المجتمع الراشد قبل الخلافة الراشدة 6/ النصح لولاة الأمور أمر واجب 7/ التمكين بعد إقامة الدين 8/بشارة النبي بعودة الخلافة.اقتباس
إن الخلافة الراشدة هي نتاج مجتمع راشد قائم على إيمان عميق بالله -تبارك وتعالى، موحّد له في كل العبادات، عامل لكل أنواع الخير والبر والعمل الصالح، فلما كانوا بهذا المستوى قامت فيهم الخلافة الراشدة؛ لأنهم أقاموها في قلوبهم فتحققت لهم على واقعهم وأرضهم، فلما بدأ المجتمع يفقد رشده، فقدت الخلافة الراشدة وقود وجودها، فانهارت أركانها، وذهب الله بها؛ لأن بقاءها مرهون ببقاء هذين الشرطين في الواقع الإيمان والعمل الصالح...
الخطبة الأولى:
الحمد لله مالك الملك، المنزه عن الجور، والمتكبر عن الظلم، المتفرد بالبقاء، السامع لكل شكوى، والكاشف لكل بلوى، والصلاة والسلام على من بُعث بالدلائل الواضحة والحجج القاطعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
عباد الله: إن الله لم يخلق الخليقة عبثًا ولم يتركهم هملاً، وإنما خلق الخلق من أجل عبادته، وإقامة دينه، وإحياء شريعته، وجعلها واقعًا تحكم الناس وتسوسهم، فيعيش الناس في ظلها، ويستظلون بعدلها، ويستضيئون بنورها، ويحيَون بإقامتها وتطبيقها؛ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة : 30].
فالله -سبحانه وتعالى- جعل الخليفة حتى يصلح ما أفسده الناس، ويفصل بينهم في المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، ولهذا سألت الملائكة عن الحكمة في خلق البشر؛ مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكأنهم يقولون: إن كان المراد عبادتك يا رب فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك، فهلا وقع الاقتصار علينا؟!.
فقال الله تعالى مجيبًا لهم عن هذا السؤال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعبّاد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون له والمحبون له -تبارك وتعالى-، المتبعون رسله -صلوات الله وسلامه عليهم-.
إذًا فلابد من إقامة الخلافة الإسلامية ووجود الخليفة المسلم الذي يقيم شريعة الله ويطبق أحكام الله حتى تستقيم الحياة وتصلح الأحوال ويعيش الناس في أمن وأمان في ظل شريعة الرحمن.
لقد وضع الله للبشر منهجًا متكاملاً يعملون على وفقه في هذه الأرض، وقد فصَّل الله هذا المنهج، وبيّن أن عمارة الأرض، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها، ليس وحده هو المقصود من هذه الحياة، وإنما المقصود فوق ذلك العناية بقلب الإنسان ليبلغ الإنسان كمالـه المقدّر له في هذه الحياة، ولن يكون ذلك إلا بشرع الله، وشرع الله لن يقوم إلا بخليفة يقيمه ويحققه في واقع الحياة, قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 38، 39].
وفي آية أخرى بيّن الله -عزَّ وجلَّ- أن وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة، لكنها خلافة مقيّدة محددة بالتلقي عن الله، وطاعته وإخلاص العبادة له, كما بشر الله تعالى نبيه داود -عليه السلام- بذلك بقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]، ففي هذه الآية أمرٌ، ونهي، وإنذار، أمره بالعدل (فاحكم بين الناس بالحق) أي: بالعدل، وحذّره من اتباع الهوى (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وأنذره بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
فشأن الخلفاء أن يعمروا الأرض لا أن يخربوها، وأن يصلحوها لا أن يفسدوها، وأن يجعلوها وسيلة للبناء وفعل الخير، لا سببًا للفساد والبغي كما قال الله -سبحانه-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77].
ولكن كيف السبيل لإقامة الخلافة في الأرض؟! وما هو الطريق الصحيح لإحياء الخلافة الإسلامية وبعثها من جديد لتكون واقعًا ملموسًا في واقعنا:
الجواب على ذلك موجود في كتاب الله -سبحانه وتعالى-؛ يقول الله سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور : 55].
لقد بيّن الله -عز وجل- في هذه الآية أن شرط الخلافة أو الاستخلاف في الأرض الإيمان والعمل الصالح, حيث جمع بين الغايتين -الاستخلاف والعبادة-، بمعنى أن هذين الشرطين يكونان قبل الاستخلاف والتمكين، فلابد من إقامتهما حتى تقوم الخلافة في الأرض، فهذا وعد من الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، وأئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلن بعد خوفهم من الناس أمنًا إن هم حققوا هذين الشرطين.
عباد الله: إن الخلافة الراشدة هي نتاج مجتمع راشد قائم على إيمان عميق بالله -تبارك وتعالى، موحّد له في كل العبادات، عامل لكل أنواع الخير والبر والعمل الصالح، فلما كانوا بهذا المستوى قامت فيهم الخلافة الراشدة؛ لأنهم أقاموها في قلوبهم فتحققت لهم على واقعهم وأرضهم، فلما بدأ المجتمع يفقد رشده، فقدت الخلافة الراشدة وقود وجودها، فانهارت أركانها، وذهب الله بها؛ لأن بقاءها مرهون ببقاء هذين الشرطين في الواقع الإيمان والعمل الصالح.
فحاجتنا اليوم أكبر إلى المجتمع الراشد اليقظ، المتحمل لمسؤولياته في مقارعة الظلم الجاثم على صدره، ومقاومة الفوضى المهددة لكيانه؛ لأن المجتمع الراشد شرط لازم للخلافة الراشدة، وسابق عليها حتى يصبح المجتمع قادرًا على التحكم فيمن يحكمونه، ونبذ من يخرجون على إجماعه المنبثق من إيمانه الصادق وعمله الصالح، فهل نسعى بجدٍّ إلى إقامة المجتمع الراشد، قبل التفكير في الخلافة الراشدة، أم نظل نضع العربة أمام الحصان، ونحن نمضغ أحلامنا الزاهية وأمانينا العريضة ثم لا يتحقق لنا منها شيء؟!.
وليس معنى هذا أن الخلافة لن تكون حتى يكون المجتمع بكل أفراده وأشخاصه بهذا المستوى من الإيمان والعمل الصالح؛ لأن هذا لن يتحقق، ولم يتحقق في أزهى العصور وأزكاها -عصر الرسول صلى الله عليه وسلم-, حيث وجد فيه من زنى، ومن سرق، ومن شرب الخمر... فكيف بغيره من العصور، وخاصة عصرنا هذا الذي تمدد فيه الفجور، وانتشر فيه الشر، وإنما المقصود أن يعم الخير وأهله في المجتمع، فيكون هو الأصل والسائد، والخارج عن الخير والدين والفضيلة يكون شاذًّا منبوذًا، لا مكان له في توجيه زمام الأمور، أو تسيير شؤون المجتمع، لكي يرتقى المجتمع إلى مسؤوليته تجاه الخليفة ومحاسبته، حتى تبقى الخلافة حية قائمة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا) [فاطر: 39].
أيها الناس: إن الخليفة في الإسلام هو الذي يعتقد أن الحكم تكليف وليس تشريفًا، والرئاسة مغرم وليست مغنمًا، ويعلم أنه ليس إلا خادمًا يخدم الناس، ويسهل لهم أمورهم، محسنًا إليهم، محافظًا على حقوقهم، حريصًا على تعزيز كرامتهم، ساعيًا في تلبية حوائجهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة". [مسلم :1829]. ويقول -عليه الصلاة والسلام- كما عند مسلم أيضًا: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة". [مسلم :142].
وسياسة الخليفة أيضًا لابد أن تقوم على الوضوح التام، فالسياسة الإسلامية سياسة أبيَّة، لا تؤلّه الحاكم، ولا تعتقد فيه العصمة، ولا تجيز له فعل كل ما يريد، وإنما تقومه، وتأخذ على يديه وتنصحه، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتأطره على الحق أطرًا، وتطيعه طاعة مقيدة بعدم المعصية، يقول أبو قبيل -رحمه الله-: "خطبنا معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيؤنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا. فلم يردَّ عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يردَّ عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام رجل ممَّن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيؤنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا.
فلما صلّى أمر بالرجل فأُدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس: إني تكلمت في أول جمعة فلم يردَّ عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يردَّ علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سيأتي قوم يتكلمون فلا يُرَدُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة"، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلمَّا ردَّ هذا عليَّ أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم". [أبو يعلي :7382].
فرضي الله عن الصحابة الأجلاء الذين بيّنوا لنا منهج التعامل مع الولاة والأمراء والحكام، فهو منهج واضح يبيّن مدى معرفتهم بحقوقهم السياسية الشرعية التي ليس فيها غموض، ولا ضبابية، ولا تملق، ولا نفاق، ولا مجاملة للحاكم، فهو يحكم بينهم، ويسعى في مصالح دينهم ودنياهم، ويرعى شؤونهم، ويقضي حوائجهم، فله على الأمة حقوق، وللأمة عليه حقوق. يقول محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أنَّ ناسًا قالوا لجده عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "إنَّا ندخل على سلطاننا فنقول لهم خلاف ما نتكلَّم إذا خرجنا من عندهم. فقال: كنا نعدها نفاقًا".
فالواجب على الرعية النصح لولاة الأمور, يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- معلقًا على قول ابن عمر: "فالواجب على من دخل على السلاطين من الأمراء والوزراء والرؤساء والملوك أن يتكلم بالأمر على حقيقته؛ يبيّن لهم الواقع، سواء أكان الناس على استقامة أم على اعوجاج أم على حق أم على باطل، ولا يجوز للإنسان أي إنسان أن يدخل على الأمير أو على الملك أو ما أشبه ذلك ثم يقول: الناس بخير، الناس أحوالهم مستقيمة، الناس اقتصادياتهم جيدة، الناس أمنهم جيد وما أشبه ذلك وهو كاذب. هذا حرام، خداع، فالواجب البيان، أما النفاق والمداهنة فهذه لا تجوز". [شرح رياض الصالحين :1/1915] بتصرف.
لقد ضرب لنا سلفنا الصالح أمثلة ناصعة في نصح ولاة الأمور والصدع بالحق أمامهم, فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتته ثياب من اليمن، فوزّعها على المسلمين، فأعطى كل مسلمٍ ثوبًا، فلما كان يوم الجمعة لبس عمر ثوبه وثوب ابنه عبد الله، ثم قام فخطب الناس وعليه ثوبان، ثوبه وثوب ابنه، فبدأ في الخطبة فقال: "أيها الناس: اسمعوا وعوا، فقام سلمان الفارسي -رضي الله عنه- من وسط المسجد، وقال: والله لا نسمع ولا نطيع!! فتوقف عمر عن الخطبة واضطرب المسجد، فقال عمر: ما لك يا سلمان؟! قال: تلبس ثوبين وتُلبسنا ثوبًا ثوبًا ونسمع ونطيع؟! فقال عمر: يا عبد الله بن عمر! قمْ فأجب سلمان، فقام عبد الله بن عمر فقال: هذا ثوبي الذي هو قسمي مع المسلمين أعطيته أبي، فبكى سلمان -رضي الله عنه-، وقال: الآن قلْ نسمعْ، واؤمرْ نطعْ، فاندفع عمر يتكلم". [إعلام الموقعين لابن القيم :2/180].
يقول الله -جل جلاله وعز كماله-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فهذا هو الخليفة في الخلافة الإسلامية، وهذا هو عمله، وهذا هو واجب الناس تجاهه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معزّ الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتّقين بفضله، والصلاة والسلام على من أعلى الله منار الإسلام بسيفه -صلى الله عليه وسلم-.
إن أحكام الخلافة الإسلامية اليوم تخفى على خواص الناس فضلاً عن عوامهم، وعن علمائهم وطلبة العلم فيهم فضلاً عن غيرهم، والسبب في ذلك أننا عشنا دهورًا من الزمن تحكمنا مناهج غربية وشرقية، وعهود غير إسلامية، فقد عاشت الأمة في عهد القومية، والوطنية، والشيوعية، والعلمانية، ولم تر بعد في أكثر بلدانها أحكام الله تطبق، وشرعه ينفذ، ولم تر الخلافة الإسلامية وأحكامها تحكمها، فنشأ عن هذا جهل كبير بالدولة الإسلامية، ومفهوم قاصر عن الخلافة الإسلامية.
فكلّنا يعلم أن ملل الكفر والشرك على اختلاف مشاربها ومناهجها وتضارب مصالحها تدرك جميعًا أن وصول الإسلام في مكانٍ ما إلى مرحلة الحكمِ، حكمِ الله في الأرض وإعادة الخلافة الإسلامية أمر خطير دونه خرط القتاد، وشلالات الدماء، وهي القضية التي أجمعوا أنه لا يمكن السماح بها، أو المهادنة فيها، فسخروا لذلك كل وسيلة ممكنة، ضاربين عرض الحائط كل المبادئ الأخلاقية، والمحسنات الجمالية التي طالما دجلوا بها على عباد الله المستضعفين، ولأننا وللأسف جيلٌ ولد ونشأ في ظل حكم الذل والخنوع، وبعدت عنا كل معاني العزة والكرامة، ونسينا مجدنا وتاريخنا، فقد غابت عن كثير منا أحكام الخلافة، وتصورات الدولة المسلمة.
وبعضنا يفهم خطأً أن مفهوم الدولة الإسلامية التي ينبغي قيامها هي دولة الرشيد، يخاطب فيها السحابة في السماء، ويغرف الذهب كالماء، ويرسل الجيوش التي أولها عند عدوه وآخرها عنده.
ولو تأملنا في أول دولة إسلامية قامت، وأول خلافة راشدة رست، لوجدنا أن الدولة النبوية كانت في البداية مجرد مدينة تعتبر ملاذًا آمنًا يأوي إليه المستضعفون من المؤمنين، والعهد المدني كان عهدًا جديدًا بعد العهد المكي من التضحية بالنفس والمال، وفصلاً آخر من فصول الفقر والخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات؟! ولم تكن الدولة النبوية أول ما قامت قويةً راسخة متينة لا تهزها الريح ولا تأخذ فيها الفتن، وإنما بلغت القلوب فيها الحناجر، وظنَّ الناس بربهم الظنون!.
هكذا كانت الدولة الإسلامية في بدايتها تمتحن وتختبر، حتى يقوى عودها، ويشتد بنيانها، ويعظم الإيمان في قلوب رجالها، وهكذا ستعود الخلافة الإسلامية بالجهاد، والهجرة، والبلاء، والصبر، فلا يتصور الإنسان أن الخلافة الإسلامية ستقوم بغير هذا الطريق الشاق، ودون أن يسلك المؤمنون هذا السبيل الذي سلكه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
أيها المسلمون: لقد بشرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ببشارة عظيمة، وأخبرنا أن الخلافة الإسلامية قادمة, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ. ثُمَّ سَكَتَ". [أحمد :18430].
ففي هذا الحديث العظيم درس لليائسين والمتشائمين والقانطين من الفرج، المستبعدين للنصر، اليائسين من تحكيم شرع الله في الأرض، فما علينا إلا أن نحمل دعوتنا إلى العالمين، وأن نواصل السير مهما اشتد الظلام، وكثرت الأحزان، فإن في حلكات الليل الداجي خيوط الفجر الواعد، يقول الله -جل جلاله وعز شأنه-: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 52]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129].
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمر رُشد؛ يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
اللهم ارفع راية الدين، وأعلِ كلمة الحق يا رب العالمين.
اللهم ولِّ علينا خيارنا، واصرف عنا أشرارنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.
وصلِّ اللهم على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم