الباب الأول: توحيد الهمِّ على الله
أنور إبراهيم النبراوي
@AnwarAlnabrawi
قال ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ»[1].
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ»[2].
فعلى العبد ألا ينزل حاجته إلا بالله، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ»[3].
قال السعدي رحمه الله[4]:
وذلك: أن الأسباب التي تحصل بها المقاصد نوعان.
نوع يشاهد بالحس، وهو القوة بالشجاعة القولية والفعلية، وبحصول الغنى والقدرة على الكسب. وهذا النوع هو الذي يغلب على قلوب أكثر الخلق، ويعلِّقون به حصول النصر والرزق، حتى وصلت الحال بكثير من أهل الجاهلية أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، ووصلت بغيرهم إلى أن يتضجروا بعوائلهم الذين عُدم كسبهم، وفُقدت قوتهم، وهذا كله قصر نظر، وضعف إيمان، وقلة ثقة بوعد الله وكفايته، ونظر للأمور على غير حقيقتها.
النوع الثاني: أسباب معنوية، وهي قوة التوكل على الله في حصول المطالب الدينية والدنيوية، وكمال الثقة به، وقوة التوجه إليه والطلب منه.
وهذه الأمور تقوي جدا من الضعفاء العاجزين الذين ألجأتهم الضرورة إلى أن يعلموا حق العلم، أن كفايتهم ورزقهم ونصرهم من عند الله، وأنهم في غاية العجز. فانكسرت قلوبهم، وتوجهت إلى الله، فأنزل لهم من نصره ورزقه- من دفع المكاره، وجلب المنافع- ما لا يدركه القادرون. ويسر للقادرين بسببهم من الرزق ما لم يكن لهم في حساب؛ فإن الله جعل لكل أحد رزقا مقدرا.
وقد جعل أرزاق هؤلاء العاجزين على يد القادرين، وأعان القادرين على ذلك، وخصوصا من قويت ثقتهم بالله، واطمأنت نفوسهم لثوابه فإن الله يفتح لهؤلاء من أسباب النصر والرزق ما لم يكن لهم ببال، ولا دار لهم في خيال.
فكم من إنسان كان رزقه مقتَّراً، فلما كثرت عائلته والمتعلقون به، وسع الله له الرزق من جهات وأسباب شرعية قدرية إلهية.
ومن جهة وعد الله الذي لا يخلف {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]
ومن جهة: دعاء الملائكة كل صباح يوم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[5].
ومن جهة أن أرزاق هؤلاء الضعفاء توجهت إلى من قام بهم، وكانت على يده.
ومن جهة أن يد المعطي هي العليا من جميع الوجوه.
ومن جهة أن المعونة من الله تأتي على قدر المؤنة، وأن البركة تشارك كل ما كان لوجهه، ومرادا به ثوابه.
ولهذا نقول:
ومن جهة إخلاص العبد لله، وتقربه إليه بقلبه ولسانه ويده، كلما أنفق، توجه إلى الله وتقرب إليه. وما كان له فهو مبارك.
ومن جهة قوة التوكل، وثقة المنفق، وطمعه في فضل الله وبره. والطمع والرجاء من أكبر الأسباب لحصول المطلوب.
ومن جهة دعاء المستضعفين المنفق عليهم، فإنهم يدعون الله - إن قاموا وقعدوا، وفي كل أحوالهم - لمن قام بكفايتهم. والدعاء سبب قوي: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60]
وكل هذا مجرب مشاهد، فتبا للمحرومين، وما أجل ربح الموفقين.
إضاءة
الله تعالى هو وحده الرَّزَّاق الذي يرزق جميع المخلوقات، يرزق من يشاء، وكيفما يشاء، فما من مخلوق حي في العالم العلوي أو السفلي إلا وهو متمتع برزق الله عز وجل، ومغمور بكرمه وفضله وإحسانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].
وهو وحده الباسط الرازق، الذي تكفل بالأرزاق وضمنها لعباده، وأوجبها على نفسه العليَّة، بقدرته واختياره وكرمه، عن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سعِّر لنا قال: « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ[6] الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ»[7].
قد أودع الله في هذه الأرض الواسعة خزائن عظيمة؛ لتلبية حاجات جميع المخلوقات، في هذا الكون والعالم الفسيح، وأودع في المخلوقات نفسها القدرة على اكتساب وجمع الأرزاق، والحصول عليها من مزروع أو مصنوع، أو مُرَكَّب أو خام أو غير ذلك مما أفاء وأكرم وأنعم: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].
ولو كانت الأرزاق تجري على الحِجَا
هَلَكْن إذن من جهلهن البهائمُ
لو أنَّ الله يعطى الرزق بحسب العقل والذكاء لهلكت البهائم لأنها جمادات لا تعقل.
أنور إبراهيم النبراوي
باحث في الدراسات القرآنية والتربوية
ومستشار أسري
Twitter: @Anwar Alnabrawi
E-mail: [email protected]
--------------------------------------
[1] أخرجه ابن أبي شيبة (345)، ابن ماجه (257) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6189).
[2] أخرجه الترمذي (2465) وابن ماجه (4105) وصححه الألباني في الصحيحة (950).
[3] أخرجه أحمد (4219)، أبو داود (1645), والترمذي (2326), وقال: حسن صحيح, وصححه الألباني في صحيح الجامع (6566).
[4] بهجة قلوب الأبرار (1/293-241).
[5] أخرجه البخاري ( 1442)، ومسلم (1010).
[6] المسعِّر: الذي يرخص الأشياء ويغليها، يفعل ذلك هو وحده بإرادته.
[7] أخرجه أحمد (14103) وأبو داود (3451) والتِّرْمِذِيّ (1314) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2200) وصححه الألباني في المشكاة (2894).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم