عناصر الخطبة
1/ كثرة الزيغ والانحرافات في عالم الناس اليوم 2/ لزوم الاستقامة أفضل كرامة 3/ الهداية منة إلهية ومحض توفيق رباني 4/ الثبات على الثبات 5/ الثابتون على الجمر في مقام عظيم 6/ تأملات في قصة جبلة بن الأيهم بين إسلامه وارتداده.اقتباس
لا يسعك وأنت ترى أكثر من سبعة مليارات إنسان يعيشون على هذه الأرض، ثم أنت ترى أن أكثر هذا العدد يعيش في الوادي السحيق وادي الزيغ والضياع (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. تدعو الله بقلب قلق مشفق وأنت تبصر غيبوبة العالم حولك بالانحراف، تلتفت عن يمينك لترى انحرافًا، وعن شمائلك لترى أصنام الشهوة تُعبَد من دون الله، والثابتون على الصراط كالكبريت الحمر عضُّوا على ثباتهم بالنواجذ "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك"، تدعو الله -عز وجل- بقلب قلق مشفق؛ لأنك تعلم أن قلوب العباد هي أسرع الأشياء هزيمةً، وهي أبطأها انتصارًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، كل حمد فإليه، نهتدي منه إليه، كل خير نرتجيه أبد الدهر لديه.
يا أكرم المعطين جودك أجزل *** يا منزل الفـرقان ذكرك أكمل
تالله لو أن السمـاء صحيفةٌ *** والدوحَ أقـلامٌ تسِـحّ وتهـمل
ومدادهـا تلك المحيطات التي *** هي من جلالك يا إلهي توجـل
لتخطَّ فيك الحمد ما بلغت به *** عشر العشير فمدح ذاتك أطول
نرجـوك بالاسم العظيم وإننا *** عبـادُك الفقـرا ببابك نسأل
أفرغ علينا الصبر وارحم حالنا *** واغفر خطايانا وأنـت مؤمل
وأزل بفضلك يا كريمُ همومنا *** أنت الذي حقاً تقول وتفـعل
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا بن عبدِ الله عبدُ الله ورسوله، قد تمم الله به مكارم الأخلاق، حتى غدا بنوره الإظلامُ في إشراق، وفي هداه أصبح الشتاتُ في تلاق، صلى الله وسلم عليه وصلى الله على آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك..
في غمرات الانحراف، وسبحات الانفلات، وتسكع الأفكار والشبهات والشهوات يضع المؤمن أصابعه على قلبه وهو يهتف ليقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
لا يسعك وأنت ترى أكثر من سبعة مليارات إنسان يعيشون على هذه الأرض، ثم أنت ترى أن أكثر هذا العدد يعيش في الوادي السحيق وادي الزيغ والضياع (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
تدعو الله بقلب قلق مشفق وأنت تبصر غيبوبة العالم حولك بالانحراف، تلتفت عن يمينك لترى انحرافًا، وعن شمائلك لترى أصنام الشهوة تُعبَد من دون الله، والثابتون على الصراط كالكبريت الحمر عضُّوا على ثباتهم بالنواجذ "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك".
تدعو الله -عز وجل- بقلب قلق مشفق؛ لأنك تعلم أن قلوب العباد هي أسرع الأشياء هزيمةً، وهي أبطأها انتصارًا.
الثبات.. ليست مفردة عابرة تتجمل بها الأفواه وتتطوق بها الأوسمة، بل طريق مستقيم وصراط قويم (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).
الثبات هو امتحان البقاء، وأخبركم جميعًا أن هذا العالم الذي ترونه بكل أطيافه قد امتحن في الثبات فسقط في الامتحان ومن ذا الذي يعصكم من الله إن أراد بكم سواء؟!
ضلال وانهزام ونكوص وانتكاس وشرود وسقوط وانحدار تعيش أكثر مشاكل العالم المسلم حول الاستقامة الجادة، الاستقامة التي تدفع ركابها إلى نجاح الدنيا والآخرة "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك".
كم عدد الذين يدخلون في دين الإسلام؟ وكم هم الذين انتسبوا لهذه الأمة، ثم انظروا بعد كيف كانت عاقبة الثابتين وكم هم الذين ثبتوا حتى الممات؟ إنهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأحمر.
أنت محتاج إلى الثبات؟ إي وربي كلنا عطشى الهدى جوعى الرشاد..
ليس مشكلة هذه العوالم الكافرة بالله في معرفة الله، ولا في معرفة دينه، ولا في معرفة رسوله، فجمهور الكفرة بالله هم ممن جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا، ولكن المشكلة الصارخة هي في معرفة الله، وفي معرفة دينه، ثم الاستقامة على تفعيل مقتضياتها والثبات على ذاك حتى الممات.
يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال: "قل آمنت بالله ثم استقم"، الزم غرس الاستقامة حتى اليقين، حتى يقين الموت والفناء حتى اللقا في ساحة الجزاء.
أيتها الأجيال ثبات إلى أن يفطر الموت في الجسد، الثابتون على الصراط هما هم ثبتوا ورايات الغواية تهتف.
الثبات الثبات، ليس الثبات مقطوعة تُقال، ولا منظومة تُرتل، ولا مقامة تحضر، بل تنورا يضرم في ضميرك فلا يخبو أبد الآبدين.
الثبات الثبات إن ضاع العالم كله ورأيتموه يضيع فاثبتوا، ثم اثبتوا ثم اثبتوا، وقالوا (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8]، وقولوا (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ) [الأعراف: 155].
ورأيتم كل هذا الكون يزيغ زيغة كبرى صافحًا عن الرشاد، فاثبتوا ثم اثبتوا ثم اثبتوا، وإن رأيتم الأمم بكل أطيافها وأهلها وأنواعها وأجناسها تحيد عن الصراط فالزموا الصراط واثبتوا.
وإن رأيتم الفواحش العظيمة تسلسل جماهير الأمم، ورأيتم الشهوات تُباع بثمن بخس في كل شارع، ورأيتم غرق الضياع أتى على من حولكم فاثبتوا ثم اثبتوا.
وإن رأيتم الطوائف وأصحابها والديانات وأربابها عكوفًا على بقرة تُعبد أو منحوت يُسجد له أو على شجرة يُقرب لها فاثبتوا ثم اثبتوا وقولوا (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ) [الأعراف: 43].
تتيه الأمم وتسلك أنت، وتعمل جموع وتقصر أنت، وتهلك حولك هذه الديار وأنت الذي قد رأيت النهار ..
من أنت حتى يصطفيك الله بين كل هذه الأعداد العظيمة إلى معرفة دين الله ومعرفة صراطه القويم، ما حيلتك في هذه الهداية؟ ماذا بينك وبين الله حتى يصطفيك؟ (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
الثبات.. كل هذه القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وهذان الأصبعان اللذان يلقيان بجلاله وعظمته سبحانه ليس عصيا عليه، والله، أن يحركها الله إذا أراد ضلالك وإضلالك، أو يهدي العالم كله بهداه، فلو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، ولكن سنة الله قضت أن أكثر الناس لا يؤمنون ثم اصطفاك أنت.
نعم نحن قرأنا في الإحصائيات الأخيرة إحصائيات الألفية الجديدة، وذلك بحسب ما أفادته الموسوعة المسيحية العالمية عن عدد الديانات في العالم، استمعوا لهذا العدد المذهل، ثم سلوا الله لأنفسكم التثبيت؛ تقول الموسوعة العالمية المسيحية: إنه يوجد في العالم كله أكثر من عشرة آلاف ديانة، وهذا سوى الطوائف والمذاهب داخل الديانات حتى لك أن تتخيل أن الديانة النصرانية وحدها فحسب فيها أكثر من أربع وثلاثين ألف طائفة ومذهب تتشكل داخلها، والمذهب الإلحادي الذي لا يؤمن بأيّ دين يشكل ما نسبته 10% من سكان الأرض؟
ألا يستدعي هذا أن تقول (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ) [الأعراف: 43]، ووالله إن هذه الهداية ليست من كيسك ولا من كيس أبيك ولا من أجدادك الأولين بل هو منة إلهية ومحض توفيق رباني.
اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1- 3].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين المهتدين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد:
كيف الثبات على الثبات؟
المقام الأول: أن تعلم أن كل هذا الذي أنت فيه هو قدر إلهي ونعمة وهداية وتوفيقا من الله، فاشكروا ولا تكفروا (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
قبل لأعرابي من الأعراب: هل تحسن أن تدعو الله؟ قال: نعم، فقيل: ادع، قال: "اللهم كما أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك".
(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53].
أخرج ابن المنذر والطبراني وحسّنه بعضهم عن عبدالله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- أن ناسًا من العرب قيل لهم بنو أسد وقيل غيرهم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك عام الوفود فقالوا يا رسول الله نحن جئنا إليك يا رسول الله وقد أسلمنا ودخلنا في دينك ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، كأنهم يدلون على رسول الله بهذا الخبر فلما قالوا ذلك أنزل الله -عز وجل- (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
المنة لله وحده أن هداك في حين أضل غيرك، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- في الحديث القدسي أن الله -عز وجل- يقول: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم".
وكان أبو إدريس الخولاني -رحمه الله- وهو الذي روى هذا الحديث عن أبي ذر -رضي الله عنه- كان أبو إدريس إذا حدث هذا الحديث جثا على ركبته، نعم هي المنة العظمى إلى الله وحده، هي المنة الكبرى، هي المنة الجلى إليه، وإلا فالمؤمل خائب إليه وإلا لم يكن ثم تائب ما خاب من استهدى.
يا أخي! هذه الهداية التي نلتها لم يضمنها الله لمشاهير الخلائق، ولا من صنعوا الأمجاد أو علوا في البلاد، بل إنها الهداية لمن يعطها الله، فاسأل الله أن يعطيك، فإنه إن أعطاك جاءتك الفتوحات طوعًا أو كرهًا.
هل تباع هذه الهداية وفي أيّ سوق؟
كان -عليه الصلاة والسلام- يتحسر حسرة شديدة ويلتاع لوعة أليمة على عمه أبي طالب، واجتهد مرات ومرات ومرات في سبيل هداياته، ولكن الله قال له بعد ذلك يا محمد: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) [القصص: 56]. ولو كانت الهداية والثبات توهب في مزاد علني لاشتراه الضالون، ولكنه هيهات.
روي أن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- لما أسلم أبوه أبو قحافة عام الفتح قال أبو بكر -رضي الله عنه- بنبرة حزينة وهو في غمرة فرحه بإسلام أبيه يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي بعثك بالحق يا رسول الله لإسلام أبو طالب كان أقر لعيني من إسلام أبي أبى قحافة".
إن هذا الدين لا يشرى ولا يشترى، فالله يهدي من يريد، مَن يريد الحق يرفع كفّه يعطه الرحمن منه بل يزيد، ولو كان أحد سيشتري الثبات ولزوم الاستقامة لاشتراها الملوك وأبناء الملوك وكفوا أنفسهم عناء السبيل.
ولو كان أحد يشتريها لاشتراه النصارى جبلة بن الأيهم، فقد روي أن جبلة بن الأيهم ملكاً من ملوك غسان دخل إلى قلبه الإيمان، فأسلم ثم كتب إلى الخليفة عمر -رضي الله عنه- يستأذنه في القدوم عليه سرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً, وكتب إليه عمر: أن اقدم إلينا ولك ما لنا وعليك ما علينا. فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه.. فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب, ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجوهر, وألبس جنوده ثياباً فاخرة. ثم دخل المدينة فلم يبقَ أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان. فلما دخل على عمر رحَّب به وأدنى مجلسه.
فلما دخل موسم الحج حج عمر وخرج معه جبلة فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة فالتفت إليه جبلة مغضباً فلطمه على وجهه، فهشم أنفه فغضب الفزاري واشتكاه إلى عمر بن الخطاب.
وعمر لا يعرف الظلم والشنعاء يبغضها فبعث إليه عمر بن الخطاب فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه! فقال جبلة: إنه وطئ إزاري؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه..
فقال له عمر: أما الآن فقد أقررت فإما أن ترضيه وإلا اقتص منك، ولطمك على وجهك كما لطمته على وجهه، فقال جبلة: يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة! فقال عمر: يا جبلة إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه، فما تفضله بشيء إلا بالتقوى، يقول جبلة: إذن أتنصر، قال عمر: "من بدل دينه فاقتلوه"، فإن تنصرت ضربت عنقك، فقال جبلة: أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين، فقال: لك ذلك فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة، وسار إلى القسطنطينية فتنصّر.
فلما مضى عليه زمان ذهبت اللذات وبقيت الحسرات في قلب جبلة فتذكر أيام إسلامه وذلة صيامه وقيامه وصلاته، فندم على ترك الدين والشرك برب العالمين فجعل يبكي ويقول:
تنصرت الأشراف من عار لطمة *** وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة *** وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني *** رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة *** وكنت أسير في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة *** أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم ما زال على نصرانيته حتى مات.. محروما من عودة الاستقامة القديمة، وهو يبكي عليها وعلى عودتها، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
المقام الثاني: الثابتون على الجمر، مقام عظيم، ونحن نسأل الله أن نكون من هؤلاء الذين قبضوا على دينهم وثباتهم واستقامتهم وعضوا كما يعضون على جمرة حمراء لاهبة، فالانتكاسات ليست حديثًا من وحي الخيال شاهد القوافل المنتكسة ثم اسألوا الله التثبيت.
الثابتون على الجمر والقابضون عليه يحدث رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- عن ثبات هذا الزمان الزائغ ويقول عن فتنته: "فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، المتمسك بدينه كالقابض على الجمر أو قال على الشوك".
الثابتون على الجمر في هذا الزمان قال عنهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "وللعامل منهم أجر خمسين"، قيل يا رسول الله أجر خمسين منهم؟! قال: "أجر خمسين منكم" (رواه داوود وابن ماجه والترمذي).
أتظنون أن الثابتين على الهدى قد رفعت عنهم مركبات نفوسهم والغرائز، كلا والله، كلا والله ففيهم ما في البشر كليا.
أتظنون أن الثابتون لا يشعرون ولا يحسون ولا يشتهون، بلى والله، كلا والله لكنه الإيمان وحلاوته حين ذاقوه تقسمت أمامه الشهوات.
أتظنون أن هؤلاء الثابتين والمستقيمين والملتزمين على الصراط لا يحبون ما يحبون كلا والله بل يحبون ما يحب الناس بل يحبون لكن الجنة لما حفت بالمكاره حدثوا أنفسهم قائلين:
تُريدينَ لُقيانَ المَعَالي رَخيصَةً *** وَلا بُدّ دونَ الشّهدِ من إبَرِ النّحلِ
أقسم بالله العظيم قسمًا غير محنوث به أن معاشر المستقيمين لهم طبائع غريزية مثل ما الذي عند غيرهم حتى يعلم الناس جميعا أن نفوسهم ليست بدعًا من النفوس، ويحق لنا أن نتساءل ما الذي يصرف الكثير عن هذا السبيل والثبات على الدين، وقد علمنا ضرورة من دين الله أن الله -عز وجل- لا يكلف الله نفسا إلا وسعها؟!
القابضون على الجمر لم تزدهم معرفة الدنيا إلا معرفة بغرورها ومتاعها وزخرفها، وإلا فهل يصدق أن هذه الدنيا بحجمها وطولها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، هل يصدق؟! بل لو ساوت جناح بعوضة لحرم الله الماء على الكافرين.
ومن كان يصدق لولا حدثنا الصادق المصدوق عن ركعتي الفجر: "أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها"، و"مَوْضِعُ سَوْطٍ أحدنا فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"، والتسبيح والتحميد خير من الدنيا وما فيها.
أعلم هؤلاء الثابتون أن شهوة محرمة واحدة أحقر من أن تقضى ها هنا في الدنيا.
المقام الثالث: سؤال الله التثبيت ليس سؤالا طرفيًّا أو تكليفيًّا، بل من هو من صميم ما يجب على المؤمن الحرص عليه، وإذا كان عليه الصلاة والسلام يقول في سجوده مكثرًا: "يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك"، فما بال أمته حتى أنت يا رسول الله؟! حتى هو رسول الله فالله يقول له: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 74- 75].
حتى أنبياء الله ؟ نعم لم يكتب لأنفسهم الضمانة به فالله حين أعطاهم الكتاب والنبوة قال عنهم: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام:89].
والذي أتاه الله آياته لم يشفع له ذاك بل لما انسلخ منها أخلده الله إلى الأرض فمثله كمثل الكلب.
اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات..
اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات..
اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم