عناصر الخطبة
1/سر تشريع الاستعاذة 2/تفسير سورة الناس 3/وسائل مواجهة آفات الوسوسة 4/صور من الوساوس الشيطانية 5/وسوسة شياطين الإنس والجن 6/وجوب الاستعاذة من شرور الشيطان.اقتباس
لما كانت مضرَّة الدِّين وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا، وإن عظمت؛ جاء البناء في الاستعاذة هنا بصفات ثلاث: الرب والملك والإله، حماية للناس من الشر الذي يتدسس إلى الصدور، وهي لا تعرف كيف تدفعه وترده، فهو مستور، إلا بعون من الرب المالك الإله....
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: إن كان الأشرار والشرور والمصائب الظاهرة يمكن اتقاؤها بالبعد عنها وقطع أسبابها، ألا أن هناك شرورًا خفية، ووساوس شيطانية.. يغفل الإنسان عنها، أو تتلون أمامه فلا يتبين حقها من باطلها، ولا صِدْقها من كذبها؛ لذا شرع الله -تعالى- الاستعاذة به منها، فهو القادر وحده على صرفها والحفظ منها، قال -تعالى- بسم الله الرحمن الرحيم: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)[سورة الناس: 1-6].
عباد الله: أمر الله -سبحانه- نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- وأُمّته بالاستعاذة به واللجوء إليه من كل شرّ خفي، ووسوسة شيطانية، فهو -سبحانه- رَبُّ النَّاسِ؛ الخالق المالك المدبر، و"النَّاس" جنس الإنسان، سُمُّوا ناسًا من "أَنِس"؛ لأنهم يأنس بعضهم ببعض، أو من "النَّوس" وهو الحركة المتتابعة، أو من الإيناس وهو الرؤية والمشاهدة مقابل الجن فهم مستترون لا يُشاهدون.
(مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ)[الناس:2-3]؛ أي معبودهم الحق الذي يتوجهون إليه في جميع عباداتهم، وقد رتَّب الله أوصافه العلى في الآيات الكريمات فقدَّم ربوبيته لعموم خلقه لعمومها وشمولها، وأخَّر الألوهية لخصوصها؛ لأنه -سبحانه- إنما هو إله مَن عبَده ووحَّده، واتَّخذه دون غيره إلهاً.
عباد الله: لما كانت مضرَّة الدِّين وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا، وإن عظمت؛ جاء البناء في الاستعاذة هنا بصفات ثلاث: الرب والملك والإله، حماية للناس من الشر الذي يتدسس إلى الصدور، وهي لا تعرف كيف تدفعه وترده، فهو مستور، إلا بعون من الرب المالك الإله.
قال -تعالى-: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)[الناس:4]، والوسواس: هو الشيطان، وأصل الوسوسة الإلقاء الخفي في النفس؛ إما بصوت خفي لا يسمعه إلا مَن أُلقي إليه، وإما بغير صوت، كما يوسوس الشيطان إلى العبد.
وما من إنسان إلا وقد وُكِّل به قرين يزين له الفواحش، ولا يألوه جهداً في الخبال، والمعصوم مَن عصمه الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه"، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير"(رواه مسلم: 2814).
ومن الوسواس: كل مَن يتكلم كلاماً خفياً عن الناس، وهم أصحاب المكائد والمؤامرات، من إغراء بالضلال، وإعراض عن الهدى، أو سرقة مال، أو إنشاء ضغينة أو تنمية شحناء.. ومن الوسواس: النفس الأمارة بالسوء وهو ما توسوس به شهوات النفس وتُمنّيها وتسول لها (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)[يوسف:53].
إلا أن تلك الوساوس الكِبار، والعداء الكُبَّار، من الشياطين وأوليائهم من الإنس وصفه الله بصيغة المبالغة بأنه (الْخَنَّاسِ) أي الشديد الخنس وهو الاختفاء بعد الظهور، أي الذي يخنس مرة ويوسوس مرة، وإنما يخنس فيما إذا ذكر العبد ربه، فإذا غفل الإنسان عن ربه وذكره وسوس، وإذا ذكر الله انخنس.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس. فهو رجّاع وكرّار، لا يكل ولا يمل، من الوسوسة والإغراء، ويقرها (فِي صُدُورِ النَّاسِ)، والصدور جمع صدر، وهو ساحة القلب وبيته، فتجتمع فيه هذه الوساوس والواردات حتى تكاد تلج إلى القلب؛ قال -تعالى-: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:46].
وهذه الوساوس مصدرها ومبعثها نوعان: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي من شياطين الجن، وشياطين الإنس، كما قال -تعالى-: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[الأنعام:112]، وفي الحديث عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعوذوا بالله من شياطين الإنس والجن"، قلت: أو للإنس شياطين؟ قال: "نعم، شر من شياطين الجن"(رواه النسائي: 5507).
عباد الله: وسوسة الجنة لا ندري كيف تتم، لكن نجد آثارها في واقعنا، ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة، وأن الشيطان قد أعلنها حرباً على الإنسان كبرياء وحسداً وحقداً، وأنه قد استصدر بها من الله إذناً، إلا أنه -سبحانه- لم يترك الإنسان فيها مجرداً من العدة والدفاع، فقد جعل له من الإيمان جُنَّة، ومن الذِّكر عُدَّة، وجعل له من الاستعاذة سلاحاً، فإذا أغفل الإنسان جُنّته وعُدّته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم.
أما وسوسة الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير، ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين، فرفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ولا يحترس؛ لأنه الرفيق المأمون!!
والنمام والواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه، وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله.
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها، وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيباً، فلتكن على بصيرة من أمرك -عبد الله-، ولتعلم أن كل موسوس هزيل أمام مَن يستيقظ لمَكْره، ويحمي مداخل صدره، فهو سواء أكان من الجنة أو الناس إذا ووجه خنس، وعاد من حيث أتى، وقبع واختفى.
اللهم اكفنا شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[النساء:76]... أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
عباد الله: شرور الشيطان كثيرة، وأعظم صفاته وأشدها وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً: الوسوسة، لهذا وصفه الله -عز وجل- بها، وهي أصل كل شر يقع في الأرض من ترك واجب أو تقصير فيها أو انتهاك محرم، قال ابن القيم: "ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شراً وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً، وهي الوسوسة، التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغاً من الشر والمعصية، فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويُمنّيه ويشهّيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله حتى تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، ثم لا يزال يُمثل له، ويُخيل ويُمنّي ويُشهّي، ويُنسي علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مدداً لهم وعوناً، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم...".
إلى أن قال: "فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصفه الله بها -الشيطان-، لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضاً"(التفسير القيم: ص610).
اللهم أعذنا من شيطان الإنس والجن ووساوسهم، هذا وصلوا وسلموا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم