عناصر الخطبة
1/تأملات في قصة الملك العادل ذي القرنين 2/قصة بناء سد يأجوج ومأجوج 3/خروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان 4/تحريم إتيان الكهان والعرافين.اقتباس
من سيرة ذي القرنين، النموذج الصالح للحاكم الصالح، يُمكّنه الله في الأرض، ويُيسِّر له الأسباب، فينشر بها العدل، ويساعد المحتاجين ويدرأ عنهم العدوان، ويستخدم القوة في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق، ثم يُرْجع كل خير إلى رحمة الله وفضله، دون تكبُّر ولا غرور، أو تجبر وطغيان...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: مساق القصص القرآني يحمل في أحداثه وشخصياته حِكَمًا وآدابًا، وينبئ في سياقاته وحواراته عن مواعظ وزواجر، وترغيب وترهيب، ويدل بظاهره وإشارته على أحكام ومعتقدات، كل ذلك في أجمل عرض، وأكمل أسلوب (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111].
عباد الله: في أحداث قصة الملك العادل، والوالي المصلح ذي القرنين، عند مسحه الأرض كلها، ومُلْكه لها، أنبأنا القرآن بعد بلوغه مغرب الأرض، ثم مشرقها، وصولَه إلى منطقة من الأرض طبيعتها أنها سلاسل جبال عالية، ومرتفعات شاهقة متَّصلة، بينها فجوة ينفذ خلالها الناس، ومَمرّ يمرون بينها -طوى القرآن تعيينها، وتجاوز مكانها-، فوجد ذو القرنين، دون الجبل قوماً (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)[الكهف:93]؛ لعُجْمَة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أُعْطِيَ ذو القرنين من الأسباب ما فَقُهَ به ألسنة أولئك، وخاطبهم وراجعهم، فشكى إليه القوم ضرراً حاصلاً، وإفساداً قائماً، وهجوماً مستمراً بالقتل والنهب والتخويف.
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)؛ وهما أُمّتان عظيمتان من بني آدم، سيكون لهما أحدث وأحوال آخر الدنيا، وقبيل قيام الساعة، (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي: نوالاً ومالاً (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)؛ أي حاجزًا يمنع وصولهم إلينا، وسدًّا يمنعهم عنا.
وتبعاً للمنهج الصالح الذي أعلنه الملك العادل وسار عليه، من مقاومة الفساد، والسعي إلى الإصلاح؛ أجاب طلبهم، ولبَّى رغبتهم، دون أخذ الأجرة، والحصول على النوال، بل شكر الله -تعالى- على تمكينه واقتداره، فقال لهم (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) مما تبذلون لي وتعطوني، وهذا من اعتراف الإنسان بنعمة الله وكرمه عليه، لكن طلب منهم الإعانة والمشاركة (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)[الكهف: 95]؛ مانعاً من عبورهم عليكم، إذ الردم أكبر من السد.
(آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي قِطَع الحديد، فجمعوها وكوّموها في الفتحة بين الحاجزين، والفجوة بين الجبلين، في قدرة باهرة، وقوة قاهرة، أرتال من الحديد تُجْمَع حتى تساوي الجبال الشاهقة العظيمة! (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا) على النار لتسخين الحديد، فنفخوا بالآلات والمعدات (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)[الكهف:96]؛ أي نحاساً، حتى اشتبك النحاس مع قطع الحديد، فكان صلداً جلداً وصلباً قهراً والتحم الحاجزان، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج.
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) ويصعدوا عليه، (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)[الكهف:97]، فيحدثوا فجوة فيه.. ثم نظر ذو القرنين إلى العمل الضخم فلم يأخذه بطر ولا غرور، ولم تُسْكِره نشوةُ القوة والعلم، لكنْ ذَكَر الله -تعالى- وشكره، وردَّ إليه العمل الصالح، وتبرَّأ من قوته إلى قوة الله، وفوَّض الأمر إليه (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)[الكهف:98].
وبذا تنتهي فصول هذه القصة العجيبة من سيرة ذي القرنين، النموذج الصالح للحاكم الصالح، يُمكّنه الله في الأرض، ويُيسِّر له الأسباب، فينشر بها العدل، ويساعد المحتاجين ويدرأ عنهم العدوان، ويستخدم القوة في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق، ثم يُرْجع كل خير إلى رحمة الله وفضله، دون تكبُّر ولا غرور، أو تجبر وطغيان.
عباد الله: هذا السد القائم، بقوته النافذة، وطبيعته الصلبة، سيأتي عليه يوم قادم، يتحول ركاماً، ويدك دكاً (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف:98]؛ ففي أشراط الساعة وأحداثها الكبرى وبعد خروج الدجال، ينزل عيسى ابن مريم -عليه السلام-، فيقتل الدجال.
وفي الحديث: "ويأتي قَوْماً قدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ من الدجال، فَيَمْسَحُ عن وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بدَرَجَاتِهِمْ في الجَنَّةِ، فَبيْنَما هو كَذلكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إلى عِيسَى: إنِّي قدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لا يُدَانِ لأَحَدٍ بقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إلى الطُّورِ –الجبل- وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ علَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ ما فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فيَقولونَ: لقَدْ كانَ بهذِه مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حتَّى يَكونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِن مِئَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ اليَومَ.
فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فيُرْسِلُ اللَّهُ عليهمُ النَّغَفَ في رِقَابِهِمْ –وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم-؛ فيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى الأرْضِ، فلا يَجِدُونَ في الأرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى اللهِ، فيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لا يَكُنُّ –أي لا يمنع من نزول الماء بيت- منه بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأرْضَ حتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ –كالمرآة-.
ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَومَئذٍ تَأْكُلُ العِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بقِحْفِهَا –أي قشرها-، وَيُبَارَكُ في الرِّسْلِ –أي اللبن-، حتَّى أنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإبِلِ –وهي القريبة العهد بالولادة- لَتَكْفِي الفِئَامَ مِنَ النَّاسِ-أي الجماعة-، وَاللِّقْحَةَ مِنَ البَقَرِ لَتَكْفِي القَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَمِ لَتَكْفِي الفَخِذَ مِنَ النَّاسِ –وهم الجماعة من الأقارب وهم دون البطن والقبيلة-" الحديث (رواه مسلم).
فاللهم إنا نسألك الثبات على الدين والهداية إلى صراطك المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: يأجوج ومأجوج أُمَّة من بني آدم، لهم سمات البشر وصفاتهم، وأشكالهم وأحوالهم، قال ابن كثير: "والصحيح أنهم من بني آدم"، وقال: "ومن زعم أنهم على أشكال مختلفة، وأطوال متباينة جداً، فمنهم كالنخلة السحوق، ومنهم من هو في غاية القصر، ومنهم من يفترش أذناً ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل، ورجم بالغيب بغير برهان"(البداية والنهاية).
وبعد عباد الله: ومن الرجم بالغيب إتيان الكهان والعرافين ممن يدّعون الغيب وسؤالهم وتصديقهم، وفي الحديث: "من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فيما يقول، فقد كفَر بما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-"(رواه أبو داود)؛ فاحفظوا إيمانكم، وإياكم وما يخدش عقيدتكم؛ فهي أَنْفس ما تملكون، وتعاهدوا أبناءكم وبناتكم حَصِّنوهم باسم الله، واغرسوا فيهم التوكل على الله، ومَن يتوكل على الله فهو حسبه.
هذا وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم