عناصر الخطبة
1/تأملات في سورة الكهف 2/لزوم أهل الاستقامة 3/قصة صاحب الجنتين 4/العبد بين الشكر والكفر 5/تصحيح مفهوم عن حرية الاختيار.اقتباس
ليعلم كل مفتون بماله، معجب بصحته وقوته، مغتر بجاه وحسبه، أن مآل كل ذلك الانقطاع والاضمحلال، وإن تمتع بها قليلاً فإما تفارقه أو يفارقها، ولا يبقى إلا الإيمان وحسن العمل؛ فهو العروة الوثقى والولاية العظمى..
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: سلوك المرء وما يتمثله من أخلاق وطباع، نابعٌ من جذوة الإيمان في قلبه، فكلما خَبَا الإيمان شانت الطباع، واستفحل سوء الفِعَال، وفي الحديث: "ألا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ قالوا: بَلَى، قالَ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ"(رواه البخاري 4918، ومسلم 2853).
عباد الله: آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أول دعوته ثُلّة من الرجال غالبهم فقراء، ولا يزال يدعو الناس، وخصّ أشراف القوم ووجهاءهم؛ طمعاً فيهم وفي أتباعهم، حتى رد عليه وجوه قريش وأسيادهم: إنا نستحي أن نجالس فلاناً وفلاناً من الفقراء فلو أبعدتهم لجالسناك وصحبناك. قالوا ذلك: استنكافاً واستكباراً، فنهاه الله، ونزل القرآن (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)[الكهف:28]، جاء ذلك عن ابن زيد، وأصله في الصحيح.
ثم ضرب الله -تعالى- مثلاً لرجلين جعلنا لأحدهما جنتين من كروم وعنب (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ)[الكهف:32]، وجعلنا وسط هذين البستانين زرعاً ومزدرعاً للحبوب وخلافها، وسيلنا خلالهما نهراً يغني عن النواضح والسواني، فقد اكتملت الجنتان في حسنها، وتمت في هيئتها.
ولذا كانت الجنتان تؤتي أكلها، وتنتج ثمرها كاملاً غير منقوص (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)[الكهف:33]، فتعاظمت له نفسه، وكبرت عليه حاله، فتجاهل نعمة ربه، وتيسير خالقه، حتى غمط غيره، واستحقر صحبه، فقال لصاحبه الذي لا مال له (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)[الكهف:34]، قال ذلك افتخاراً واستكباراً وليس تحدثاً بنعمة الله، وإظهارًا لكرم الله -تعالى- عليه.
وأي افتخار بشيء هو محض توفيق من الله -تعالى-، وتيسير منه -سبحانه-!! فهذا مما يوجب على العاقل الحمد لله والشكر على عطاياه؛ شكراً للمنعم، واعترافاً بالمتفضل، بل إنه تجاوز ذلك وتألى على الله بقوله: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)[الكهف:35]؛ فينقطع ثمرها، ويجف ماؤها، فقد استوت على سوقها، واشتد عودها، وأنا من ورائها أحوطها بالعناية والرعاية.
(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)[الكهف:36]؛ إنكاراً للبعث، وكفراً باليوم الآخر، وهكذا سوء الأخلاق، والتخلق بكريه الطباع، لا يزال بصاحبه حتى يوديه المهالك، ويورده المعاطب، ويجرّه إلى سوء العاقبة، وبئس المصير، فحين استنكف كفار قريش عن الإيمان إعراضاً واستكباراً ماتوا على الكفر، وصاحب الجنتين حين تماهى مع نفسه وتعاظمها، أنكر الآخرة وكفر بها، وفي الحديث: "الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ"(مسلم:91).
عباد الله: مما يروّض النفس، ويكسر حدّتها، ويقصم تجبرها، تذكرُ أصل الخلقة، ومنشأ الوجود، ومنتهى الحياة، وقد وعظ صاحبَ الجنتين صاحبُه المؤمن فقال له وهو يحاوره ويذكره (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)[الكهف:37- 38].
وإن التبرؤ من القوة، والاعتراف بالضعف، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله مما يُسكِّن النفوس، ويهذّبها ويزكيها، فلا تملك أمام النعم العظيمة والآلاء الجسيمة سوى شكر المنعم على نعمه، والثناء عليها، وتسخيرها في طاعة الله وعبادته (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا)[الكهف:39].
وحين رأى المؤمن صاحبه متمادياً في غيه، قد غره ماله، وأعماه عشيرته وتلده، دعا الله -تعالى- على جنته غضباً لربه، وطمعاً في إنابته والصحو عن غفلته، أن يرسل عليها (حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ) صاعقة أو مطراً (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا) لا نبات فيها (زَلَقًا) قد غمرتها المياه، وأفسدت الزروع والثمار، (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)[الكهف:40- 41]؛ غائراً لا يستطاع الوصول إليه.
فاستجاب الله دعاءه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)[الكهف:42]؛ وندم ولات حين مندم؛ ليعلم كل مفتون بماله، معجب بصحته وقوته، مغتر بجاه وحسبه، أن مآل كل ذلك الانقطاع والاضمحلال، وإن تمتع بها قليلاً فإما تفارقه أو يفارقها، ولا يبقى إلا الإيمان وحسن العمل؛ فهو العروة الوثقى والولاية العظمى (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)[الكهف:44].
فمن كان مؤمناً به تقياً، كان له ولياً، فأكرمه بأنواع الكرامات ودفع عنه الشرور والمثلات، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه؛ خسر دينه ودنياه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن:16].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
عباد الله: من الآيات التي حُمِلَتْ على غير معناها واستُدِلّ بها في غير سياقها، قوله -تعالى-: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف:29]؛ فقد يستدل بها على حرية الاختيار، والإذن بالمعصية والكفر، وهذا مجافٍ عن معنى الآية، مخالف لدلالتها وهدايتها، وما هذا الأسلوب إلا على سبيل التهديد والوعيد لمن اختار الكفر ورضي المخالفة، بعد الحجة وقيام المحجة.
يدل عليه قوله -تعالى- بعدها (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف:29]؛ كما يهدد الإنسان غيره فيقول: إن كنت صادقاً فافعل ذلك! فالعاقل لا يفهم منها طلب الفعل أو إباحته، وإنما التهديد والوعيد على فعله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
هذا وصلوا وسلموا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم