عناصر الخطبة
1/كثرة الشرور والمصائب 2/أهمية الاستعانة بالله والاستعاذة به 3/ أشد الشرور وأعظم الضرر على الإنسان 4/الاستعاذة من السحر والسحرة 5/ذم الحسد 6/حصن منيع من كل شر وبلاءاقتباس
إن التعلق بالله -تعالى-، وتفويض الأمر إليه، وتحقيق التوكل عليه، والمحافظة على الأوراد الشرعية، والأذكار الموقوتة، حصن منيع من كل شر وبلاء، وما كثر في الناس في الآونة الأخيرة من السحرة والحساد وأشباه ذلك، إلا من الغفلة عن الله، والتهاون بمثل هذه التحصينات الشرعية، والأوراد الواردة...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله مجير عباده، الحافظ لخلقه، أحمده حمد مفتقر لعفوه وعافيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير مستعيذ وأعظم داع ومستجيب، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعد والوعيد، وسلم اللهم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: الشرور والمصائب تتخطف الناسَ وتتخللهم عن أيمانهم وشمائلهم، ولا عاصم دونها ولا راد، إلا من عصمه الله -تعالى- وحفِظَه، وإن أعظم وقاية عنها، وأكملَ دافع لها الاستعانةُ بالله والاستعاذةُ به من كل ذلك، فقد أنزل الله سورتين سماهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمعوذتين إحداها تحفظك من جميع الشرور الخارجية والأخرى من الشرور الداخلية، وسُنّ قراءتُها في الصباح والمساء وعند النوم ودبر كل صلاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما سأل سائل بمثلهما ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما"(رواه النسائي 5453، وصححه الألباني).
قال ابن القيم: "تضمنت هاتان السورتان الاستعاذةَ من الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعِه وأدلِّه على المراد، وأعمِّه استعاذة، بحيث لم يبق شرٌّ من الشرور إلا دخل تحت الشرِّ المستعاذ منه فيهما"(التفسير القيم: 557).
عباد الله: افتتح الله سورة الفلق بقوله -سبحانه- (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) والعوذ هو: اللجأ إلى شيء يقي من يلجأ إليه، والمعنى: أعتصم وأستجير وأتحصن وألوذ برب الفلق، و(الْفَلَقِ) هو الخلْق والشق، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق، ولذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الفَلَق: هو الخلق".
وأنت حين تتأمل الخلْق -جميعَ الخلق- يتبين لك أن خلق الله أكثرُه عن انفلاق، فالله رب الفلق وخالق الخلق هو خيرُ واقٍ، وأعظمُ دافع، لكل شر ومكروه، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف:64]، وفي الحديث "واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعَتْ على أنْ يَنْفَعوكَ بشَيءٍ، لم يَنْفَعوكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ لك، وإنِ اجْتمعوا على أنْ يَضُروكَ بشَيءٍ، لم يَضُروكَ إلَّا بشَيءٍ قد كتبَهُ اللهُ عليك"(رواه الترمذي ح2516 وصححه الألباني).
فيستعيذ القارئ بالله رب الفلق وخالقِ الخلق (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)[الفلق:2]؛ أي من شر كل ذي شر، وهو عام يدخل فيه جميع مَن يوجد منه الشر من جن وإنس وهوام ودواب، وجمادٍ كالإحراق بالنار والإغراق بالبحر والقتل بالسم وخلافها. بل ومن نفسك أنت فإن النفس أمارة بالسوء، فإذا قلت (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)؛ فأول ما يدخل فيه نفسك، كما في خطبة الحاجة "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا"(رواه أحمد 4487).
عباد الله: بعد الاستعاذة بالله رب الفلق وخالق الخلق من عموم شر كل ذي شر، خص الله -تعالى- ثلاثةَ شرور خفية، هي أشدُّ الشرور وأعظمُ الضرر على الإنسان، أحدها: وقت يغلب وقوعُ الشر فيه وهو الليل، قال -تعالى-: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)[الفلق:3]؛ والغاسق هو الذي يظلم ويهجم علينا بظلامه إذا دخل، والوقوب: الدخول، فالليل إذا دخل في ظلامه غاسق (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)[الإسراء:78]، والنجم إذا أفل غاسق، والقمر غاسقٌ إذا وقب حين الخسوفِ وذهاب نورِه واختفائه.
فالليل تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام، ويتحيّنه أصحاب العبث والإفساد؛ لغفلة الناس وسكونِهم ونومهم فيه.. فيلوذ العبدُ بالله -تعالى- ويستعيذُه من شر العابثين والمفسدين وأشياعهم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)[الزمر:36].
والصنف الثاني مما خصه الله من الشرور: شرذمة من الناس أُقيمت صناعتُهم على إرادة الشر بالغير، وهم السحرة والساحرات (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ)[الفلق:4]، والنَّفْث: هو نفخ بدون إخراج ريق. والعقد: ما يعقِده السحرة من خيوط وغيرِها عند إرادة السحر، حيث تعقد ثم تنفث ثم تعقد وتنفث، وهي بنفسها الخبيثةِ تريد شخصاً معيناً، فيؤثر هذا السحر بالمسحور. قال ابن عطية: وحدثني الثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان -صغار الإبل- فمنعت بذلك رضاع أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى رضاع أمه في الحال فرضع"(المحرر الوجيز: 8/716).
والمقصود الاستعاذة من السحر والسحرة عموماً -أعاذنا الله من شر السحرة بقدرته-: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[آل عمران:101]، وتأمل -عبد الله- دقة النظم القرآني في إضافة (ال) التعريف مع (النفاثات) دون (غاسق) و(حاسد)؛ لأن كل نفاثة شريرة، دون (غاسق)؛ لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر، وإنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك (حاسد) فليس كل حاسد يضر، ورب حسد محمود وهو الحسد في الخير.
عباد الله: والصنف الثالث مما خصه الله من الشرور: طائفة من الناس ذو خُلُق من شأنه أن يلحق الأذى بمن تعلق به؛ لظنه أن الحسد يزيل النعمة عن من حسده: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق:5]، وحقيقة الحسد: تمنّي زوال نعمة المحسود وإن لم يَصِر للحاسد مثلُها، فتجد الحاسدَ يضيق صدره إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال أو جاه أو علم أو غيرِ ذلك، قال الحسن بن الفضل: "جمع الله الشرور في هذه السورة، وختمها بالحسد ليُعلم أنه أخسُّ الطبائع"(تفسير الثعلبي: 30/542).
وقيد الله الحاسد إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه: من بغي وعدوان وإيقاع شر وتطلبِ عثرة وفرحٍ بكبوة؛ لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره، فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضار لنفسه؛ لاغتمامه بسرور غيره، وقد قيل: "ما خلا جسد من حسد، لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه". وقد قيل:
كل العداوة قد ترجى مودتها *** إلا عداوةَ من عاداك من حسد
والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عُصي به في الأرض، والحاسد ممقوت مبغوض مطرود. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن التعلق بالله -تعالى-، وتفويض الأمر إليه، وتحقيق التوكل عليه، والمحافظة على الأوراد الشرعية، والأذكار الموقوتة، حصن منيع من كل شر وبلاء، وما كثر في الناس في الآونة الأخيرة من السحرة والحساد وأشباه ذلك، إلا من الغفلة عن الله، والتهاون بمثل هذه التحصينات الشرعية، والأوراد الواردة.
قال ابن القيم في بيان حاجة العبد للتحصن بهاتين السورتين قال: "لا يستغني عنهما أحد قط، وإن لهما تأثيراً خاصاً في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وإن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس"(التفسير القيم: 537).
هذا وصلوا وسلموا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم