عناصر الخطبة
1/أهمية التكاليف الشرعية 2/الإسلام دين اليسر والسماحة 3/أهمية تذكير الناس بربهم ودعوتهم للدين 4/تنوع مصير المدعوين بحسب استجابتهم 5/سبيل النجاة والفلاح 6/ علة شقاء كثير من الناس ومنشأ غفلتهماقتباس
فإيثار الحياة الدينا بمكسب خبيث، أو جاه زائف، أو لذة عابرة، أو سمعة زائفة، أو شهرة بائسة، أساس كل بلوى، ومبعث كل مصيبة، فكم قُطعت بسببها أرحام!، وهدمت بيوت!، وشاع الفساد والإفساد!...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: التكاليف الشرعية والواجبات الدينية من أوامرَ ونواهٍ ومستحبات ومكروهات، نعمة من الخالق مسداة، ومنَّة من الله مهداة، فهي حاجات تتطلبها النفس البشرية، وضروريات تستوجبها الحياة الدنيوية، ليبقى المسلم مستقر الحال، مطمئن القلب، متوازن الرغبات (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28]؛ ولذا جاءت الإشارة إلى هذا الدين، والإشادةُ بالشريعة، وسط عِقْد النعم التي يذكِّر الله بها عباده في سورة الأعلى فقال -سبحانه-: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)[الأعلى:8].
عباد الله: دين الله -تعالى- يُسْر، موافق للحاجات، مُلَبٍّ للرغبات، فهذه الصلاة وتلك الزكاة، وذلك الصيام وسائر أعمال الجَنان، من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وتصديق باليوم الآخر واعتقاد بالقدر خيره وشره وجميعُ الأوامر والنواهي، هي حاجات نفسية، ومطلب خَلْقي، تتغذّى بها الروح، وتحيا بها النفوس، وتطيب بها الحياة، كحاجة الجسد للأكل والشرب.
فكل عِبَادَة لله -تعالى- تشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى يُكْسِبُ النَّفْسَ تَزْكِيَةً، وَيَبْلُغُ بِهَا إِلَى غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ، فَيُحْتَمَلُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ الْغَايَةِ السَّامِيَةِ.. وَلَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِانْتِقَامٍ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، وَلَا تَعْذِيبٍ لَهُ كَمَا كَانَ أَهْلُ الضَّلَالِ يَتَقَرَّبُونَ بِتَعْذِيبِ نُفُوسِهِمْ (ينظر: التحرير والتنوير16/90).
ولما رأى النبيّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- شيخًا يُهَادَى بيْنَ ابْنَيْهِ، قالَ: "ما بَالُ هذا؟"، قالوا: نَذَرَ أنْ يَمْشِيَ، قالَ: "إنَّ اللَّهَ عن تَعْذِيبِ هذا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ"، وأَمَرَهُ أنْ يَرْكَبَ.(رواه الشيخان).
وحين أمر الله -تعالى- بالوضوء وكيفيته، ختم الآية بقوله -تعالى-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة:6]؛ فشريعتنا الإسلامية بُنِيَت على التيسير والتسهيل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج:78]؛ وتمت بنعمة الله ورحمته (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)، وكملت برضا الله -تعالى-: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3]، وخُتِمت برسول الرحمة "ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما" وسيرته كله صفحات من السماحة واليسر، والرفق واللين، وصدق الله (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)[الأعلى:8].
عباد الله: لما ذكر الله عظيم نعمه مطلع هذه السورة، تذكيراً وتنويهاً، أمر -سبحانه- نبيه وعباده المؤمنين بالتذكير، فقال -تعالى-: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)[الأعلى:9]؛ أي ذكرهم بالله وأيامه ونعمه وشرعه، ورحمته وكرمه، فإن الذكرى تنفع النفوس، والتذكيرَ يحيي القلوب، ولن تعدم من ينتفع بها ويتذكر في كل زمان ومكان، قال -عليه الصلاة والسلام-: "بَلِّغوا عني ولو آية"(رواه البخاري3461).
وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يواظب على قراءة هذه السورة في أعظم مجمع أسبوعي للناس، بل وفي كل سنة في صلاتي العيدين موعظة وتذكيراً.. إلا أنه يكمل بالمُذَكِّر أن يتحين الزمن الصالح بحيث تكون النفوس مهيَّأة مقبلة، دون ضيق ولا حرج أو في شدة جوع وبرد، أو ألم وغضب، وأن تكون الموعظة مناسبة لمستوى عقول المخاطبين وأفهامهم، من غير إطالة تجلب الملل، ولا إكثارٍ يحدث السأم، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا"(رواه البخاري68).
عباد الله: هذه الذكرى وذلك التذكير سينفع إن عاجلاً أو آجلاً، ويكون المُذَكِّر قد أدى ما عليه، وبلَّغ ما كُلِّف به، والناس بعد ذلك وشأنهم، فتختلف مسالكهم، وتتغاير مصائرهم، ويفعل الله ما يشاء، ولذا قال -سبحانه-: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)[الأعلى:10]، وهو الذي يخاف الله -تعالى- والقيام بين يديه.
والأصل في النفوس أنها فُطِرَت على التوحيد وحب الخير والخشية من الله، فهي لا محالة ستنتفع بالتذكير إن عاجلاً أو آجلاً، فالمرء إذا ذُكِّر ذَكَر، وإذا بُصِّر أبصر، وإذا وعظ اعتبر، إلا من ختم الله قلبه، وران على قلبه بما كسب وعملت يداه، فيعرض عنها بقلبه وبدنه، ويصد غيره إمعاناً في الإعراض، وهو الأشقى الذي بلغ غاية الشقاء في الدنيا بروحه الخاوية ونفسه الخبيثة، وفكره القلق، (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى)[الأعلى:11]؛ هذا في الدنيا.
وفي الآخرة (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى)[الأعلى:12] الكبرى في شدتها عليها ملائكة غلاظ شداد، والكبرى بمدتها خالدين فيها أبداً، والكبرى بضخامتها (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا)[الأعلى:13]؛ فلا يموت فيجد طعم الراحة، ولا هو يحيا في أمن وراحة، إنما هو العذاب الخالد، والشقاء السرمدي، نسأل الله السلامة والعافية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)[فاطر:36]؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن كان أهل الضلال والكفر في شقاء ملازم وعناء مستمر، فإن النجاة والفلاح والنجاح مع التطهر من كل رجس وشرك، والتزكي بطاعة الله -تعالى- وذكره وعبادته، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[الأعلى:14-15]؛ أفلح يقيناً، أفلح في دنياه بحياة روحه، ونور بصيرته، وهناء عيشه، شاعراً بحلاوة الذكر وطيب الحياة، مطمئناً لما أمامه من أهوال وأحوال الآخرة متهيأ مستعداً؛ ليتهيأ له النجاح الأخروي برحمة الله وفضله (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[آل عمران:185].
إلا أن علة شقاء كثير من الناس ومنشأ غفلتهم، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر، والنجاة والفلاح، ويهديهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى هي: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[الأعلى:16]؛ فإيثار الحياة الدينا بمكسب خبيث، أو جاه زائف، أو لذة عابرة، أو سمعة زائفة، أو شهرة بائسة، أساس كل بلوى، ومبعث كل مصيبة، فكم قُطعت بسببها أرحام!، وهدمت بيوت!، وشاع الفساد والإفساد!
جاء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قرأ سورة الأعلى فلما بلغ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[الأعلى:16]؛ ترك القراءة وأقبل على أصحابه، وقال: "آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا؛ لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزُويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل"(رواه الطبري في تفسيره: 24/322).
وفي الحديث "الدنيا دار مَن لا دار له، ومال مَن لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له"(رواه الترمذي وقال حديث صحيح غريب).
والآخرة أبقى من الدينا وخير منها (وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى:17]؛ (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة:38]، عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحب دنياه أضرَّ بآخرته، ومَن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى"(رواه أحمد).
وبعد عباد الله: هذه الموعظة البليغة وهذا التذكير بنعم الله -تعالى- وآلائه، تحتاجها النفوس لتزكو، والقلوب لتحيا، والحياة لتطيب، فهي موعظة وتذكير، وكما هي في كتاب الله -تعالى-، فقد جاءت كذلك في صحف إبراهيم وموسى (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)[الأعلى:18-19].
هذا وصلوا وسلموا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم