عناصر الخطبة
1/مكانة المساجد في الإسلام 2/فضل المساجد وعمارتها 3/آداب المساجد وحقوقها 4/دلالة تعظيم الصلاةاقتباس
فما بال أناس لا يقدرون للصلاة قدرها، ولا للمساجد مكانتها، يأتي أحدهم مرتدياً ثياب مهنته وقميص نومه، مما لا يفعله بمناسبات فرحه، ومقابلة وجهائه، وآخرون يأتونها بملابس تشمئز النفوس من رأيتها، ويستقبح العقلاء من ارتدائها، وأدهى من ذلك من يأتي...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عظيم في ربوبيته، عظيم في أولوهيته، عظيم في أسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: "أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا"، ليس بقعة أحب إلى الله من بيوته، وليس روادٌ أكرم من روادها.
أولئك قوم شيّد الله فخرهم *** فما فوقه فخر وإن عظم الفخرِ
المساجد دور العبادة، ومنارات الهدى، وأعلام الدين، بيوت الله هي المساجد التي يغشاها المؤمنون الركع منهم والساجد، ويتزاحم فيها العابد والتائب؛ ليرتفعوا عند ربهم في أعلى المراتب، مخلفين الدنيا وراء المناكب.
المساجد ملتقى القريب والبعيد، والغني والفقير، تراهم سواسيه أمام عظمة الله، يركعون ويسجدون وبحمده يسبحون، يُذكر فيها اسمه، ويجزل فيها قسمه؛ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور: 36 - 38].
يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا *** الله أكبر في شوق وفي جذلِ
أرواحهم خشعت لله في أدب *** قلوبهم من جلال الله في وجلِ
نجواهم: ربنا جئناك طائعـــــــــة *** نفوسنا، وعصينا خادع الأملِ
هم الرجال فلا يلهيهم لعــــب *** عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسلِ
بيوت الله هي محالّ البركات، ومواطن العبادات، ومصاعد الكلم الطيب والعمل الصالح، وأسواق الآخرة التي يوجب فيها المشترون صفقة البيع الرابح.
إذا ما تنادوا للصلاة وجدتني *** يفزع من خوف الإله جنابي
المساجد ملتقى المؤمنين؛ بها تتعلق قلوبهم، وفيها تسموا أرواحهم وتتوحد صفوفهم، فيها يؤدون صلاتهم ويعظمون ربهم، فيها يجسدون وحدتهم، من المسجد انطلق المصلون من الصحابة والتابعين فأضاؤوا الدنيا عدلا ونورا.
من منائرها دوت كلمة التوحيد، وعليها نودي بالصلاة والفلاح والكفاح، ومن محرابها تليت آيات الله غضا طريا، ومن منابرها شاعت أنوار الهداية والصلاح.
المساجد مجمع المتقين، ومأوى أفئدة المصلين؛ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 2]، كان الصحابة إذا افتقدوا أحداً بحثوا عنه في المسجد، جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ ابنته فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا، فَقَالَ "أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟"، فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ؛ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِإِنْسَانٍ "انْظُرْ، أَيْنَ هُوَ؟"، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: "قُمْ أَبَا التُّرَابِ، قُمْ أَبَا التُّرَابِ"(أخرجه مسلم).
المشي إلى المساجد يرفع الله به الدرجات، ويمحو به الخطيئات، ويضاعف به الحسنات، قال -عليه الصلاة والسلام-: "بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فما أجمل مساجدنا، وما أعظم صلاتنا، وما أبهى روادها!.
أُولئِكَ قَدْ هُدُوا في كُل مَجْدٍ *** إلى نَهْجِ الصرَاط المُسْتقِيمِ
صلاة الجماعة شعار الوحدة والتوحد، وفي إقامة صفوفها وتراصها نيل ثواب رب العالمين؛ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)[الأعراف: 29].
السعيد من عمرها وحافظ على أداء الفرائض فيها، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "المساجد بيوت الله في الأرض، والمصلي فيها زائر لله، وحق على المزور ان يكرم زائره"، وقال وهب بن منبه -رحمه الله-: "يؤتى بالمساجد يوم القيامة كأمثال السفن، مكللة بالدر والياقوت؛ فتشفع لأهلها"، وفي الذكر الحكيم: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[التوبة: 18].
لا أهيم إلا على المساجد وطيبها *** وأظلُّ منها تحت ظلٍّ صافي
"مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ؛ أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ"(متفق عليه)، فما أكرم بيوت الله وما أكرم عُمّارها!؛ "مَنْ بَنَى للَّه مَسْجِدًا وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ؛ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ"، وما أعز من اعتنى بها نظافةً وصيانة، في صحيح مسلم: "أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا: مَاتَت، قَالَ: "أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي"، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا"، فَدَلُّوهُ؛ فَصَلَّى عَلَيْهَا.
إن على كل مسلم أن يرعى للمساجد حرمتها، وللصلاة قيمتها؛ ففيها يقام أعظمُ معالمِ الدين الحنيف ودعائِمه العظام، وأعظمُ شعائرِه وأنفع ذخائره.
الصلاةُ طاعةٌ تشرقُ بالأملِ في لجةِ الظلمات، وتنج المتردّي في دَربِ الضلالات، وتأخذُ بيد البائس من قعر بؤسه، واليائسِ من دركِ يأسهِ، إلى طريق السعادةِ والنجاة؛ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[البقرة: 45]، (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)[النساء: 103].
أستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، إن ربنا لغفور شكور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعامين، وآله وصحبه أجمعين.
تعظيم قدر الصلاةِ عنوانُ صدقِ الإيمان، وحق بيوت الله وحق فريضته وحق عباده المصلين أن يأتي إليها المسلم بأجمل حلة وأبهى نظره؛ (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]، قال جَابِرُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "كَانَتْ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حلةٌ يَلْبَسُهَا يَوْمِ الْجُمُعَةِ وفِي الْعِيدَيْنِ"، ولما َرَأَى عَلَى أناسٍ ثِيَابَ من نِّمَارِ لا تصلح للصلاة، قال: "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ، سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ".
وكان سعيد بن المسيّب يلبس الحلّة بألف درهم ويدخل المسجد ويقول: "أجالس ربّي"، وكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْمسّجِدِ لَيُحَدِّثَ تَوَضَّأَ وضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَلَبِسَ قَلَنْسُوَةً، وَمَشَطَ لِحْيَتَهُ.
فما بال أناس لا يقدرون للصلاة قدرها، ولا للمساجد مكانتها، يأتي أحدهم مرتدياً ثياب مهنته وقميص نومه، مما لا يفعله بمناسبات فرحه، ومقابلة وجهائه، وآخرون يأتونها بملابس تشمئز النفوس من رأيتها، ويستقبح العقلاء من ارتدائها، وأدهى من ذلك من يأتي للصلاة ببنطال قصير قد بدت ركبتيه، وإذا جلس للصلاة انحسر فخذيه؛ (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف: 26].
وآخر يأتي يجر إزاره أسفل الكعبين، فالأول أخل بشرط ستر العورة؛ فلا تصح صلاته، والآخر ارتكب بالإسبال كبيرة من الكبائر، قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن يعقوب: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنِ الْإِزَارِ، فَقَالَ: أَنَا أُخْبِرُكَ بِعِلْمٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِزْرَةُ الْمسلم إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ"، قال ذلك ثلاث مرات، "ولا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا"(أخرجه مالك في الموطأ وأصله في الصحيحين).
ومن حق المساجد والمصلين أن يعتني المرء بنظافته ورائحته، في الصحيحين "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ"، ويدخل فيه كل رائحة كريهة تؤذي المصلين.
فمن حافظ على هذه الصلواتِ الخمس؛ "فأَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ"(رواه أحمد).
كيف يلهو الفتى بها عن فروض *** وحقوق حتميـــــة الإتيــانِ
كيف يلهو الفتى بها عن صلاة *** هي في الفرض أول الأركانِ
كيف يلهو الفتى نهارا وليـــــلا *** عن صلاة يقيمها في ثوانِ
يلتقي المؤمنـــــون فيه وفـــودا *** ليفوزوا برحمة الرحمــــنِ
اللهم أحي قلوبنا بطاعتك، واغفر زللنا وإسرافنا في أمرنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم