تعظيم الشريعة

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-13 - 1436/03/22
عناصر الخطبة
1/فضل العلماء 2/ظاهرة السخرية من العلماء وعلمهم وفتاواهم 3/خطر انتقاص علماء الشريعة 4/وجوب تعظيم الشريعة 5/تعظيم السلف للشريعة 6/بعض صور كيد أعداء الإسلام للشريعة 7/عقوبات مخالفة السنة

اقتباس

"إن العلماء ورثة الأنبياء" هذا من أعظم المناقب لأهل العلم، فإن الأنبياء خير الخلق، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أُرسلوا به إلا العلماء، فكانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقربُ الناس إليهم، فإن...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

لقد رفع الله منزلة العلم والدين وأهله في هذه الدنيا، وأحلَّهم في المنزلة اللائقة بهم، فقد رفع الله -عز وجل- العلماء، ومَيَّزهم عن غيرهم، فقال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11].

 

وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[الزمر: 9].

 

واستشهد سبحانه بأولى العلم على أجل مشهود عليه، وهو توحيده، فقال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18].

 

وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه-: قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر".

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "قوله عليه السلام: "إن العلماء ورثة الأنبياء" هذا من أعظم المناقب لأهل العلم، فإن الأنبياء خير الخلق، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أُرسلوا به إلا العلماء، فكانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقربُ الناس إليهم، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدرهم والدينار فكذلك هو في ميراث النبوة، والله يختص برحمته من يشاء".

 

إلى أن قال ابن القيم -رحمه الله-: "وفي الحديث تنبيه على أن محبتهم من الدين وبُغضهم مناف للدين ... وكذلك معاداتهم ومحاربتهم، معاداة ومحاربة لله ... قال علي -رضي الله عنه-: "محبةُ العلماء دينٌ يُدان به" أ. هـ. [مفتاح دار السعادة].

 

وقال الإمام أبو بكر الآجري -رحمه الله-: "إن الله اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، كما اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يُعرف الحلالُ من الحرام، والحق من الباطل، فضلهم عظيم، وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عيون الأولياء، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يُذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوبُ أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا..."[أخلاق العلماء].

 

أيها المسلمون: إن فضل العلماء، وحملة الدين والحديث عنهم لا ينتهي، فهم كالعافية للبدن وكالشمس للدنيا، ولقد سعى أعداءُ الإسلام سعياً حثيثاً في الطعن في حملة الدين وعطائه.

 

وكان من نتائج هذا العداء السافر: أن زالت هيبة الملة الإسلامية من قلوب الكثيرين، فأصبح المرء يسمع آيات الله تتلى، وحديث الرسول يُروى، وكأنه يستمع إلى صحفي يكتب في جريدة، أو قاصٍ يكتب قصة، أصبح المسلم لا يجد ذلك التعظيم والتوقير والتبجيل لنصوص الكتاب والسنة، مثل ما كان يعهد من نفسه من قبل ذلك العداء السافر، كان يحبُ أهل الخير، وينتصر للدين وأهله، ويدعو للمسلمين، ويترحم على المؤمنين.

 

واليوم بدأ يخبو ذلك الوهج الإيماني من قلوب كثير من أهل الإسلام، ومن أكبر أسباب ذلك تلك العداوة الظاهرة والباطنة للدين وأهله وحملته.

 

عباد الله: وساعد ذلك المكر الخبيث والكيد المتين جهلُ المسلمين بدين الله -تعالى-، سواءً كان الجهل بحرمة المسلم على المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستخفاف والاستقلال بأهل العلم والدين والصلاح، وازداد الأمرُ سوءاً بالكثيرين فتطاولوا على الشريعة نفسها، وأصبحت نفوس البعض تجسرُ أن تتكلم في دين الله بالاستهزاء والسخرية، فضلاً عن مخالفة أوامرها وعصيان زواجرها، وأصبح العالم يفتي الفتوى فلا تسمع، بل يُسخر منه، نعم أصبح العالم يفتي ويتكلم ولا أحد يسمع أين تلك المشاعر؟ وتلك الأحاسيس التي كانت بالأمس القريب؟!

 

إذا تحدث العالم أو أفتى العالم، نزلت الأمة كلها عند رأيه وقوله.

 

ومن الأسباب التي ساعدت على استفحال هذا المنكر العظيم بين المسلمين هو: تنحية شرع الله -تعالى- في بلاد المسلمين، فلو أن حدَّ الرِّدة أقيم على من يستحقه، فلن يتطاول سفيهٌ على فتاوى أهل العلم، ولن يسخر مريضُ قلبٍ من استقامة أهل الدين.

 

أيها المسلمون: إن تعظيم الشريعة والسنة في هذا الزمان من أوجب الواجبات: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحـج: 32].

 

لقد كادت أن تحبط أعمال بعض الناس عندما جهروا ورفعوا أصواتهم فحسب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكيف بالانتقاص من الشريعة، وكيف بعد تعظيم وتوقير السنة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2].

 

قال ابن القيم: "فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله، كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردة، بل معصية تُحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها -تأمل بعض المعاصي قد تحبط العمل الصالح-" أ. هـ. [الوابل الصيب].

 

إنَّ بعض الذنوب تحبط الأعمال الصالحة، وتذهب بها وتبطلها.

 

عباد الله: ولمَّا كان أمرُ مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- شديداً، وعاقبته وخيمة، كان موقف الصحابة منها موقفاً عظيماً: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النــور: 63].

 

هذا أبو بكر -رضي الله عنه- يقول: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركتُ شيئاً من أمره أن أزيغ".

 

قال بعض السلف معلقاً على كلام أبي بكر: "هذا الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فماذا عسى أن يكون في زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون بسنته؟".

 

انظر إلى الناس اليوم: إذا وجدوا الرجل العاقل يستمع لكلام العلماء، ويطبق سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سخروا منه -يا أخي- ما هذا الحرمان؟! بدلاً من أن تتوجه إلى نفسك فلتلوها على تقصيرها وتوانيها، وأنها لم تفعل كذا، وأنها قصرت في كذا، تتوجه مباشرة من اتهام النفس وازدرائها لتقصيرها وتكاسلها، وتتوجه إلى ازدراء الآخرين، والسخرية منهم إن عملوا بالدين، أو سمعوا كلام سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- أين يُذهب بك يوم القيامة؟!

 

أفِق -يا عبد الله- فالأمر خطير.

 

أيها المسلمون: سأسوق لكم بعض النصوص والآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ لتدركوا كيف كان تعظيم أولئك للشريعة، وتوقيرهم للسنة، وأنهم نالوا ما نالوا من الخير والبركة إنما هو بسبب ذلك، ثم نقارن بين حالنا وحالهم.

 

عن أبي قتادة قال: كنا عند عمران بن حصين في رهطٍ منا وفينا بشير بن كعب، ممن قرأ كتب أهل الكتاب، فحدثنا عمران يومئذٍ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء خير كله" أو قال: "الحياء كله خير" فقال بشير: إنا لنجد في بعض الكتب أن منه - من الحياء - سكينة ووقاراً لله، وفيه ضعفٌ، فغضب عمران حتى احمرت عيناه، وقال: "ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعارض فيه؟"[رواه البخاري، فتح 10/522)].

 

اشتد نكيرُ عمران -رضي الله عنه- على من أوهم كلامه مخالفة كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- واعتبر أنه ساقه في معرض من يعارض كلام الرسول بكلام غيره.

 

وعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخذف -الخذف: رمي الحجارة الصغير بأصابع اليد وعادة بـ...،- وقال : "إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدواً، ولكنها تفقأ العين، وتكسر السن" فقال رجل لعبد الله -رضي الله عنه-: وما بأسٌ بهذا؟ فقال عبد الله: إني أحدثك عن رسول الله وتقول هذا؟! والله لا أكلمك أبداً"[رواه البخاري، ج 5479) ومسلم، وانظر الإبانة لابن بطة ج 96)].

 

هذا يُحكم عقله في كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 

قال الذهبي: "إذا رأيت المتكلم المبدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث، وهات العقل فاعلم أنه أبو جهل".

 

من منا في هذا الوقت من تعظيمه للشريعة يقاطع ولا يكلم من يعترض على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟.

 

وعن أبي المخارق قال: "ذكر عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن درهمين بدرهم -هذا هو الربا-، فقال فلان: ما أرى بهذا بأساً، يداً بيد، فقال عبادة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: لا أرى به بأساً؟! والله لا يظلني وإياك سقف واحد أبداً"[رواه ابن ماجة، والدارمي بإسناد صحيح عند ابن ماجه، ج (81)].

 

عباد الله: إن المسألة يجب أن تنتهي عند قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن كان نزاع بعد ذلك فليحذر الإنسان إيمانه وإسلامه، فإن الإسلام مبنيٌ على التسليم للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يكون هذا إلا بتعظيمه، وتعظيم أمره ونهيه.

 

وعن سالم بن عبد الله بن عمر: أن عبد الله بن عمر قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّ إليها" قال: فقال بلال بن عبد الله بن عمر: والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً، ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: والله لنمنعهنَّ!"[رواه مسلم، ج442)].

 

وعن عطاء بن يسار: "أن رجلاً باع كسرةٌ من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: من يعذرني من فلان، أحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخبرني عن رأيه؟! لا أساكنك بأرض أنت بها" [الإبانة ج 94)].

 

إذا عرفت الفتوى، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وحكم الله، فقف معه، ودر معه حيث دار، وإلا فهذا الرجل لما خالف أبا الدرداء أمر أبو الدرداء بأن يُخرج من أرضه، وأن ينفى، وألا يُساكن، هذا هو جزاء الذين يخالفون كلام العلماء، ولا يعظمون الشريعة والسنة.

 

وعن الأعرج قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول لرجل: أتسمعني أحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تبيعوا الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا منها عاجلاً بآجل" ثم أنت تفتي بما تفتي!؟ والله لا يؤويني وإياك ما عشتُ إلا المسجد".

 

وهذا قاله أبو سعيد الخدري لابن عباس، فإنه رضي الله عنه كان يجيز ربا الفضل في أول أمره، ثم لما استبانت له السنة، وأمر الرسول -عليه السلام- رجع عنه كما ثبت عنه.

 

وهذا من معالم إيمان الصحابة العالية أنهم يوقرون كلام الله ورسوله، ويعظمونها ويتفادون، ويخرجون عن آرائهم لرأي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويتركون هواهم وشهواتهم رغبة في متابعة الرسول، واتباعاً لهواه وأمره ونهيه، وبهذا فاقوا من بعدهم.

 

وعن قتادة قال: "حدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: قال فلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا؟! والله لا أكلمك أبداً"[رواه الدارمي، ج 441)].

 

وهذا هو حكم هؤلاء أن يُهجروا ولا يُكلموا، وهذه هي السنة فيمن أحدث حدثاً عظيماً أن يهجر ولا يكلم، حتى يتوب من مخالفته.

 

بل إنَّ بعض السلف كانوا يرون أن من خالف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجب أن يُسجن ويحبس، قال أبو السائب: كنا عند وكيع، فقال لرجلٍ عنده ممن ينظر في الرأي: "أشعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الرجل: إنه روي عن فلان أن الإشعار مثله - الإشعار: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها، ويجعل ذلك لها علامة تُعرف بأنها هدي، وقد فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما حج واعتمر-، فقال هذا الرجل: هذا مثله -تعذيب، أين الرفق بالحيوان؟-، فلما سمع وكيع - وهو راوي الحديث- ذلك من الرجل: غضب غضباً شديداً، وقال: أقول لك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقول: قال فلان، ما أحقَّك بأن تُحبس، ثم لا تُخرج حتى تنزع عن قولك هذا"[رواه الترمذي في سنن (3/250)].

 

عباد الله: وعلى هذا جرت القرون الفاضلة والتي تليها أنه يجب تعظيم وتوقير كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذا هو مقتضى البيعة الإيمانية وهو مقتضى كلمة: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

 

التي يقولها كل من ينتسب لهذا الدين، لقد كان هذا ديدنُ أهل الإسلام والإيمان جملة وتفصيلاً، أنهم ينقادون ويعظمون كلام الله وكلام رسوله، ويرون أن الدين يجب أن يُسمع له، وأن يكون هو الحاكم عليهم.

 

أيها المسلمون: نعم، قد وُجدت بعض المخالفات في الزمان الأول، وذلك له أسبابه الخاصة، إما لخفاء سنة، أو عدم بلوغها، أو لقول مرجوح؛ لكن أن يُتهم رواة الدين وصحابة رسول رب العالمين، وأن يُستهزأ بهم، ولا يؤخذ بكلامهم ولا يعظمون، فهذا ما لم يحصل فيما مضى، وإن حصل، فإنه لم يكن توجهاً عاماً في الناس، وإنما كانت له أسبابه الخاصة به كما ذكرنا، وفي أحيانٍ كثيرة في مسائل جزئية فرعية.

 

أما اليوم، فأصبحت ترى من ينادي بتحليل الربا، ويقول كالأول:  لا بأس، وأصبحت ترى وتسمع هذه الحملة الشرسة على حملة الشريعة، مما أدى بالتدريج -والله المستعان- من ضعف تعظيم الدين في قلوب العامة.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة المؤمنون: لقد أراد أعداء الإسلام والإيمان أن يزيلوا من قلوب المؤمنين مهابة الدين وتعظيمه، وأن يتحرروا من سلطته وتنفيذه، وأن يكون همهم لقمة عيش أو شهوة فرج، أرادوا أن تبقى هذه الجموع الحاشدة في موقف المتفرج والناظر الذي يألف المشاهد اليومية التي يمر بها المسلمون، وأن يشارك هذا الكم الهائل من حيث لا يشعر في إذكاء النار، وزيادة البلاء، ومع كثرة هذه المشاهد وتتابعها تسرب إلى نفوس الكثيرين من المسلمين -حتى أهل الخير- التقليل من شأن الدين الذين الذي ينتسب إليه هذا المسلم، والذي يذكر يوماً ما أنه من أهله ويحبُ أهله وأنصاره، وأصبح اليوم كغيره تُنصب دار العرض وتُصف الكراسي، ويأتي هو من ضمن المدعوين ليشارك -شعر أو لم يشعر- في إطفاء شعلة هذا الدين.

 

إنَّ تعظيم الدين والشريعة والسنة يجب أن يكون من أولى أولويات المسلم مع الذين من حوله، يجب أن تُعاد هيبة الدين، وتُغرس في نفوس الناس.

 

عباد الله: يجب على الأب أن يغرسها في أولاده، وفي أهل بيته، ويحبب الدين لهم، لا أن يكون من الذين يشاركون في إيجاد جيل يتربى على كره وبغض الدين كثيرُ من الناس يريد من الناس أن يعظموه ويوقروه، وهو لم يوقر ولم يعظم كلام الله ولا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يسمع كلام العلماء، ويرى أن الكلام ليس له تلك القدسية وتلك الهيبة: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)[نوح: 14].

 

كيف تريد التعظيم من الخلق وأنت لم تعظم وتوقر الخالق -سبحانه وتعالى-، تسمع بشريعته فلا تحرك لك ساكناً، وتسمع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فلا تفرح نفسك بها، ولقد مضت سنة الله في العالمين أن من خالف الشريعة ولم يعظم أمرها أن مآله إلى اضمحلال، وأن كثيره يصير قليلاً، وأن قوته تصبح ضعفاً، وأن صحته تصبح سقماً، وهكذا إن عقوبة لهم بما كانوا يكسبون، وما تخفيه لهم الآخرة أكبر وأعظم.

 

نعم هناك عقوبات ينزلها الله على من لم يعظم الشريعة، ويوقر السنة.

 

1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تطرقوا النساء ليلاً" قال: وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قافلاً، فانساق رجلان إلى أهليهما، وكلاهما وجد مع امرأته رجلاً"[رواه الدارمي].

 

الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: "لا تطرقوا النساء ليلاً" بعد مجيئكم من السفر كأنهم يتخونهن بذلك، فيدخل عليهن ليلاً، يتخون أهله بذلك، فارتكب هذا الرجلان النهي فدخلا وطرقا أهلهما ليلاً، فوجدا معهما رجلين، قال العلماء: هذا لمخالفتهم السنة.

 

2- وعن سلمة بن الأكوع: أن رجلاً أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال له عليه الصلاة والسلام: "كل بيمينك" قال: لا أستطيع، قال عليه السلام: "لا استطعت، ما منعه إلا الكبر" قال سلمة: فما رفعها إلى فيه"[رواه مسلم، ج2021)].

 

وما أكثر هؤلاء اليوم في مخالفتهم للسنة في الأكل، وأنه يجب عليهم أن يأكلوا بأيمانهم لا بشمالهم، فإذا أنكر عليهم غضب، أيريد ألا ترفع يده إلى فيه مرة أخرى؟

 

3- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يتبختر في بُردين، خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" فقال فتى -وهو في حلة- لأبي هريرة: يا أبا هريرة أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خُسف به؟ يستهزأ بذلك، فعثر عثرة تكسر منها، في مقامه ذلك. فقال أبو هريرة: وهو يشير إلى فمه: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95].

 

4- وعن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة، فقال له: لا تبرح حتى تصلي، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق، إلا رجلٌ أخرجته حاجته وهو يريد الرجوع إلى المسجد" فقال الرجل: إن أصحابي بالحرة، قال: فخرج، قال: فلم يزل سعيد بن المسيب يُولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه"[رواه الدارمي].

 

وهذا الرجل لم يكن أصحابه ليفوتوه لو صلى الصلاة الحاضرة؛ ولكن خرج وعصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-، فأصابه في حجه ذاك ما أصابه.

 

5- وسمع بعض المستهزئين حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع" فقال هذا المستهزئ لما رأى بعض طلبة العلم والدين وهم يمشون إلى بعض مجالس العلم، قال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها -كالمستهزئ-، فما زال في موضعه حتى جفت رجلاه وسقط[نقل هذه القصة الإمام النووي -رحمه الله-].

 

عباد الله: إن العقوبات تتنوع وتتعدد للمخالفين للشريعة وللسنن، فمنها ما تضرب بها قلوبهم من الهموم والغموم والكروب، ويكفي لهم أن يُصد عنهم باب الآخرة، فلا يروا إلا الدنيا، ومن العقوبات ما تفرض على الأبدان والأموال، جزاءً وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد.

 

اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم اجعلنا ممن عظم أمرك وشرعك، واتبع سنة نبيك، وحكمها في نفسه وأهله وماله وولده.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين.

 

اللهم انصر من نصر دينك، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

 

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

 

 

المرفقات

الشريعة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات