عناصر الخطبة
1/ من تمام الإيمان بالقدر 2/ نماذج ممن ابتلوا في ذات الله تعالىاقتباس
واللبيب والمفكر المستعرض لواقع الحياة ولا سيما واقع الدعوة الإسلامية قديماً وحديثاً في صحوتها الحاضرة المباركة، وما تواجه به من عراقيل، ويواجه به أهلها في كثير من بلدان العالم من قتل ونفي وحبس وأذى، وما يزيدها ذلك إلا انتشاراً وتوسعاً، وما يزيد الكثير من أهلها إلا إيماناً وتسليماً والحمد لله
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة:144] والقائل: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة:143]
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المنزل عليه (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران:20] أي ومن اتبعني أسلم وجهه لله، صلوات الله وسلامه على من امتثل ما نزل عليه طائعاً مختاراً موقناً بجدوى ذلك وعظم آثاره الخيرة في العاجل والآجل، وعلى كل من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من تمام الإيمان بالقدر الذي هو أصل من أصول الإيمان الستة الواردة في حديث جبريل عليه السلام المتضمنة له الآيات الواردة بأصول الإيمان الإيقاني -بأن الله -سبحانه وتعالى- لا يقضي إلا ما هو خير، ولا يأمر إلا بما هو خير، ظهرت حكمة ذلك المقضي أو ذلك المأمور به بعالم فمن دونه أو لم تظهر، فأي شر في الدنيا عام أو خاص فإنما هو لارتباطه وواقعه بالمخلوقين لا بأصل إيجاده وخلقه، فهو أوجد وخلق لحكمة، وما كان لحكمة فلا يكون إلا خيراً.
قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث الاستفتاح المعروف في مخاطبته ربه: "والشر ليس إليك" رواه مسلم وغيره، وقال -سبحانه وتعالى-: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء:19] وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216] وقال ابن كثير -رحمه الله- في قول الله عن الجن: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجـن:10] "وهذا من أدبهم في العبارة؛ حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله -عز وجل-".
وخذوا مثلاً ونموذجاً لما بدأ مكروهاً من نفوس، ومستثقلاً على نفوس، ومستوحشاً من نفوس فكانت عاقبته خيراً نزل به قرآن يتلى إلى يوم القيامة قصة بدر، قال تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) الآيات [الأنفال:5]
وقصة الإفك، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور:11] وقصة الثلاثة كعب وصاحبيه -رضي الله عنهم-، قال تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ) [التوبة:117] إلى قوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118]
وقصة الخضر مع موسى في سورة الكهف، وغير ذلكم مما يدعو المسلم تجاه أوامر الله أن ينقاد ويستسلم لها طائعاً مختاراً دون أي تردد أو تساؤل، أدرك حكمة ذلك أو لم يدركها متحققاً فيه تجاهها قول الله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [لقمان:22] وقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [البقرة:112] وقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [النساء:125]
انقياداً واستسلاماً يشبه انقياد واستسلام الخليل وابنه إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى عنهما: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات:102] ويشبه انقياد أم موسى قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) [القصص:7] وفعلاً ألقته في اليم- البحر- وكان ما كان من أمره المذكور في سورة الأعراف والشعراء وطه والقصص.
وما يدعوه كذلك تجاه أقدار الله وأقضيته وما يجريه في عباده مما يبدو لارتباطه بهم شراً وأذى وبلاء وفتنة أن يتصوره ويتوقعه خيراً بجانب مواجهته إن كان في نفسه بالصبر عليه والتسليم له أولاً صبر وتسليم المحتسبين الموعودين قول الله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]
ومجاهدة النفس بالرضى به ثانياً رجاء نتائجه وآثاره في عاجل أو آجل، فلكم بدت أمور أول ما تبدو وكأنها قاصمة الظهر يكاد المسلم يقول فيها: "هذه مهلكتي"، إهلاك جسم أو مال أو والعياذ بالله دين، فلم يلبث إلا ويبدد فيها قول الله: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء:19]
واللبيب والمفكر المستعرض لواقع الحياة ولا سيما واقع الدعوة الإسلامية قديماً وحديثاً في صحوتها الحاضرة المباركة، وما تواجه به من عراقيل، ويواجه به أهلها في كثير من بلدان العالم من قتل ونفي وحبس وأذى، وما يزيدها ذلك إلا انتشاراً وتوسعاً، وما يزيد الكثير من أهلها إلا إيماناً وتسليماً والحمد لله.
فلا حزن -أيها الأخوة- ولا يأس ولا خوف ولا قنوط عندما تسمعون بعاصفة ما، أو بمضايقة ما، أو بأذى ما على فرد أو جماعة من الدعاة في أي بلد ما، فما ذلك لصادق محتسب إلا نشر وتثبيت لإمامته في الدين، وتخليد وإبقاء لذكره في الآخرين، بل وبشارة يرفع درجاته في عليين.
وحسبكم في ذلك قصص أنبياء الله وصحابة رسول الله، وكثير من دعاة الإسلام أمثال الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله-وأمثالهم كثير ممن لم يزدهم الابتلاء والأذى إلا الائتمام بهم في الدين، وبقاء ذكرهم في الآخرين وصدق الله العظيم: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]
قال أحد الدعاة: "وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه".
سلك الله بنا جميعاً سبيل المصلحين وحشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. آمين. آمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة:119-120]
الخطبة الثانية:
قال -عليه الصلاة والسلام-: "عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيراً" الصحيحة 3985. وقال: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم.
وقال: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" صحيح الجامع 1301.
أعود فأذكر وألخص بأن المصائب التي تبدو في ظاهرها شراً كثيراً ما تكون على من ابتلي بها خيراً من حيث يعلم أو لا يعلم، فهي أولاً يكفر بها من ذنوب صاحبها قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "لا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة" رواه الدارمي.
وفي المسند وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" هذا جانب، وجانب آخر مهم وهو أنها كثيراً ما تدعو إلى التوبة والاستغفار والتذلل لله وصدق العود إليه، فلكم قرأنا وسمعنا وعلمنا بأخبار كثير ممن أصيبوا في نفس أو أهل أو مال أو ولد فكانت تلك المصيبة سبباً في هدايتهم، وهي بلا شك خير سيما إن قوبلت بالإيمان الإيقاني أنها من الله وصبر عليها، وخير إلى خير إن رضي بها وشكر الله عليها بتصورها نعمة لما يترتب عليها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم