عناصر الخطبة
1/قدرة الله تعالى في خلق النفس البشرية 2/وجوب تزكية النفس وإصلاحها 3/الإلف على الخير داعٍ للصلاح والاستقامة 4/بيان الإلف الممدوح والإلف المذموم 5/أقبح أنواع الإلف إلف المعصية واعتيادهااقتباس
الإلفُ -عبادَ اللهِ- هو المقوِّمُ الأكبرُ الَّذِي يقفُ وراءَ ثباتِ العبدِ على الاستقامةِ، والباعثُ لهُ على السيرِ على منهاجِ الصَّلاحِ والدِّيانةِ، إذا ما عوَّدَ صاحبَهُ على الطاعةِ، وربَّاهُ على البِرِّ والعبادةِ، فيألَفُ العباداتِ، ويعتادُ فعلَ الخيراتِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والطَّوْل والإنعام، أحمده -سبحانه- وأشكره على آلائه الجِسَام، ومِنَنِه العظامِ، حمدًا وشكرًا دائبينِ على الدوام، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الْمَلِكِ العلَّامِ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خير الأنام، وشفيع أُمّتِه يومَ الزحامِ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحابته الكرام، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم القيام.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واشكروه على ما حبَاكم به وأسدَاهُ، وعلى ما خصَّكم به وأَولاهُ، فنعم الله عليكم تترى، لا تُعَدّ ولا تُحصى؛ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34].
أيُّها المسلمونَ: خلَقَ اللهُ النفسَ البشريةَ، وأودعهَا طبائعَ وأخلاقًا، لتكونَ أكثرَ ائتلافًا واتِّفاقًا، لِمَا يَعرِضُ لها في دينِها ودُنياها؛ فالحُبُّ والبُغضُ، والرِّضا والسُّخْطُ، والحِلْمُ والجَهْلُ، والأَناةُ والعَجَلةُ، والجُودُ والبُخْلُ، كلُّ أولئكُمُ وغيرُها من الأخلاقِ ممَّا جُبِلَتْ عليهِ تلكَ النفسُ ولابُدَّ، ولم يخلُ منهَا مهمَا عَظُمَ أحدٌ.
ولقد جاءَ أمرُ اللهِ -تعالى- لعبادهِ تَشْريعًا وتَكْلِيفًا، بِتزكِيَةِ هذه النفسِ وتَهذِيبِهَا، لِيُسْلَكَ بها سَبِيلَ المُتَّقِينَ، ويُنْتَهَجَ بها نَهْجَ الصَّالِحينَ المُصْلِحِينَ، ألَا وإنَّ مِنْ أعظَمِ هذهِ الطَّبائعِ أثرًا على العبادِ، خُلُقَ الإِلْفِ والِاعْتِيادِ، وهُوَ -في ذاتِهِ- خُلُقٌ يَدُلُّ على استكمالِ النِّعَمِ ودوامِها، وثُبُوتِها واستقرارِها، واستمرارِها واستمرائِها، وهُوَ -لَعَمْرُ اللهِ- خُلُقٌ ينبَغِي أن يَدفَعَ بالمؤمنِ إلى مَزيدٍ مِن الشُّكرِ والاعترافِ، والتَّوْبةِ والازْدِلافِ.
الإلفُ -عبادَ اللهِ- هو المقوِّمُ الأكبرُ الَّذِي يقفُ وراءَ ثباتِ العبدِ على الاستقامةِ، والباعثُ لهُ على السيرِ على منهاجِ الصَّلاحِ والدِّيانةِ، إذا ما عوَّدَ صاحبَهُ على الطاعةِ، وربَّاهُ على البِرِّ والعبادةِ، فيألَفُ العباداتِ، ويعتادُ فعلَ الخيراتِ؛ مِن صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وتِلاوَةٍ للقرآنِ، وصِلةٍ للأرحامِ، وسعيٍ في تَفريجِ الكُرُباتِ، وقضاءِ الحاجاتِ، وصُنعِ المعروفِ، وإغاثةِ الملهوفِ، وهذا إلفٌ محمودٌ، مرغَّبٌ فيهِ مقصودٌ، يُشكَرُ عليهِ صاحبُهُ، ويَزدَانُ بهِ حائزُهُ، حينَ يقودُ نفسَهُ لدروبِ الطاعاتِ، فتصبحُ لهُ عادةً، يَصعُبُ عليهِ انفكاكُهُ منها، ولا يَتَصَوَّرُ نفسَهُ بدُونِها، وهذَا -وأَيْمُ اللهِ- لَهُوَ التَّوفِيقُ للهِدَاية وللبِرِّ، ولِلصَّلاحِ وطِيبِ الأثرِ.
ومِنْ أَضْرُبِ الإلفِ المحمودِ -عبادَ اللهِ- ما أودعهُ اللهُ في الإنسانِ من تعوُّدٍ على المصائبِ، وقُدرةٍ على تحمُّلٍ للمتاعبِ، ولولَاهُ لَمَا صفتْ حياةُ أولئكَ الذينَ نزلتْ بهِمُ الشدائدُ، وأحاطتْ بهِمُ المُدلهِمَّاتُ؛ لأنَّ صدمةَ المصيبةِ إنَّما تُؤلـِمُ أوَّلَ حدوثِها، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى"(متَّفَقٌ عليه)، ثُم ما إن تلبَثُ حتَّى تَخِفَّ وطأتُها، ويَسهُلَ أمرُها، فتَتَقبَّلَها النفسُ وترضَى بها، تسلِيمًا للهِ وإذعانًا، ورِضًا بقضاءِ اللهِ وقَدرِهِ وإيمانًا، وهذهِ مِن النِّعمِ الَّتي تستوجبُ الشكرَ؛ ذلكَ أنَّ المصائبَ لا يدومُ أثرُها، إِذَنْ فتتنغَّصُ حياةُ أصاحبِها، ويعسُرُ عليهِم قَبولُها.
أيها المسلمون: وهناكَ إِلفٌ مذمومٌ، صاحبُهُ ملومٌ؛ وهو إلفُ نِسيانِ النِّعَمِ، والغفلةُ عن ذِكرِها وشُكرِها، وذلكُمْ هو بَريدُ كُفرانِها، المُؤذنُ بزوالِها، فلا يَعتَرِفُ للهِ بنعمَةٍ، ولا يُقِرُّ له بِمنَّةٍ، ورُبَّما نَسبَها إلى نفسِهِ، وإلى آبائِه وأجدادِهِ، كُفرًا منهُ وجُحودًا، كما قال سبحانه: (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)[النَّحْلِ: 83]، قال مجاهد -رحمه الله-: "هو قول الرجل: ورثتُه عن آبائي"(انتهى كلامه)، ومعالَجةُ ذلكَ، إنَّما تكونُ بالحرصِ على عَدِّ النِّعمِ واستشعارِها، والاعترافِ بها للمُنعِمِ وادِّكارِها، وإعقابِ ذلكَ حمدًا وشكرًا، قولًا باللِّسانِ وفعلًا.
ألَا فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، ولا يُنسِيَنَّكم الإلفُ والاعتيادُ ما أنتُم فيه من النعم والملاذّ، واشكروا ربَّكم على ما أَولاكُم وأعطاكُم، وتذكَّروا على الدوام نِعَمَ اللهِ عليكم، واسألوه ألَّا يحرمكم ما عوَّدَكم من جميل فضله وإحسانه، وجزيل عطائه وامتنانه.
أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يُبادِر عبادَه بالنعم، ويُمهِلُهم فلا يَعْجَلُ لهم بالنِّقم، والصلاة والسلام على خيرة الله من الأمم، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أولي الفضائل والهمم، وعلى التابعين وتابعيهم سادة العرب والعجم.
أما بعدُ: فاعلمُوا -رحمكُمُ اللهُ- أنَّ أَقْبَحَ أنواع الإلفِ: إِلْفُ المَعْصِيَةِ واعتيادُها، والتغافُلُ عن شُؤمِها وبلائِها، وأشنعُ مِن ذلكَ: عدَمُ التأثُّمِ مِنْ فعلِهَا، وعدَمُ التأَلُّمِ مِنْ مُقارفَتِها، حتَّى تُصبِحَ كأنَّها مِن قَبِيل المُباحاتِ، حينهَا يُختَمُ على قلبِ صاحِبها، وهذِهِ -لَعمرُ اللهِ- مِن أعظَمِ العُقوباتِ، الَّتي تَستنزِلُ غضبَ رَبِّ الأرْضِ والسَّماواتِ؛ (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 14].
والشفاءُ من ذلكَ -عبادَ اللهِ-: بأوانِ الأَوْبةِ، ودوامِ التَّوبةِ، حتَّى تبقَى في النفسِ وحشَةٌ مِن كُلِّ معصيَةٍ وخطيَّةٍ، ونُفرةٌ مِن كُلِّ زَلَّةٍ ورَدِيَّةٍ، وذلكَ من أماراتِ الإيمانِ، في جامعِ الترمذيَّ وصحَّحَهُ قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ".
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارِكْ على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهُمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم المآب، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، وانصُرْ عبادَكَ الموحدين، يا رب العالمينَ، اللهمَّ فرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق، والتوفيق، والتسديد، إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهمَّ وَفِّقْه ووليَّ عهده الأمين لِمَا فيه صلاحُ البلاد والعباد، وعز للإسلام والمسلمين، يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيدا وظهيرًا، واحرسهم بعينك التي لا تنام، واكنفهم بركنك الذي لا يرام، يا ربَّ العالمينَ.
اللهُمَّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين عصيانك، اللهُمَّ لا تحرمنا ما عودتنا من جميل عطائك وإحسانك، واشملنا بعميم سترك وغفرانك، يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-181]، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم