اقتباس
سبحان من له الكمال المطلق وحده، سبحان الله الذي لا يخطئ ولا يغفل ولا يجهل... فقد بدر من شيخنا عبد الحميد كشك -مع رفعة قدره- بعض الفتاوى التي جانبه فيها الصواب، فمنها فتوى: جواز الغش في الامتحانات! فاستمع إلى نص كلام شيخنا وهو يقول: "وأنا أقول للمراقبين: إذا استطعمك الطالب في لجنة الامتحان فأطعمه؛ لتفتح له باب الإجابة...
والله لولا أنني أخذت على نفسي العهد ببيان المآخذ مع المزايا لألغيت هذا القسم من المقال، فإن حسنات ومزايا الشيخ بحر زاخر تغرق فيه أي مؤاخذة فلا يبقى لها أثر، لكن كلما كانت مكانة العالم أعظم كلما كان تأثر الناس به أكبر، وكلما كان تمسك الناس بما يقوله أشد ولو كان خطأً، فلذلك نحرص على ذكر المآخذ مع المزايا؛ حتى لا يقتدي الناس بهم فيها.
ونذكرها كذلك لكي نُنجز شرط سلسلتنا هذه؛ "سلسلة خطباء في الميزان"؛ فنذكر بعض الملحوظات مما يحتمه طبع البشر من لزوم الخطأ والسهو والزلل، فإليك الشق الثاني من هذه التجربة الخطابية.
القسم الثاني: المآخذ والاستدراكات:
أولًا: ذكر بعض الأحاديث الضعيفة:
فتسمعه في خطبة: "الأمانة، الموضع الرابع"([1])، يستشهد بعدة أحاديث شبه متتالية كلها ضعيف، فمنها: حديث ابن عباس قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عمر ومعه أناس من أصحابه، فقال: "أمؤمنون أنتم؟" فسكتوا - ثلاث مرات - فقال عمر في آخرهم: نعم، نؤمن على ما أتيتنا به، ونحمد الله في الرخاء، ونصبر على البلاء، ونؤمن بالقضاء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مؤمنون ورب الكعبة"([2]).
قال العراقي: "أخرجه الطبراني في الأوسط من رواية يوسف بن ميمون وهو منكر الحديث عن عطاء"([3])، وقال الهيثمي: "وفي إسناده يوسف بن ميمون، وثقه ابن حبان، والأكثر على تضعيفه"([4]).
ويذكر شيخنا بعده حديثًا لا أصل له ولا إسناد له، وهو: "وعزَّتي وجلالي، لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحبُّ أن أرحمه إلا ابتليتُه بكل سيئة كان عملها سقمًا في جسده، أو إقتارًا في رزقه، أو مصيبةً في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددتُ عليه سكرات الموت، حتى يلقاني كيومَ ولدته أمُّه".
وذكر شيخنا أيضًا حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تعالى-: إذا وجهت إلى عبد من عبادي مصيبة في بدنه أو في ولده أو في ماله، فاستقبله بصبر جميل، استحييت يوم القيامة أن أنصب له ميزانًا أو أنشر له ديوانًا"([5])، وقد ضعفه الألباني والعراقي وغيرهما.
وفي خطبة "محاكمة فرعون" وفي الدقيقة "59" يورد فضيلته حديث: "إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها"، والحديث كذلك ضعيف([6]).
وللأسف فإن أمثال ذلك في خطب شيخنا كثير، ولو حاولنا استقصاءه لما وسعتنا الصفحات، لكننا نلتمس لشيخنا العذر؛ لندرة كتب الحكم على الأحاديث في وقته، وعدم سهولة الوصول للحكم على الأحاديث من الكتب القليلة التي كانت موجودة، مقارنة بزماننا هذا الذي يستطيع المرء فيه بضغطة زر أن يحصل على ما يريد من ذلك، كما أن الكمال في البشر نادر عزيز، وطبيعة الإنسان السهو والغفلة، وجَلَّ الله الذي لا يغفل ولا يجهل.
ويُذكر لشيخنا أنه حاول تعويض ذلك وتداركه؛ فقد كان من الكتب التي ألَّفها بعد منعه من الخطابة كتاب: "في رحاب السنة"، جمع فيه الأحاديث الصحاح وبوبها على التبويب الفقهي([7]).
ثانيًا: إشاعة بعض الفتاوى غير الدقيقة:
سبحان من له الكمال المطلق وحده، سبحان الله الذي لا يخطئ ولا يغفل ولا يجهل... فقد بدر من شيخنا -مع رفعة قدره- بعض الفتاوى التي جانبه فيها الصواب.
ومنها فتوى: جواز الغش في الامتحانات! فاستمع إلى نص كلام شيخنا وهو يقول: "أيها المراقبون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول للمأموم الذي يصلي خلف الإمام: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه" يعني: إذا وقف الإمام في آية من القرآن، اقرأ له الآية التي بعدها حتى يصلها بالآية التي نسيها، "إذا استطعمك الإمام فأطعمه"، وأنا أقول للمراقبين: "إذا استطعمك الطالب في لجنة الامتحان فأطعمه؛ لتفتح له باب الإجابة، يفتح الله عليك باب الرحمة"، التلاميذ ضحايا، التلاميذ ضحايا، والدراسة سوقي، والامتحان عمولة... اتقوا الله أيها المراقبون، افتحوا أبواب الأجوبة للطلبة، وليس هذا غشًا؛ لأن الطالب أصبح ضحية؛ أصبح ضحية الإعلام... فليكن في قلوبكم رحمة: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)[البقرة: 110]، إذا رحمت ابني سيرحم الله ابنك، وإذا أسأت إليه فإن الانتقام من ذريتك... افتح باب الإجابة أمام من يطلب منك الإجابة"([8]).
ونستعير هنا عبارة ابن القيم عن شيخه الهروي: "شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم -صلى الله عليه وسلم- فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبين ما فيه"([9])، ونقول: لقد جانب شيخنا الحق في فتواه هذه، وكان الأولى بفضيلته أن يخاطب الطلبة باعتزال ما فسد من الإعلام، والتركيز على مذاكرتهم، وأن يخاطب القائمين على الإعلام بإصلاحه، وأن يخاطب القائمين على العملية التعليمية بتطويرها وجعلها شيقة للتلاميذ... لا أن يبيح الغش باسم الرحمة!
ومنها: فتوى أن المنتحر لا تُصلى عليه صلاة الجنازة لأنه مخلد في النار: فها هو يقول في تعليقه على خبر وفاة أحد المطربين في عصره، وانتحار فتاة حزنًا عليه: "هناك اثنان لا يصلى عليهما صلاة الجنازة؛ الشهيد والمنتحر، فالشهيد لا يصلى عليه لأنه حي، وصلاة الجنازة لا تكون إلا على الأموات، والمنتحر... لا يصلى على المنتحر لأنه مخلد في النار -والعياذ بالله-"([10])!
وهذه الفتوى مجانبة للصواب أيضًا، فإن المنتحر -على رأي جمهور العلماء- يُغسل ويُكفن ويُصلى عليه، لأنه مسلم، والانتحار وإن كان من كبائر الذنوب إلا أنه غير مُخرِج من الملة، بل المنتحر مسلم عاصٍ خُتم له بسوء -والعياذ بالله-... كذلك فإن المنتحر ليس مخلدًا في النار، لأنه مسلم، والمسلم لا يُخلَّد في النار أبدًا.
نعم، قد يدخل النار إن لم يرحمه ربه -عز وجل-، ففي القرآن الكريم: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا)[النساء: 29-30]، لكنه يخرج منها إن شاء الله، والدليل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله -تعالى-: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان"([11]).
وإن احتج أحد بحديث الصحيحين: "من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًا فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا"([12])، فقد قال النووي: "قيل فيه أقوال، أحدها: أنه محمول على من فعل ذلك مستحلًا مع علمه بالتحريم، فهذا كافر وهذه عقوبته.
والثاني: أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة، لا حقيقة الدوام، كما يقال: خلد الله ملك السلطان.
والثالث: أن هذا جزاؤه، ولكن تكرم -سبحانه وتعالى- فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلمًا"([13]).
وزاد ابن حجر أقوالًا أخرى([14])، منها: أن هذه الزيادة وهْمٌ من الراوي، واستدل بأن الترمذي روى الحديث ولم يذكر فيه: "خالدًا مخلدًا فيها أبدًا"، وقال: "وهذا أصح؛ لأن الروايات إنما تجيء بأن أهل التوحيد يعذبون في النار ثم يخرجون منها، ولم يذكر أنهم يخلدون فيها"([15]).
ولو التمسنا لشيخنا عذرًا في هذه الفتوى لقلنا: لعل شيخنا أخذ بالقول المخالف للجمهور؛ من أن المنتحر لا يصلى عليه، من باب التغليظ والتشديد والزجر، وأن هذه الواقعة التي انتحرت فيها فتاة لوفاة "مطرب" من مواضع التشديد.
ثالثًا: التباطؤ والتكرار قليل الفائدة أحيانًا:
ولستُ أدري هل أعُدُّ هذه النقطة من المميزات أم من المآخذ؟ فإني أجد لهذا التباطؤ والتكرار والتطويل بعض الفوائد؛ فاستمع إليه وهو يردد أسماء الله الحسنى على المنبر اسمًا اسمًا فيقول: "من الواجد؟ من الماجد، من القهار؟ من الفعال؟ من الحي؟ من القيوم؟ من الأول؟ من الآخر؟..."، فالبعض يعُدُّ هذا من المط والتطويل... لكني أرى أنه يحضِّر ويجهِّز قلوب الجمهور لقبول ما سوف يقول، ويبرز تفاعل الناس معه وحبهم له؛ فإنه كلما قال: "من الظاهر؟" مثلًا، ردَّ عليه جمهوره "الله"، من الباطن؟ ردوا: "الله"... حتى يختتم الأسماء الحسنى بقوله: من الواحد؟" فيجيبونه: "الله"، فيقول: "وحِّدوا الواحد" ويكررها، وعندها يهتز المسجد ويرتج ارتجاجًا بصيحات الناس: "لا إله إلا الله"...
يفعل هذا في مقدمة خطبه، لذا تطول مقدمته حتى تقارب وحدها الربع ساعة، ففي خطبة: "ما قيمة الدنيا"([16])، تجاوزت المقدمة أربع عشرة دقيقة، وبعد هذا التحميس والتحضير للناس يبدأ شيخنا الدخول في موضوع خطبته، وهذا كثير في خطبه، ولأنه كثير في خطب فضيلته فقد وضعته هنا؛ في المآخذ، ولستُ أعارضك إن قلتَ: أن هذا الأمر من جملة مميزات الشيخ.
رابعًا: تجريح الهيئات:
نعم، إننا نؤيد بشدة جهر شيخنا بالحق وعدم خوفه في الله لومة لائم، لكن هذا الصدع بالحق لا يبرر تجريح الهيئات والأشخاص... نعم، أحيانًا قد يتحتم أو يفيد أن يُذكر الشخص بعينه ليحذره الناس، لكن هذا يكون على سبيل الاستثناء لا القاعدة... وهل كان من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يذكر المخطئ باسمه؟! نجيب: كلا، بل كان -صلى الله عليه وسلم- يعرِّض ويكني ويلمح ويقول: "ما بال أقوام" يفعلون كذا وكذا...
وإن تجريح الأشخاص والهيئات يُكسِب العداوات، وإن كان الذي يُهاجم ويُذكر اسمه من أصحاب السلطان فإن تجريحه يهدد بوقف الدعوة إلى الله أو عرقلتها أو التضييق عليها... ولا أصوب ولا أفضل من اتباع منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وخير الهدى هدى محمد"([17])، فالحق ما وافق هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، والشر كل الشر في مخالفته... والأمر برمته راجع للموازنة بين المصالح والمفاسد.
***
فرحم الله -تعالى- شيخنا الجليل الجريء الوقور، وجزاه خير الجزاء عما قدَّم للإسلام وللمسلمين، ودفع عن وجهه النار كما عاش عمره ينافح عن حياض الدين.
([1]) هذا رابط الخطبة، والأحاديث المشار إليها بدءًا من الدقيقة العاشرة:
https://www.youtube.com/watch?v=uom49-eXd0w
([2]) رواه الطبراني في الأوسط (9427)، وفي الكبير (11336)، وبمعناه رواه ابن بشران في أماليه عن أنس (494).
([3]) المغني عن حمل الأسفار، للعراقي (ص: 1401)، ط: دار ابن حزم، بيروت - لبنان.
([4]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي (1/55)، ط: مكتبة القدسي، القاهرة.
([5]) رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/290) ط: دار الجيل - بيروت، وضعفه الألباني (ضعيف الجامع الصغير وزيادته: 4044)، وقال العراقي: "أخرجه ابن عدي من حديث أنس بسند ضعيف" (المغني عن حمل الأسفار: 1412).
([6]) رواه الترمذي (2266)، وأبو نعيم في الحلية (6/176)، وضعفه الألباني (الضعيفة: 6999).
([7]) لم أقف على الكتاب، لكن أكد وجوده تلميذه: الشيخ نشأت أحمد، وهذا رابط شهادته:
https://www.youtube.com/watch?v=9Ero5RGRrlU
([8]) هذا رابط المقطع:
https://www.youtube.com/watch?v=-mfI0q7IcNY
([9]) مدارج السالكين، لابن القيم (2/38)، ط: دار الكتاب العربي - بيروت.
([10]) هذا رابط المقطع:
https://www.youtube.com/watch?v=OTfPawD1bRA
([11]) البخاري واللفظ له (22)، ومسلم (184).
([12]) البخاري (5778)، ومسلم (109).
([13]) شرح النووي على مسلم (2/125)، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت.
([14]) ينظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني (3/227)، ط: الناشر: دار المعرفة - بيروت.
([15]) سنن الترمذي (2044).
([16]) هذا رابط الخطبة:
https://www.youtube.com/watch?v=tUJrwJXQCKE
([17]) مسلم (867).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم