عناصر الخطبة
1/ ألقاب اللغة العربية. 2/ نشأة اللغة العربية. 3/ أقسام اللغة العربية عبر التاريخ. 4/ مراحل تطور اللغة العربية. 5/ اللغة العربية في العصر الإسلامي.اقتباس
وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَكَلَّمُونَ بِعِدَّةِ لَهَجَاتٍ عَرَبِيَّةٍ، لَكِنْ كَانَ أَشْهَرُهَا وَأَفْصَحُهَا: "لُغَةَ قُرَيْشٍ"؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَوْسِمِ الْحَجِّ الَّذِي كَانَتْ تَحْضُرُهُ جَمِيعُ الْعَرَبِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ قُرَيْشٍ لُغَاتِهِمْ فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ مِنْهَا... وَمِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ أَفْصَحُ الْفُصَحَاءِ، وَقُدْوَةُ الْبُلَغَاءِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عَبْدَ اللَّهِ: إِنَّ لِلُغَتِنَا الْعَرَبِيَّةِ تَارِيخًا عَرِيقًا يَضْرِبُ بِجُذُورِهِ إِلَى أَجْيَالٍ وَقُرُونٍ كَثِيرَةٍ قَدْ مَضَتْ، وَهُوَ تَارِيخٌ حَافِلٌ بِالتَّكْرِيمِ لِتِلْكَ اللُّغَةِ الْفَرِيدَةِ، وَبِالتَّمَيُّزِ لَهَا عَلَى سَائِرِ اللُّغَاتِ، فَكَمْ كَانَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ عَامِلًا مِنْ عَوَامِلِ النَّهْضَةِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ وَالْحَضَارَاتِ، وَكَمْ كَانَتْ عَامِلَ بِنَاءٍ وَنَمَاءٍ وَازْدِهَارٍ وَفَخَارٍ، إِنَّهَا تِلْكَ اللُّغَةُ الَّتِي فَضَّلَهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى كُلِّ لُغَاتِ الْأَرْضِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قَالُوا قَدِيمًا: "كَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى"، وَلَقَدْ عُرِفَتْ لُغَتُنَا الْعَرَبِيَّةُ بِعِدَّةِ أَسْمَاءٍ وَأَلْقَابٍ يَكْفِي وَاحِدٌ مِنْهَا فَقَطْ لِيُحِيطَهَا بِالْفَخَارِ وَالشَّرَفِ، وَمِنْ أَلْقَابِهَا مَا يَلِي:
اللَّقَبُ الْأَوَّلُ لَهَا، وَهُوَ أَشْهَرُهَا وَأَفْضَلُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ: "لُغَةُ الْقُرْآنِ"، فَقَدِ اخْتَارَهَا وَاصْطَفَاهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بَيْنِ سَائِرِ اللُّغَاتِ لِتَكُونَ وِعَاءً يَحْمِلُ كَلِمَاتِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فَأَنْزَلَ بِهَا الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشُّعَرَاءِ: 195]، وَيَقُولُ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الزُّخْرُفِ: 3].
وَأَمَّا اللَّقَبُ الثَّانِي لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ: "لُغَةُ الضَّادِ"، وَقَدْ عُرِفَتْ وَاشْتُهِرَتْ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدِ اخْتَصَّهَا بِحَرْفِ "الضَّادِ"، وَصَوْتِ "الضَّادِ"، الَّذِي لَا يُوجَدُ وَلَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ، يَقُولُ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِهِ: "سِرُّ صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ": "وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّادَ لِلْعَرَبِ خَاصَّةً، وَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ"، وَيَقُولُ الشَّاعِرُ:
لُغَةٌ حَبَاهَا اللَّهُ حَرْفًا خَالِدًا *** فَتَضَوَّعَتْ عَبَقًا عَلَى الْأَلْوَانِ
وَتَلَأْلَأَتْ بِالضَّادِ تَشْمَخُ عِزَّةً *** وَتَسِيلُ شَهْدًا فِي فَمِ الْأَزْمَانِ
وَيَقُولُ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي:
وَبِهِمْ فَخْرُ كُلِّ مَنْ نَطَقَ الضَّادَ *** وَعَوْذُ الْجَانِي، وَغَوْثُ الطَّرِيدِ
وَاللَّقَبُ الثَّالِثُ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ: "لُغَةُ الْعَرَبِ"، فَمَا عَرَفَتِ الْعَرَبُ لُغَةً سِوَاهَا، وَلَا تَكَلَّمَتْ بِغَيْرِهَا، فَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ الَّتِي يَعْتَزُّونَ بِهَا، وَيَنْتَمُونَ إِلَيْهَا، وَلَا يَبْغُونَ بِهَا بَدِيلًا، وَيَنْطِقُ بِهَا الْآنَ مِئَاتُ الْآلَافِ مِمَّنْ يَعِيشُونَ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ، بَلْ وَيَحْرِصُ عَلَى النُّطْقِ بِهَا مَا يَزِيدُ عَنِ الْمِلْيَارِ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا نَشُكُّ أَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ أَقْدَمِ اللُّغَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، إِنْ لَمْ تَكُنْ أَقْدَمَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْبَاحِثُونَ فِي بِدَايَةِ نَشْأَتِهَا اخْتِلَافًا كَبِيرًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ لُغَةَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَإِنْ صَحَّ هَذَا فَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ -إِذَنْ- أَقْدَمُ اللُّغَاتِ مُطْلَقًا، فَقَدِ ارْتَبَطَتْ نَشْأَتُهَا بِخَلْقِ أَبِينَا آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَالْقُرْآنُ يُحَدِّثُنَا أَنَّ آدَمَ قَدْ تَعَلَّمَ اللُّغَةَ وَتَكَلَّمَ بِهَا: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[الْبَقَرَةِ: 31].
وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ وَصَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حِينَ قَالَ: "الصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِاللُّغَاتِ كُلِّهَا مِنَ الْبَشَرِ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لَهُ؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[الْبَقَرَةِ: 31]، وَاللُّغَاتُ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ؛ فَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَهُ"... وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدًا وَقَتَادَةَ قَالُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَصْعَةِ وَالْقُصَيْعَةِ"، وَقِيلَ: "اسْمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَأَيَّدَ الْبَغَوِيُّ ذَلِكَ قَائِلًا: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَّمَ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ بِلُغَةٍ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَاخْتَصَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ بِلُغَةٍ"، وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ اللُّغَاتِ الَّتِي تَعَلَّمُوهَا مِنْ أَبِيهِمْ آدَمَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: "إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَهُوَ الَّذِي أَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَلْقَاهَا نُوحٌ عَلَى لِسَانِ ابْنِهِ سَامَ.
وَقِيلَ: تَرْجِعُ نَشْأَةُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَاحْتُجَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمُبِينَةِ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً"(الْجَامِعُ الصَّغِيرُ وَزِيَادَتُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَعَزَاهُ إِلَى الشِّيرَازِيِّ فِي الْأَلْقَابِ وَغَيْرِهِ)، وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ قَبِيلَةِ "جُرْهُمٍ"، يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ حِينَ نَزَلَتْ عِنْدَهُمَا قَبِيلَةُ "جُرْهُمٍ": "وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: "يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ: أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: إِسْمَاعِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وَلَيْسَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا مُطْلَقًا... وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا قَيَّدَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِسْمَاعِيلُ بِأَنَّهَا: "الْمُبِينَةُ"، أَيِ الْمُوضِحَةُ الصَّرِيحَةُ الْخَالِصَةُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ إِسْمَاعِيلُ: بِـ"أَبِي الْفَصَاحَةِ"، فَأَوَّلِيَّتُهُ بِحَسَبِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ، لَا الْأَوَّلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ.
وَهُنَاكَ رَأْيٌ يَقُولُ: إِنَّ نَشْأَةَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَتْ فِي قَبِيلَةِ "جُرْهُمٍ" -كَمَا مَرَّ- الَّتِي نَشَأَ فِيهَا إِسْمَاعِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَعَنْهُمْ أَخَذَهَا وَزَادَهَا بَيَانًا.
وَقِيلَ: بَلْ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ -قَبْلَ جُرْهُمٍ- هُوَ: "يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ" وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ الشَّرْقِيِّ بْنِ قَطَامِيٍّ: "إِنَّ عَرَبِيَّةَ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ أَفْصَحَ مِنْ عَرَبِيَّةِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وَبَقَايَا حِمْيَرٍ وَجُرْهُمٍ"؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ "يَعْرُبَ" هُوَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا قَبْلَهُمْ.
وَمِنَ الْبَاحِثِينَ الْمُعَاصِرِينَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَقْدَمَ مَا وَصَلَنَا مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ الْمِيلَادِيِّ، وَأَنَّهَا قَدْ نَشَأَتْ مُنْذُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ عَامٍ تَقْرِيبًا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَشَأَتْ فِي شِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَحَدَّثَتْ بِهَا الْقَبَائِلُ الْبَدَوِيَّةُ، قَالُوا: وَلَقَدْ تَسَبَّبَ انْتِشَارُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي انْقِرَاضِ الْعَدِيدِ مِنَ اللُّغَاتِ السَّامِيَّةِ الْأُخْرَى؛ مِثْلَ: اللُّغَةِ الْآرَامِيَّةِ، وَالْبَابِلِيَّةِ، وَالْأَكَّادِيَّةِ، وَالْآشُورِيَّةِ، وَالْفِينِيقِيَّةِ...
هَذَا، وَجَهْلُنَا بِنَشْأَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ تَحْدِيدًا أَوَّلَ مَنْ نَطَقَ بِهَا، هُوَ أَمْرٌ لَا يَضُرُّ بِعَقِيدَةِ الْمُسْلِمِ وَلَا بِدِينِهِ، وَهَذَا اجْتِهَادُنَا، وَنُفَوِّضُ الْعِلْمَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-.
عِبَادَ اللَّهِ: لَمْ تَكُنْ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عُلُومٌ مُدَوَّنَةٌ تَعْتَنِي بِهَا، بَلْ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِهَا بِالسَّلِيقَةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِرَاسَةِ قَوَاعِدِهَا وَلَا إِلَى تَدْوِينِهَا، ثُمَّ دَخَلَ بَيْنَهُمْ مَنْ لَا يُجِيدُ لِسَانَهُمْ فَشَرَعُوا فِي تَدْوِينِ أُصُولِ اللُّغَةِ وَقَوَاعِدِهَا.
وَمَا كَانَتْ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ وَالْأُصُولُ فِي الْبِدَايَةِ مُنْفَصِلَةً وَلَا مُتَمَايِزَةً، بَلْ كَانَتْ مَزِيجًا مِنَ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَلَاغَةِ... حَتَّى تَطَوَّرَتْ تِلْكَ الْعُلُومُ وَكَثُرَتْ أُصُولُهَا فَاسْتَقَلَّ كُلٌّ مِنْهَا مُكَوِّنًا قِسْمًا قَائِمًا بِذَاتِهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ أَوِ الْأَقْسَامِ:
أَوَّلًا: النَّحْوُ: وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي أَحْوَالِ الْكَلِمَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِفْرَادًا وَتَرْكِيبًا، وَفِي أَصْلِ تَكْوِينِ الْجُمَلِ وَقَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ... وَمِنْ أَبْوَابِهِ: أَقْسَامُ الْكَلَامِ، وَالنَّكِرَةُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَالْإِعْرَابُ وَالْبِنَاءُ، وَالْفَاعِلِيَّةُ وَالْمَفْعُولِيَّةُ، وَالنَّوَاسِخُ...
ثَانِيًا: الصَّرْفُ: وَهُوَ عِلْمٌ يَخْتَصُّ بِأَصْلِ الْكَلِمَةِ؛ فَيَبْحَثُ فِي بِنْيَتِهَا وَجُذُورِهَا، وَيُسَاعِدُ فِي صِيَاغَةِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمَاتِ وَتَحْوِيلِهَا إِلَى صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ كَالْإِتْيَانِ بِالْمَصْدَرِ، وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ مِنَ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ...
ثَالِثًا: الْبَلَاغَةُ: وَهِيَ حُسْنُ إِيصَالِ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الْوَاضِحِ الْمُنَاسِبِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهَا: الْإِتْيَانُ بِالْمَعْنَى الْجَلِيلِ بِوُضُوحٍ وَبِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ وَصَحِيحَةٍ، تَتْرُكُ فِي النَّفْسِ أَثَرًا، مَعَ مُنَاسَبَةِ الْكَلَامِ لِلْمَقَامِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ... وَتَنْقَسِمُ الْبَلَاغَةُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ رَئِيسَةٍ؛ هِيَ: عِلْمُ الْبَيَانِ، وَعِلْمُ الْمَعَانِي، وَعِلْمُ الْبَدِيعِ.
رَابِعًا: الْعَرُوضُ وَالْقَافِيَةُ: وَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَوْزَانِ الشِّعْرِ لِيُعْرَفَ صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ زِحَافٍ وَعِلَلٍ، وَعَنْ أَوَاخِرِ الْأَبْيَاتِ مِنَ الْحُرُوفِ وَحَرَكَاتِهَا... وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْعِلْمُ بُحُورَ الشِّعْرِ السِّتَّةَ عَشَرَ؛ وَمِنْهَا: الطَّوِيلُ، وَالْمَدِيدُ، وَالْمُتَقَارِبُ، وَالْبَسِيطُ، وَالْوَافِرُ، وَالْكَامِلُ، وَالرَّمَلُ، وَالسَّرِيعُ...
فَهَذِهِ هِيَ أَقْسَامُ اللُّغَةِ الرَّئِيسَةُ، وَقَدِ انْفَصَلَتْ عَنْهَا عُلُومٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: عِلْمُ الْإِمْلَاءِ، وَعُلُومُ اللُّغَةِ، وَالْعُلُومُ الْأَدَبِيَّةُ...
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ مَرَّتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ مُنْذُ نُشُوئِهَا بِعِدَّةِ مَرَاحِلَ، وَنَسْتَطِيعُ إِجْمَالَ مَا وَصَلَ إِلَى عِلْمِنَا مِنْهَا فِي الْمَرَاحِلِ التَّالِيَةِ:
الْمَرْحَلَةُ الْأُولَى: مَرْحَلَةُ "الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ": مِثْلَ قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ وَجُرْهُمٍ، الَّتِي نَشَأَ فِيهَا إِسْمَاعِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَتَكَلَّمُوا بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي فَصَاحَةِ وَبَلَاغَةِ لُغَةِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي تَعَلَّمَهَا مِنْهُمْ، ثُمَّ فَتَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ وَأَلْهَمَهُ الْعَرَبِيَّةَ الْفَصِيحَةَ الْمُبِينَةَ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْحَلَةُ "الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ": وَهُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ "يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ" وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْقَدِيمُ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ كَانَتْ لَهُ قَوَاعِدُ تَخَالُفِ قَوَاعِدَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْآنَ... وَقِيلَ: الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ هُمْ أَبْنَاءُ قَحْطَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَرْحَلَةُ "الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ أَوِ الْمُتَعَرِّبَةِ": وَهُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَمَا حَوْلَهَا... وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا: "الْعَدْنَانِيُّونَ"، نِسْبَةً إِلَى "عَدْنَانَ"، الَّذِي هُوَ مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْآبَاءِ بَيْنَهُمَا، وَعَدْنَانُ هُوَ الْجَدُّ الْعِشْرُونَ لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَمَجَامِعَ الْفَصَاحَةِ.
الْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَرْحَلَةُ الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ: وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهْتَمُّونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَيَتَفَاخَرُونَ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ، وَيَتَبَارَوْنَ فِي الشِّعْرِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ الْمُعَلَّقَاتُ السَّبْعُ الْمَشْهُورَةُ، وَالَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى جُدْرَانِ الْكَعْبَةِ.
وَمِنْ دَلَائِلِ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ مُؤْتَمَرًا لُغَوِيًّا سَنَوِيًّا يَعْقِدُونَهُ بِالْقُرْبِ مِنَ الطَّائِفِ وَيُسَمُّونَهُ: "سُوقَ عُكَاظٍ"، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الشُّعَرَاءُ وَالْبُلَغَاءُ وَالْخُطَبَاءُ، وَيُقَالُ: إِنَّ بِدَايَتَهُ كَانَتْ سَنَةَ (501) مِيلَادِيَّةً، وَاسْتَمَرَّ حَتَّى صَدْرِ الْإِسْلَامِ.
وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَكَلَّمُونَ بِعِدَّةِ لَهَجَاتٍ عَرَبِيَّةٍ، لَكِنْ كَانَ أَشْهَرُهَا وَأَفْصَحُهَا: "لُغَةَ قُرَيْشٍ"؛ وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَوْسِمِ الْحَجِّ الَّذِي كَانَتْ تَحْضُرُهُ جَمِيعُ الْعَرَبِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ قُرَيْشٍ لُغَاتِهِمْ فَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ مِنْهَا... وَمِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ أَفْصَحُ الْفُصَحَاءِ، وَقُدْوَةُ الْبُلَغَاءِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: لَمَّا كَانَ الْعَرَبُ أَهْلَ فَصَاحَةٍ وَبَيَانٍ، فَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ يَتَحَدَّاهُمْ فِيمَا نَبَغُوا فِيهِ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشُّعَرَاءِ: 195]، فَقَوَّمَ أَلْسِنَتَهُمْ، وَصَوَّبَ بَيَانَهُمْ، وَقَوَّى وَعَزَّزَ مَلَكَاتِهِمُ اللُّغَوِيَّةَ، فَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَةُ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ بِمَدْحِ الْقُرْآنِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَيَانِهِ، فَهَذَا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَأْتِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَسْمَعُ مِنْهُ الْقُرْآنَ، فَيَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ قَائِلًا: "وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ).
وَيَسْمَعُهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَيَعُودُ إِلَى قَوْمِهِ مَأْخُوذًا يَقُولُ: "إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا -وَاللَّهِ- مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ"(سِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ).
فَحَفِظَ اللَّهُ -تَعَالَى- اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَحَفِظَهَا مِنْ أَجْلِ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ تَتَابَعَتِ الْعُصُورُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَزَادَ اهْتِمَامُ الْمُسْلِمِينَ بِلُغَةِ كِتَابِهِمْ، فَأَلَّفُوا فِيهَا وَصَنَّفُوا وَقَسَّمُوا الْأَقْسَامَ وَالْعُلُومَ كَمَا سَبَقَ أَنْ أَشَرْنَا... وَصَارَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ لُغَةَ الْقُرْآنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَاللَّهُمَّ زِدْنَا تَمَسُّكًا بِقُرْآنِنَا، وَبِلُغَةِ قُرْآنِنَا، وَزِدِ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ بِالْقُرْآنِ عِزًّا وَمَجْدًا، وَزِدِ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ وَكِتَابِهِمْ وَلُغَتِهِمْ تَمَسُّكًا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم