اقتباس
تاريخ الإسلام في الصومال هي قديمة قدم الدين نفسه، فقد كان وجهة المسلمين الأوائل في هجرتهم الأولى والثانية، وكان لانتصار المسلمين على قريش في القرن السابع الميلادي أكبر الأثر على التجار والبحارة الصوماليين؛ حيث اعتنق أقرانهم من العرب الدين الإسلامي، ودخل أغلبهم فيه، كما...
في منتصف القرن العاشر الهجري كانت الأضواء العالمية كلها مسلطة على ما يفعله سلطان القسطنطينية؛ السلطان العثماني الأشهر سليمان القانوني الذي دوخ أوروبا وفتح حصونها وقلاعها وكبرى مدنها، وجيوشه تحاصر فيينا، وأساطيله تمخر عباب المتوسط يرتعب من ذكر قادتها الفرنسيون والطليان والإسبان وكل سواحل أوروبا، في هذا الوقت كان ثمة مجد عظيم ينسج سطوره من نور وضياء قادة وأمراء مسلمون عظام في بقعة بعيدة عن أوروبا؛ حيث التاريخ المجيد الذي يجهله كثير من المسلمين الذين يعصر اليأس قلوبهم ويأسر نفوسهم، من كثرة جراحات الواقع وخيبات المسلمين المتتالية.
وهذه صفحة من ألمع وأنصع صفحات المجد الإسلامي في القرن الأفريقي.
الإسلام في القرن الأفريقي:
القرن الأفريقي أو شبه الجزيرة الصومالية هي شبه جزيرة تقع في شرق أفريقيا في المنطقة الواقعة على رأس مضيق باب المندب من الساحل الأفريقي، وهي التي يحدها المحيط الهندي جنوبا، والبحر الأحمر شمالا، وتقع بها حاليا: جيبوتي والصومال وإريتريا، ويجاورها كينيا وأثيوبيا، وتتحكم بمضيق باب المندب.
وهو بهذا التحديد قرن إسلامي الهوية، للكثافة السكانية المسلمة التي تقطنه، والتي تتشكل في غالبها من قبائل الأرموي، والجالا في إثيوبيا، والصوماليين، في الصومال، وأوجاديين بإثيوبيا، وإينفدي بكينيا، والعفر، والعيساويين، في جيبوتي، وإرتيريا، والبجة الموزعين بين إريتريا، وشرق السودان، ومن عداهم من القبائل والمجموعات الإسلامية الأخرى، من العرقيات المختلفة.
تاريخ الإسلام في الصومال هي قديمة قدم الدين نفسه، فقد كان وجهة المسلمين الأوائل في هجرتهم الأولى والثانية، وكان لانتصار المسلمين على قريش في القرن السابع الميلادي أكبر الأثر على التجار والبحارة الصوماليين حيث اعتنق أقرانهم من العرب الدين الإسلامي، ودخل أغلبهم فيه، كما بقيت طرق التجارة الرئيسية بالبحرين الأحمر والمتوسط تحت تصرف الخلافة الإسلامية فيما بعد.
وانتشر الإسلام بين الصوماليين عن طريق التجارة.
كما أدى عدم استقرار الأوضاع السياسية في الفترة التي تلت عهد الخلفاء الراشدين من تصارع على الحكم إلى نزوح أعداد كبيرة من مسلمي شبه الجزيرة العربية إلى المدن الساحلية الصومالية مما اعتبر واحدا من أهم العناصر التي أدت لنشر الإسلام في منطقة شبه جزيرة الصومال.
وأصبحت مقديشيو منارة للإسلام على الساحل الشرقي لإفريقيا.
وفي تلك الأثناء كانت بذور سلطنة "عدل" قد بدأت في إنبات جذورها حيث لم تعدُ في تلك الأثناء عن كونها مجتمع تجاري صغير أنشأه التجار الصوماليون الذين دخلوا حديثا في الإسلام.
وعلى مدار مائة عام امتدت من سنة 1150 وحتى سنة 1250 لعب القرن الأفريقي دورا بالغ الأهمية والمحورية في التاريخ الإسلامي ووضع الإسلام عامة في هذه المنطقة من العالم؛ حيث أشار كلا من المؤرخين: ياقوت الحموي، وعلي بن موسى بن سعيد المغربي، في كتبهم إلى أن الصوماليون في هذه الأثناء كانوا من أغنى الأمم الإسلامية في تلك الفترة، حيث أصبحت سلطنة عدل من أهم مراكز التجارة في ذلك الوقت وكونت إمبراطورية شاسعة امتدت من رأس قصير عند مضيق باب المندب وحتى منطقة هاديا بإثيوبيا، حتى وقعت سلطنة عدل تحت حكم سلطنة إيفات الإسلامية الناشئة والتي بسطت ملكها على العديد من مناطق إثيوبيا والصومال، وأكملت سلطنة عدل، التي أصبحت مملكة عدل بعد وصول مد سلطنة إيفات إليها، أكملت نهضتها الاقتصادية والحضارية تحت مظلة سلطنة "إيفات".
الممالك الإسلامية في القرن الأفريقي:
سلطنة "إيفات" الإسلامية:
قامت سلطنة "يفات" حوالى (648 - 805 هـ = 1250 - 1402م) بعبء المقاومة والدفاع ضد هذا الخطر الصليبي الحبشي الذي كان يهدف إلى القضاء على الإسلام في منطقة القرن الإفريقي كلها.
اتخذت سلطنة "إيفات" من مدينة "زيلع" عاصمة لها، ومنها انطلقت جيوش "إيفات" لغزو مملكة شيوا الحبشية المسيحية القديمة عام 1270.
وكانت مساحة الأراضي التي سيطر عليها المسلمون بزعامة "إيفات" تفوق مساحة أرض مملكة الحبشة المسيحية نفسها، بل كانت تحيط بالحبشة من الجنوب والشرق، فضلا عن إحاطة الإسلام بها من ناحية السودان من الشمال والغرب، مما أدى إلى عزل مملكة الحبشة عزلا تاما عن العالم الخارجي، ولا سيما بعد استيلاء المسلمين على ميناء "عدل" قرب "مصوع".
ولذلك عندما تولت الأسرة "السليمانية" عرش الحبشة عام (669هـ = 1270م)، رسمت لنفسها خطة لتوسيع سلطان "الحبشة" على حساب جيرانها من المسلمين الذين كانوا يسيطرون على الموانئ ومن ثم على التجارة الخارجية مما أدى إلى نشوب عداوة كبيرة وصراع على بسط السلطة والنفوذ ومعارك مع محاولات توسعية شديدة الكراهية بين البيت الملكي السليماني المسيحي وسلاطين سلطنة "إيفات" المسلمة مما أدى لوقوع العديد من الحروب بين الجانبين، هُزم فيها المسلمون عدة مرات.
وترجع هذه الهزيمة إلى أن حركة المقاومة التي تزعمتها "إيفات" لم تكن منبعثة عن وحدة وتعاون فعال بينها وبين الممالك الإسلامية، ولذلك هزمهم الأحباش، بل يقال: إن إمارتين إسلاميتين عاونتا ملك الحبشة في هجومه الذي انتهى بنهب "عَدَل" وعَقْد هدنة بين الطرفين، وكان من الممكن أن تكون هذه الحرب هي القاضية لولا تدخل سلطان "مصر" المملوكي الذي هدد بقطع العلاقات وعدم الموافقة على تعيين "المطران" الذي طلبه الأحباش، وكان يعين من قبل بطرك مصر، وأثمر هذا التدخل، فقَبِل الأحباش الهدنة مع "إيفات".
استطاع المسلمون تقوية مراكزهم ودعم سلطانهم على طول منطقة الساحل، وكانوا يرتقبون فرصة ضعف أو تخاذل في صفوف أعدائهم، وعندما علموا بوفاة ملك "الحبشة" عام (698هـ = 1299م)، قام شيخ مجاهد يدعى "محمد أبو عبدالله" بحشد طائفة كبرى من قبائل "الجَلا" و "الصومال" وأعدهم للجهاد، وقام بغزو الحبشة، ولم تعمد الحبشة إلى المقاومة بسبب بعض المتاعب الداخلية، واضطر ملكها إلى التنازل للمسلمين عن بضع ولايات على الحدود نظير الهدنة، ولم يكن سلاطين "إيفات" ليقنعوا بالهدنة، وخاصة أن قوتهم قد ازدادت، فلم يستطع الملك الحبشي "ودم أرعد" (698 - 714هـ = 1299 - 1314م) أن يرد هجماتهم.
في غمرة هذا الصراع الدموي اتفقت كلمة المسلمين بين عامي (1332 و 1338م) على الاستنجاد بدولة المماليك في "مصر"، وذلك بإرسال سفارة إلى سلطان "مصر" "الناصر محمد بن قلاوون" برئاسة "عبدالله الزيلعي" ليتدخل السلطان في الأمر لحماية المسلمين في بلاد "الزيلع" فطلب "الناصر محمد" من بطرك الإسكندرية أن يكتب رسالة إلى ملك الحبشة في هذا الصدد.
غير أن ملك الحبشة لم يكفَّ عن مهاجمة المسلمين الذين لم يتوانوا في انتهاز الفرص للثأر منه.
وتحالفت إمارتا "مورا" و "عدل" مع بعض القبائل البدوية وأخذوا يشنون حربًا أشبه بحرب العصابات، وأخذ ملك الحبشة في مطاردتهم وتقدم ف أراضي "مورا" الإسلامية، حتى وصل إلى مدينة "عَدَل" وقبض على سلطانها وذبحه، فتقدم أولاد السلطان الثلاثة إلى ملك الحبشة مظهرين الخضوع.
وفى تلك الأثناء انتاب سلطنة "إيفات" بعض الفتن الداخلية بسبب النزاع على العرش بين أفراد الأسرة الحاكمة، وانتهى النزاع بانفراد "حق الدين الثاني" وإعلان استقلاله عن الحبشة، واستطاع أن يهزمها ويردها عن إمارته فترة طويلة حتى هُزم ومات عام (788هـ = 1386م)، والتف المسلمون للمرة الأخيرة حول خليفته وأخيه "سعد الدين"، واستأنفوا حركة الجهاد ودحروا الأحباش، وتوغلوا في أرض "أمهرة" (مملكة النجاشي) لكن "سعد الدين" هُزم في معارك تالية، واضطر إلى الفرار إلى جزيرة "زيلع" حيث حوصر وقتل عام (805هـ = 1402م) نتيجة لخيانة رجل دلَّهم على مكمنه.
ويعتبر احتلال الأحباش لزيلع بمثابة إسدال الستار على سلطنة إيفات التي احتلها الأحباش نهائيا، ولم يعد يسمع بها أحد، وانتهى دورها في الجهاد، وتفرق أولاد "سعد الدين" العشرة مع أكبرهم "صبر الدين الثاني"، وهاجروا إلى شبه الجزيرة العربية حيث نزلوا في جوار ملك اليمن "الناصر أحمد بن الأشرف" الذي أجارهم وجهزهم لاستئناف الجهاد ضد الحبشة، فعادوا إلى إفريقيا حيث انضم إليهم من بقي من جنود والدهم، فقوى أمرهم واستأنفوا النضال واتخذوا لقبًا جديدًا هو لقب "سلاطين عَدَل".
سلطنة عدل الإسلامية:
لأن الله -عز وجل- ناصر دينه وجنده لم يشأ سبحانه أن يكون للكافرين على المسلمين الصادقين سلطاناً ولا دولة، فما أن سقطت دولة "إيفات" الإسلامية حتى قامت مكانها سلطنة "عدل" الإسلامية (817 - 985هـ = 1414 - 1577م)؛ لتواصل رفع راية الجهاد ضد الحبشة الصليبية التي تريد إبادة الوجود الإسلامي في القرن الأفريقي.
استأنف سلاطين "عَدَل" الجهاد مرة أخرى في عهد "صبر الدين الثاني" الذي اتخذ مدينة "دَكَّر" عاصمة له، واستطاع الاستيلاء على عدة بلاد حبشية فيما يعرف بحرب العصابات، وبعد وفاته عام (825هـ = 1422م) خلفه أخوه "منصور" المتوفى سنة (828هـ = 1425م) الذي بدأ عهده بحشد عدد كبير من مسلمي "الزيلع"، وهاجم بهم ملك الحبشة وقتل صهره وكثيرًا من جنده، وحاصر منهم نحوًا من ثلاثين ألفًا مدة تزيد على شهرين.
ولما طلبوا الأمان خيَّرهم بين الدخول في الإسلام أو العودة إلى قومهم سالمين، فأسلم منهم نحو عشرة آلاف وعاد الباقون إلى بلادهم، ولم يقتلهم "منصور" ولم يستعبدهم كما كان يفعل ملوك الحبشة بجنود المسلمين الذين كانوا يقعون في أسرهم.
لكن ملك "الحبشة" "إسحاق بن داود" أعد جيشًا كبيرًا وهجم به على "منصور" وقواته وهزمها هزيمة شنيعة لدرجة أن السلطان "منصور" وقع هو وأخوه الأمير "محمد" في أسر "إسحاق" عام (828هـ = 1425م).
ولكن راية الجهاد ضد عدوان الأحباش لم تسقط بهذه الهزيمة، فقد قام أخ للسلطان الأسير وهو السلطان "جمال الدين" برفع راية الجهاد من جديد.
وانتصر على ملك الحبشة في مواقع كثيرة، ولكن أبناء عمه حقدوا عليه ربما رغبة في النفوذ والسلطان الذي حرموا منه فاغتالوه في عام (836هـ = 1432م)، فتولى الحكم بعده أخوه السلطان "شهاب الدين أحمد بدلاى" الذي عاقب القتلة وحارب الأحباش واسترد إمارة "بالي" الإسلامية من أيديهم، ولكنه وقع صريعًا أمام الأحباش في (848هـ = 1444م) نتيجة لخيانة أحد الأمراء الذين أظهروا التحالف معه.
ومن ثم تمكن الأحباش من اجتياح سلطنة "عَدَل" وبقية الممالك الزيلعية الأخرى، وأصبحت الحبشة إمبراطورية كبيرة امتدت شمالا حتى مصوع وسهول السودان.
سلطنة الأمراء والأئمة:
ويبدو أن الرغبة الصادقة في الجهاد التي عرف بها الجيل الأول من سلاطين "إيفات" قد فترت عند أحفادهم سلاطين "عدل"، فقد سئموا القتال وجنحوا إلى المسالمة، ولكن الشعب المسلم لم يتخل عن سياسته التقليدية في جهاد الأحباش ومقاومتهم.
وكان تخاذل سلاطين "عدل"، وتحمس الشعب للجهاد مؤذنًا ببداية الدور الأخير من أدوار الجهاد وهو دور "هرر".
وتميز هذا الدور بظهور طائفة من الأمراء الأئمة أشربت قلوبهم حب الجهاد وصارت لهم السلطة الفعلية في البلاد، وبذلك أصبح في المجتمع العَدَلي حزبان: هذا الحزب الشعبي الذي يتزعمه الأمراء الأئمة، وذلك الحزب الذي يريد أن يسالم الأحباش ويتكون من الطبقة الأرستقراطية والتجار، وعلى رأسه سلاطين عدل التقليديون.
وكان أول هؤلاء الأئمة ظهورًا هو الداعية "عثمان" حاكم "زيلع" الذي أعلن الجهاد بعد وفاة السلطان "محمد بن بدلاى" مباشرة عام (876هـ = 1471م)، ثم ظهر في "هرر" الإمام "محفوظ" الذي تحدى السلطان "محمد بن أزهر الدين"، واشتبك مع الأحباش، غير أن البرتغاليين ظهروا على مسرح الأحداث وفاجئوا "زيلع" وأغاروا عليها وانتهى الأمر بفشل حركة "محفوظ"، وباغتيال السلطان "محمد" سنة (924هـ = 1518م).
وللحديث بقية..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم