عناصر الخطبة
1/تعريف اسم الله الحكيم ومدلولاته 2/من مظاهر حِكَم الله في تسيير أحوال الخلق 3/أثر التأمل والإيمان باسم الله الحكيماقتباس
من حِكَمِ الله -تعالى- في خلقه: أنْ فاضل بين الناس؛ فوفّق قوماً للدين، ووكل قوماً لأنفسهم فاختاروا الكفر، ولا يعجز الله هدايتهم، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، لكنه حكيم، جعل الكفر والإيمان، وسلط...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن محمدا عبده يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً)[النساء:1]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن لله -تعالى- أسماء كلها حسنى، أنزل جملة منها في كتابه، واستأثر بأخرى في علم الغيب عنده، لحكمة يعلمها -سبحانه-.
ولكونها تتميز بفضل وقدر عظيمين؛ فإن من أحصاها وعرف معناها وعمل بمقتضاها دخل الجنة؛ كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة"(متفق عليه).
وإن من أسماء الله -تعالى- الحسنى الحكيم، وهو اسمٌ ساقه الله في القرآن في واحد وتسعين موضعًا، وفي جميع المواضع يقرنه باسم آخَر من أسماء الله -تعالى-؛ فتارة مع العزيز، وتارة مع العليم، وتارة مع الخبير، وكذلك مع غيرها من أسماء الله الحسنى.
والحكيم: هو الذي يضع الأمور في مواضعها، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه شر، ولا يعذب إلا من استحق، ولا يُقَدِّر إلا ما فيه حكمة وهدف؛ فأفعاله سديدة، وصنعه متقن؛ فلا يُقدِّر شيئاً عبثاً، ولا يفعل لغير حكمة، بل كل ذلك بحكمة وعلم، وإن غاب عن الخلائق، وذلك كله لائق بقدر الخالق -سبحانه وتعالى- الحكيم في أقواله وأفعاله.
ولقد خلق الله -تعالى- السماوات والأرض؛ فلا ترى فيها عوجاً، وأوجد الإنسان والمخلوقات فأبدع صنعاً، يدبر الكون بانتظام؛ فيعطي هذا ويمنع هذا، لأن الحياة لا تستقيم بعكس ذلك، يسخر هذا لخدمة هذا بحكمته وهو الحكيم.
أرزاقٌ مكفولة، وأعمال مقدرة، وخلائق مختلفة، وكون مُحْكم لا يختل لحظة واحدة؛ شمس وقمر، نجوم وجبال، لو طال خروج الشمس لهلك العباد، ولو تأخر القمر على الناس لهلكوا؛ (أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه:50].
عباد الله: وإن لله -تعالى- حِكَمَا فيما يجريه من أحوال الخلق؛ فما يقضي -سبحانه- من أمر إلا لحكمة، وإيماننا بأن الله حكيم يجعلنا نوقن بأن له الحكمةَ البالغة في أقداره وقضائه؛ إما في الحال أو في المآل، ولربما كره البعضُ بعضَ القدر، وتتجلى الأمور ويعلم حينها أن ما قدّره الله هو الخير، قال الله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216]؛ فإنه -سبحانه- مَن يدري؛ فلعل وراء المكروه خيرا، ووراء المحبوب شرا، والعليم بالغايات البعيدة، المطلع على العواقب المستورة هو الذي يعلم وحده؛ ولأجل هذا فقد كان الأنبياء والصالحون يسلّمون لله في قضائه لعلمه بحكمته، ويتذكرون عند الملمّات اسم الحكيم، أولم يقل يعقوب حين علم بحجز ابنه الثاني: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف:83].
قال ابن القيم: "فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله من قصة يوسف من ثمرة!، وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة في حق يعقوب وحق يوسف وحق الإخوة وحق امرأة العزيز وحق أهل مصر وحق المؤمنين إلى يوم القيامة!".
أيها الناس: وإن من حِكَمِ الله -تعالى- في خلقه: أنْ فاضل بين الناس؛ فوفّق قوماً للدين، ووكل قوماً لأنفسهم فاختاروا الكفر، ولا يعجز الله هدايتهم، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، لكنه حكيم، جعل الكفر والإيمان، وسلط الشيطان على الإنسان حكمة منه، قال ابن القيم: "في خلق إبليس من الحكم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله؛ فالله -سبحانه-لم يخلقه عبثا، ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكَهم؛ فكم لله في خلقه من حكمة باهرة، وحجة قاهرة، وآية ظاهرة، ونعمة سابغة!، وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان؛ ففي إيجاد السموم من المصالح والحكم ما هو خير من تفويتها".
ومن حِكم إيجاده: أنه -سبحانه- جعله عبرة لمن خالف أمره، وتكبر عن طاعته، وأصر على معصيته، وأنه محكٌّ امتحن الله به خلقه؛ ليتبين به خبيثهم من طيبهم.
ومنها: أنه -سبحانه- يحب أن يُظهر لعباده حلمه وصبره وسعة رحمته وجوده.
أيها المؤمنون: وإن من أهم المواقف التي يتوقف عندها المسلم في حياته السؤال عن حكمة تأخير النصر، واشتداد الكرب والبلاء على المسلمين، وقد أجاب بعض أهل العلم على هذا التساؤل بإجابة جامعة -يستذكر المسلم من خلالها اسم الله الحكيم، وأن لله -تعالى- له الكثير من الحكم فيما يقوله ويفعله- فقال: "قد يبطئ النصر؛ حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد؛ فلا تستبقي عزيزا ولا غالياً لا تبذله هينا رخيصا في سبيل اللّه.
وقد يبطئ النصر؛ حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من اللّه لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند اللّه عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تَكِلِ الأمر بعدها إلى اللّه.
وقد يبطئ النصر؛ لتزيد الأمة المؤمنة صلتها باللّه، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سندا إلا اللّه، ولا مُتَوَجَّهَاً إلا إليه وحده في الضراء.
وقد يبطئ النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها للّه ولدعوته؛ فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، واللّه يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه.
كما قد يبطئ النصر؛ لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقيةٌ من خير، يريد اللّه أن يجرِّد الشر منها؛ ليتمحض خالصا، ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبس به ذرة من خير.
وقد يبطئ النصر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما؛ فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة؛ فيشاء اللّه أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
وقد يبطئ النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة؛ فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البعض، فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه.
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه اللّه قد يبطئ النصر؛ فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع اللّه عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية" ا.هـ.
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل الإيمان واليقين.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
عباد الله: فإذا تأمل العبد في اسم الله الحكيم وآمن به؛ فإنه يسلّم لدين الله ويوقن أن أوامر الله لها حكمة وإن غابت عن البشر، وكم لله من حِكمٍ في العبادات وإن شقَّت!؛ فللصوم حِكم وللصلاة من الحكم ما لا يحصر، وما زال حتى أهل الطب يذكرون فائدتها للبدن، وفائدتُها للدين أشرف وأشهر.
وحين ينهى الله عن أمر ما؛ فمن وراء ذلك الحِكم، وكم تزيغ المجتمعات حين لا ترتدع عن نواهي ربها، وهو ما نهى عنها إلا لعلمه وحكمته!، وما تحريم الزنا والخمر والخنزير إلا نماذج تجني المجتمعات من ارتكابها الويلات، ولكنّ مطموس القلب ربما ظن النهي من الله بلا هدف، ومع ما في المنهيات من أمورٍ حَكَم الله لأجلها بالنهي؛ فإن من وراء ذلك أيضاً التعبد لله بتركها، ولا غرو؛ فمن أمر بهذا ونهى عن هذا هو الحكيم العليم.
وعلى ذلك؛ فإن المسلم الواثق بربه يوقن أن تقدير الله في كل شأن من الشؤون لحكمة، وعلى الإنسان فعل الأسباب، ثم الرضى بتقدير الله بما اختار وأراد؛ فيقف عند ما نهى، ويؤدي ما طلب؛ لإيمانه أن ذلك منه لحكمة، وهو الحكيم -سبحانه- الذي له الحكمة البالغة في كل أموره، ولا يخلق مخلوق، ولا يتحرك ساكن، ولا يسكن متحرك إلا بحكمة.
اللهم اهدنا سبل السلام، واجعلنا شاكرين لنعمائك، راضين بقضائك.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصَّلاة والسَّلام عليه بقوله، (إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النَّبيِّ، يا أيُّها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً)[الأحزاب 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم