عناصر الخطبة
1/تفاوت آيات وسور القرآن الكريم في الفضل 2/فضائل سورة البقرة 3/فضائل آية الكرسي 4/تأملات في معاني آية الكرسي.اقتباس
ففيها أطول آية في القرآن، وفيها أعظم آية، وفيها آخر ما نزل من القرآن،.. والصحابة -رضي الله عنهم- يتعاظمونها في الشدة والرخاء، ويُنادَون عند تعثر سير المعارك بأهلها، ذُكرت فيها أركان الإسلام الخمس، والتوجه للقبلة، وجملة من الأحكام، والمعاملات، والقصص، والأخبار.
الخطبة الأولى:
سور القرآن الكريم تتفاوت في الفضل، بما فيها من صفات ومعانٍ وأحكام، فسورة البقرة فيها من الأحكام، والآيات، والصفات العديدة.
ففيها أطول آية في القرآن، وفيها أعظم آية، وفيها آخر ما نزل من القرآن، وفيها كما قال ابن كثير -رحمه الله-: "ألف خبر، وألف أمر، وألف نهي".
والصحابة -رضي الله عنهم- يتعاظمونها في الشدة والرخاء، ويُنادَون عند تعثر سير المعارك بأهلها، ذُكرت فيها أركان الإسلام الخمس، والتوجه للقبلة، وجملة من الأحكام، والمعاملات، والقصص، والأخبار.
ورد في فضل هذه السورة ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان"، وفي الحديث المتفق عليه: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، وفي حديث أبي إمامة -رضي الله عنه- قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين، البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرقانِ من طير صَوَافَّ، تحاجان عن أصحابهما، ثم قال اقرؤوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة"(رواه مسلم). قال النووي -رحمه الله-: سميت بالزهراوين "لنورهما، وهدايتهما، وعظيم أجرهما".
وورد في حديث حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش"(رواه مسلم)، وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بينما جبريل قاعد عند النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال أبشر بنورين أتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أُعْطيتَه"(رواه مسلم).
وفي سورة البقرة أعظمُ آية فيها، بل في القرآن الكريم كلِّه، إنها آية الكرسي، شأنها عظيم، وثوابها كبير، سأل رسولُ الله أبيَّ بنَ كعبٍ -رضي الله عنه-: "أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، فرددها مرارًا، ثم قال: آية الكرسي قال: ليهنك العلم أبا المنذر"(رواه مسلم).
قال القرطبي -رحمه الله-: "آية الكرسي سيدة آي القرآن، وأعظم آية، ونزلت ليلاً ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- زيدًا فكتبها"، وهي حصن حصين، وحرز من الشيطان الرجيم، كما في قصة أبي هريرة -رضي الله عنه- في الصحيح أن الشيطان قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه صدقك وهو كذوب".
آية الكرسي اشتملت على عشر جمل مستقلة، أولاها: وهو أصل خلق الخلائق (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا الله، فهو الإله الحق الذي يجب على المخلوقات صرف العبادة له -سبحانه- لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، فمن أجْلِ "لا إله إلا الله" أُرسلت الرسل -عليهم السلام- قال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبيَاء: 25]، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار.
وهو -سبحانه-: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)[البَقَرَة: 255]، حي لا يموت، والإنس والجن يموتون، فهو -سبحانه- له جميع معاني الحياة الكاملة كما يليق بجلاله.
وهو -سبحانه- قيوم لغيره، فجميع المخلوقات مفتقرة إليه وهو -سبحانه- غني عنها لا قِوام لها بدون أمره.
وهذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمن، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان شيخ الإسلام ابنُ تيمية قدس الله روحه شديدَ اللّهْجِ بها جدًا، وقال لي يومًا: لهذين الاسمين - وهما الحي القيوم - تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسمُ الأعظم".
فليحرص المسلم على حفظ هذه الآية الكريمة، لما ورد فيها من توحيد، وثناءٍ على الله بما هو أهله، من الصفات العلى والأسماء الحسنى.
وفقنا الله لتدبر كلام الله -سبحانه-.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
من صفاته -عز وجل- (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)[البَقَرَة: 255]، أي: لا تغلبه سِنة، وهي الوسن والنعاس، وذلك لكمال حياته وكمال قيوميته، وقد ورد في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سُ-بُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
والله -سبحانه-: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[البَقَرَة: 116]، مُلكًا وخَلقًا والجميعُ عبيده، وفي ملكه، وتحت قهره، وسلطانه، قال -سبحانه-: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مَريَم: 93-95].
ومن عظمة الله وجلاله وكبريائه، أنه لا يتجاسر أحد أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، وهي في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)[البَقَرَة: 255]، ولابد للشفاعة من شرطين: إذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له، قال -سبحانه-: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[النّجْم: 26].
وهي فضلٌ من الله ورحمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- له شفاعات، واختص يوم المحشر بشفاعة تعجيل الحساب، وهي في قوله -تعالى-: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[الإسرَاء: 79]، فبعد أن يعتذر آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- يأتون إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "أنا لها، فأسْتأذِنُ على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأَخِرُّ له ساجدًا، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقُل يسمعْ لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول يا رب أمتي"(رواه البخاري). والشفعاء كثيرون، منهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة، وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى.
والله -سبحانه- عِلْمه محيطٌ بجميع الكائنات، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)[البَقَرَة: 255]، فيعلم -سبحانه- ما خلَّفوه في الدنيا وراء ظهورهم، وما يَقْدِمون به في الآخرة، ولا يطلع أحد على شيء من علم الله إلا بما أعلمه الله -عز وجل-، وأطلعه عليه، قال -تعالى-: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ)[البَقَرَة: 255]، ومن ذلك ما أخبر به رسلَه -عليه السلام- قال -سبحانه-: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)[الجنّ: 26-27].
ومن عظمة الله -عز وجل- أن كرسيَّه وهو موضع القدمين، وسع السمواتِ والأرض، فيدل على عظمتها وعظمة مَن فيها، والكرسي ليس أعظم مخلوقات الله، بل العرش أعظم منه. والله -سبحانه- لا يُثقله ولا يُكْرِثُه حفظ السموات والأرض ومن فيها، وما بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير عنده، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، وهو -سبحانه- عليٌّ بذاته، وجامعٌ لصفات العظمة والكبرياء.
وأَجمَلَ معنى هذه الآيةِ شيخُ الإسلام -رحمه الله-: "ليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي".
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم