عناصر الخطبة
1/المطر من النعم العظيمة 2/من هدي النبي عند نزول المطر 3/كيف نستنزل نعمة المطر؟ 4/جدب القلوب وعلاجهاقتباس
ومن السنن الثابتة عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- عند الغيث: استغلال وقت نزول المطر بالدعاء، واستحب بعض العلماء رفع اليدين أثناء الدعاء لحديث: "ثنتان لا يرد فيهما الدعاء: عند النداء، وعند نزول المطر"...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما.
أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].
عباد الله: المطر نعمة عظيمة من الله -عز وجل-؛ فهو غياث الأرض، إذا لامس وجهها المكفهر المجدب كشفت عن مفاتنها، فاكتست حلة سندسية خضراء، تأسر الناظرين بجمالها وزينتها؛ (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)[الحج: 5]؛ أي: فرحة تعيشها الأرض عند نزول الغيث، فها هي تهتز فرحاً وسرواً، وتشاركها جميع المخلوقات تلكم الفرحة؛ لأن الغيث مصدر حياة المخلوقات، قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء: 30]؛ ولذا قال الله -جل وعلا- ممتناً على عبادة بهذه النعمة العظيمة: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى: 28].
والغيث آية من آيات الله؛ فيه الرعد المسبح بحمده، والبرق والصواعق يخوف الله بهما عباده، ويُطمّعُهم في فضله وجوده، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)[الرعد: 12، 13]، عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبي -صلَّى الله عليْه وسلَّم- قال: "الرَّعد ملَك من ملائكة الله موكَّل بالسَّحاب، معه مخاريق من نارٍ؛ يسوق بها السَّحاب حيث شاء الله"(رواه الترمذي وصححه الألباني).
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخاف عند رؤية الريح والغيم، فعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: "إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي"، وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: "رَحْمَةٌ"(رواه مسلم).
والغيث بركة من الله -عز وجل- ينزلها إلى أهل الأرض، فيعم الخير كل أرجائها، قال -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)[ق: 9]، وقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعرض للغيث، فيكشف الثوب عن جسده؛ التماساً لبركته، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: أصابنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطر، قال: "فحسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبه، حتى أصابه من المطر"، فقلنا يا رسول الله، لمَ صنعت هذا؟ قال: "لأنه حديث عهد بربه تعالى-"(رواه مسلم)، وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: "كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض بدنه؛ ليصيبه المطر، وقال: إنه حديث عهد بربه"(رواه مسلم).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا رأى الغيث: "اللهم صيباً نافعاً"(رواه البخاري)، وفي رواية لأبي داود: "اللهم صيباً هنيئاً"، وثبت عنه أيضاً أنه قال: "مطرنا بفضل الله ورحمته"(رواه البخاري).
أما إذا نزل المطر وخشي منه الضرر فيدعو بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"(أخرجه الشيخان).
أيها المسلمون: ومن السنن الثابتة عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- عند الغيث: استغلال وقت نزول المطر بالدعاء، واستحب بعض العلماء رفع اليدين أثناء الدعاء لحديث: "ثنتان لا يرد فيهما الدعاء: عند النداء، وعند نزول المطر"(أخرجه الحاكم وحسنه الألباني).
عباد الله: إننا في أمس الحاجة إلى المطر؛ لننال من خيره وبركاته، ولا غنى لنا عنه، فعلينا أن نبذل كل الأسباب لاستنزاله واستدامة، فالعالم اليوم يشتكي من شحٍ في المياه، فكثير من البلدان تعيش القحط والجفاف؛ حتى نضبت الآبار وشحت المياه، فكيف نستنزل هذه النعمة ونستديم هذه النعمة؟.
أولاً: التوبة الاستغفار: قال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10 - 12].
ثانياً: تقوى الله والاستقامة على أمره: قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
ثالثاً: الشكر لله على نعمه: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68 - 70].
رابعاً: الدعاء: فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويستغيث؛ يستنزل رحمة ربه، حتى يرُى بياض إبطيه، فينزل الله الغيث.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله مِلْءَ السَّمواتِ، ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما شِئتَ مِن شيءٍ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبد، اللهمَّ لا مانعَ لِما أعطَيتَ، ولا مُعطيَ لِما منَعتَ، ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أما بعد:
إخوة الإيمان: كما أن هناك جدب للأرض فهناك جدب للقلوب؛ فتقسو وتجدب، وتحتاج إلى غيث يعيد إليها الحياة والنماء، وقال -عز وجل-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الحديد: 16، 17]، والقلوب القاسية تحتاج إلى غيث من ربها الكريم؛ يزيل قسوتها وجدبها، فما السبيل إلى غيث القلوب؟.
أولاً: ذكر الله -عز وجل- والإقبال على كتابه: قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]، وشكا رجلٌ للحسن قسوةَ قلبه، فقال له: "أَذِبْه بالذكر"، وقال ابن القيم في هذا الصدد: "صدأ القلب في أمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: الاستغفار والذكر"، قال -رحمه الله-: "الذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك؛ لا حياة له إلا به"، وقال ذا النون -رحمه الله-: "وحياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب".
ثانياً: تلاوة القرآن: قال -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الزمر: 23]، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب ...فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها".
ثالثاً: كان من دعاء النَّبي -صلى الله عليه وسلم- التعوذ من جمود العين، وعدم خشوع القلب، كما في حديث زيد بن أَرْقمَ، وفيه: "كان رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"(رواه مسلم).
اللهم أغث بلادنا بالأمطار والخيرات، وقلوبنا بالإيمان والهدى يا حي يا قيوم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم