عناصر الخطبة
1/أهمية القصص القرآنية 2/الحكم المستفادة من سؤال سليمان عليه السلام عن الهدد 3/قاعدة مهمة في العقاب 4/الدروس المستفادة من رد الهدد على سؤال سليمان عليه السلام 5/حكم تولية المرأة للمناصب العامة 6/خطورة تزيين الشيطان للباطل 7/حكمة الهدد في إنكاره على قوم ملكة سبأ 8/تثبت سليمان عليه السلام من كلام الهدد 9/بعض الدروس والعبر المستفادة من قصة الهدد مع سليمان عليه السلاماقتباس
في يوم من الأيام وأثناء تفقده لجيشه من الجن والإنس والطير، لم يقع بصره على الهدهد، فتساءل: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ) [النمل: 20]؟ لأنه لم يرسله في أمر، ولم يأخذ منه إذنا؛ كما هو حق الرئيس على المرؤوسين: واجبه أن يتعرف على أحوالهم، وأن يحرص على حمايتهم، وتوفير الأمن من الجوع والخوف، وواجبهم أن يطيعوه من غير معصية، وأن ينصحوا ويخلصوا، وأن يتعلموا ويجدوا، وما نهاهم عنه يجتنبونه، وما أمرهم به يأتون منه ما يستطيعون.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فحديثنا اليوم عن: "قصة الهدهد مع نبي الله سليمان -عليه السلام-":
ويحفل القرآن الكريم بالقصص، فيذكر لنا: قصص الأمم السابقة مع أنبيائهم، كذلك يذكر لنا قصصا كثيرة أخرى؛ فيذكر لنا: قصة النملة مع سيدنا سليمان -عليه السلام-.
ويذكر لنا: "قصة الهدهد مع سيدنا سليمان" أيضا؛ لأن الله أعطاه معرفة منطق الطير، وهي قصة عجيبة، ترينا معرفة الحيوانات للخالق -سبحانه -، وتوحيده، وأنهم يتعجبون من الإنسان، الذي أعطاه الله العقل لمعرفته، ومع ذلك يعبد غيره.
والقصص القرآني: لم يسقه الله -سبحانه وتعالى- لمجرد التسلية، بل هو قصص مقصود، لما يحوي من العبرة والعظة، ولما يتضمنه من خوارق ومعجزات، لا يمكن أن تصدر إلا عن الخالق القادر -سبحانه-.
ثم إنه القصص الحق، مثل سائر ما جاء في القرآن الكريم الذي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].
وبالنسبة لما جاء في القرآن الكريم من قصة الهدهد مع سليمان -عليه السلام-، فقد جاءت في أعقاب قصة سابقة، هي بدورها تدعو إلى العجب والانبهار، وفي الوقت نفسه تدعو إلى الإيمان بعظيم قدرة الله، وإعجازه في كل ما خلق، وبخاصة فيما أيد به أنبيائه من خوارق؛ لتأكيد الحق الذي دعوا إليه.
وقد اقتضت عناية الله -عز وجل- بالإنسان، أن يبصره بواجبه ليقوم به سواء أكان على رأس الجماعة، أم كان واحدا منهم، وضرب الله لذلك الأمثال في أسلوب معجز، لا تخفى إشاراته على اللبيب؛ كما جاء في قصة سليمان -عليه السلام- مع الهدهد؛ يقول الله -تعالى-: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)[النمل: 20-21].
لقد أعطى الله -عز وجل- سليمان، فعلمه منطق الطير، وآتاه من كل شيء.
وقد قام سليمان -عليه السلام- بشكر النعمة وأدى حق الله فيها، ونصح للرعية، فأحسن الجزاء لمن أحسن الأداء، وتهدد بالعقاب المسيء لمن أساء، لتصلح الأمور وتستقيم، ويأخذ كل إنسان حقه حسب شرع رب العالمين.
وفي يوم من الأيام وأثناء تفقده لجيشه من الجن والإنس والطير، لم يقع بصره على الهدهد، فتساءل: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ) [النمل: 20]؟
لأنه لم يرسله في أمر، ولم يأخذ منه إذنا؛ كما هو حق الرئيس على المرؤوسين: واجبه أن يتعرف على أحوالهم، وأن يحرص على حمايتهم، وتوفير الأمن من الجوع والخوف، وواجبهم أن يطيعوه من غير معصية، وأن ينصحوا ويخلصوا، وأن يتعلموا ويجدوا، وما نهاهم عنه يجتنبونه، وما أمرهم به يأتون منه ما يستطيعون.
وكشأن الحاكم العادل، توعد سليمان -عليه السلام- الهدهد بالعقاب إلا أن يأتي بحجة تدل على أن تخلفه كان لمصلحة، ولم يكن إهمالا، ولا تقصيرا، ولا خروجا على الطاعة الواجبة لولي أمر المؤمنين.
وقد يقول قائل: كيف يتهدد سليمان طائرا ضعيفا صغيرا بمثل هذا العذاب الشديد؟
والجواب: أن الهدهد كان جنديا من جنود جيش سليمان -عليه السلام-، ثم إن الذي يؤخذ في العقاب بعين الاعتبار هو الذنب وليس الجسم، أو الحجم، أو أي اعتبار آخر؛ فمن ارتكب إثما طبق عليه العقاب، وأُخِذ بذنبه، بقطع النظر عن كونه صغيرا أو كبيرا، أو شريفا أو وضيعا، مادام مكلفا.
ولذلك قال العلماء عبارة مفيدة ولطيفة في هذا الشأن، وهي: "العقاب على قدر الجُرم لا على قدر الجِرم".
والجُرم: بضم الجريمة وبكسرها الحجم.
لذلك سليمان -عليه السلام- كان حازما، والحزم من صفات القائد والمربي الناجح، ولكنه حزم في غير عنف.
فالأب يجب أن يكون حازما مع أبنائه، والأم كذلك، فهي تسعى دائما لحل مشاكلها مع أبنائها، ولا تنتظر عندما يحضر الأب، فتحكي له، أو تهدد أبنائها بأبيهم وكفى، فإن من واجبها الحزم أيضا تجاه أخطاء أبنائها، وكذلك توجيههم عندما يخطئون، وكذا القائد والمدير والحاكم، وكل مسئول.
ولم تطل غيبة الهدهد، فمكث غير بعيد، وجاء إلى سليمان -عليه السلام-، واثقا من قيامه بواجبه، الذي كان سببا في غيابه، وكانت المفاجأة التي أطلقها الهدهد، وغطت على أمر غيابه، ذلك الخطاب الذي وجهه إلى سليمان -عليه السلام- الذي آتاه الله العلم، بل آتاه الله من كل شيء، حيث قال الهدهد: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل: 22].
(أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) كيف نطق الهدهد بهذه الجرأة؟
إنه يعيش في جو من الحرية، وفي ظل عدالة ملك نبي كريم، فهل يستطيع كل فرد في أمة الإسلام أن يؤدي واجبه؛ كما أداه ذلك الهدهد، بحيث كلما رأى منكرا في الأرض أنكره، وعمل على تغييره، وكلما رأى مخالفة شرعية تصدى لها بالطرق الشرعية، فإن لم يستطع بنفسه قام بإبلاغ من يستطيع تغيير المنكر، فتسلم الأمة من الانحراف؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
(أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) هكذا يخاطب الهدهد نبي الله سليمان، بهذا الأسلوب الذي يكشف عن بديع صنع الله، ولطيف حكمته، فسليمان الذي آتاه الله ملكا وعلما وحكما، يأتيه الهدهد ليخاطبه بلا مواريه ولا لف ولا دوران: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ).
ويلمح في هذه العبارة عدم ممالأة المرؤوس للرئيس، فلكل وظيفته، ولكل عمله، ولكل علمه.
ولتعلم -أيها المؤمن-: أنه مهما أوتي الإنسان من العلم، فهناك من هو أعلم منه ففوق كل ذي علم عليم، وصدق الله القائل: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء: 85].
ويبدو أن الهدهد ليس فقط مجرد وسيلة أمينة، لنقل الخبر وإعلامه، بل إنه وسيلة إعلامية تنقل الخبر بصدق، ثم تقوم بتحليله، وتوضيح أبعاده.
ثم ليس ذلك أيضا فحسب، بل يأتي دور النقد الهادف، الذي يصنع الحل الأفضل لما ينبغي أن يكون، وذلك كله واضح من الآيات التي تحكي عن الهدهد في خطابه لسليمان -عليه السلام-، حتى منذ البداية، وهو يقدم الخبر، بهذه الإثارة المشوقة، ليلفت الأنظار إلى خطورة هذا الأمر العظيم.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل: 22-26].
قال الهدهد في البداية: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ).
فقدم ذكر المرأة على الرجال ليعبر بفطرته عن مدى دهشته، وتعجبه من هذا الأمر الغريب.
وقد أجمع فقهاء الإسلام على أن المرأة لا يجوز لها أن تتقلد منصب الولايات العامة.
وانظر إلى عبارتهم في تعليل عدم جواز ذلك: "لا يجوز للمرأة أن تبرز إلى المجالس وتخالط الرجال أو تفاوضهم".
فهم مثل هدهد سليمان لم يكونوا يتصورون أنه يمكن للمرأة في يوم من الأيام أن تترك بيتها، وتتعامل مع الأجانب والأغراب، فكيف بهم إذا عاشوا في زماننا هذا حيث خرجت المرأة سافرة تزاحم الرجال في كل ميدان؟!
وقد استشهد الفقهاء على عدم جواز تولي المرأة منصب الخلافة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة".
وقد يقول قائل: إنه في بعض الدول المتقدمة تحكم النساء الرجال!.
والجواب على ذلك: أن المقصود من الفلاح في الحديث النبوي هو المعنى الشرعي، وهو تحصيل خيري الدنيا والآخرة معاً.
لذا لا يلزم من ازدهار الملك أن يكون القوم في طاعة الله، أو أنهم يعملون ما فيه رضاه، لكن من لم يكن في طاعة الله فإنه ليس من المفلحين، ولو كان حاله في الدنيا أحسن حال.
ثم إنهم في الغرب لا يُحَكِّمون شرع الله في أمورهم، بل يخالفونه ويحكمون أهوائهم، فهم قد أباحوا الشذوذ الجنسي بالقانون، فلا يستغرب منهم إذاً أن يولوا أمورهم امرأة.
وانظر إلى مملكة سبأ فمع أنهم أوتوا من كل شيء، وبلغوا في التقدم المادي شأنا عظيما إلا أنهم في الجانب الروحي قد انتكسوا، فعبدوا الشمس التي سخرها الله من أجلهم، الأمر الذي جعل الهدهد يتعجب، فقال غاضبا: (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) [النمل: 24].
(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ).
والخطورة في تزيين الشيطان لعمل الإنسان الضال: أنه يجعله يظن أنه على حق، وأنه يدري مع أنه في الحقيقة لا يدري.
ومن الناس من يدري ويدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعوه، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطان فاحذروه.
أخطر ما في الضلال والانحراف: أن المنحرف يظن أنه على صواب، وأن الناس كلهم على ضلال.
وهو بهذه الطريقة قد قطع على نفسه طريق الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى-، لذا فهو لا يقبل نصيحة ولا موعظة، والسبب: (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)[النمل: 24].
لذلك استمر الهدهد في كلامه، وهو غاضب جدا من قوم سبأ الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، قائلا متعجبا؛ كما حكى القرآن عنه: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) [النمل: 25].
ثم أقر بالوحدانية لله رب العرش العظيم، فجهر بتوحيد الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات في عبارة واحدة لا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف فيها: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[النمل: 25].
فيا للهدهد من موحد ليس في توحيده دخن ولا نقص، ولا في إيمانه خلل.
ولو أنّ هذا الكلام صدر من إنسان حكيم لأشاد الناس ببعد نظره، ودقة تجاربه، وعظيم حكمته، فكيف بنا، وهذا الكلام يصدر عن هدهد؟
إنها قدرة الله الذي أنطق الطير، وأشهده بعظيم قدرته، وبالغ حكمته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النــور: 41].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: نعود إلى استكمال هذه القصة الجميلة لنبي الله سليمان مع الهدهد.
هدأت نفس سليمان -عليه السلام- من جهة الهدهد، فلا يستطيع الآن أن ينزل به العقاب كما لا يمكن تبرأته بمجرد أقواله، ولا بد من التحقيق:
فإما يأتي الهدهد بدليل صدق على ما يقول فتبرأ ساحته ويُكرَّم.
وإما يعجز عن إقامة الدليل فينفذ فيه الوعيد: (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) [النمل: 27-28].
وأصبح الهدهد من ساعتها سفيرا للملك النبي يذهب بالأخبار ويجيء، وكان له دور عظيم قل أن يقوم به بشر.
ويذهب الهدهد هذه المرة مكلفاً من قبل سليمان -عليه السلام- ليستطلع حقيقة الأمر، وينفذ الهدهد المهمة، فيلقي كتاب سليمان إلى الملكة، وينفذ الأمر بإحكام، فيختفي عن الأنظار-أنظار الملكة وقومها- ولكنه يراقبهم، ليرى ما سيكون منهم، عملا بأمر سليمان -عليه السلام-: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) [النمل: 28].
ويرجع الهدهد إلى سليمان -عليه السلام-، وينقل إليه ما شاهده.
والحوار الذي دار بين الملكة وقومها، وما اعتزمت على فعله الملكة، من تقديم الهدايا إلى سليمان -عليه السلام-، الأمر الذي جعل سليمان -عليه السلام- يعد لكل شيء عدته.
ومع معنى الآيات في عرض أحداث القصة إلى خاتمتها، ينتهي الأمر، ببلقيس ملكة سبأ، فتعترف بمدى ما كانت عليه من ضلال وتنطق بالحق قائلة: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل: 44].
ويرجع الفضل في هذا الإيمان بعد فضل الله إلى هذا الهدهد، الذي غاب عن سليمان -عليه السلام- فترة، ثم جاءه من سبأ بنبأ يقين.
وهنا نلفت النظر إلى الإعجاز القرآني في اختيار جنس الهدهد بالذات دون أجناس الطير الأخرى، فالهدهد قريب في لفظه ومعناه من الهدى والهداية، ولذلك جعله الله سببا اهتدت به مملكة سبأ إلى الإسلام، والهدهد طائر رقيق، جميل المنظر، يحمل على رأسه تاجا من الريش يسر ،الناظرين وصدق الله -تعالى-: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31].
وتدل الآيات أيضا على أن الهدهد قد نفذ بدقة وإحكام، ما أمره به سليمان -عليه السلام-.
وفي ذلك عبرة وعظة، يسوقها إلينا القرآن الكريم، فالصدق في الإخبار يخلص الإنسان من العقاب، ويسلكه مسالك الصادقين، ويهديه إلى جنات النعيم.
ولو أننا التزمنا جميعا بما توحي به هذه الحادثة، التي أوردها القرآن الكريم لحصلنا على خير كثير.
فولي أمر الناس يحرص على معرفة أحوالهم، ويحسن الجزاء ثوابا للمحسنين، وعقابا لغير المحسنين.
وإذا ما وصلت إليه أخبار تحراها، وعلم حقيقتها، وكافأ الصادق في أخباره، وأولاه ثقته، وأبعد الكاذب؛ لأنه ليس أهلا للثقة، ولا لحمل الأمانة.
وعلينا نحن الأمة: أن نلتزم، فنقوم بالواجب، من تلقاء أنفسنا، دون حاجة إلى رقيب.
إن الهدهد قام بواجبه، ونصح لولي أمره وأخلص في عمله، بحيث يصدق فيه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إجابته لجبريل -عليه السلام- عندما سأله عن الإحسان قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
بل إن كلماته الواردة في الآية دليل على أنه يراقب في عمله مولاه الذي يخرج الخبء.
"والخبء هو كل خبيئة في السموات والأرض" كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) [النمل: 25].
وإذا كانت الحكمة تساق في آيات القرآن على لسان الطير، الذي يؤدي الأمانة فكيف بالإنسان موضع العناية من الله، الذي كرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا هل يكون أقل من الطير الذي يؤدي واجبه، ويخلص في عمله؟
ولا شك أننا سنتخلص من التبعات، إذا نفذنا أوامر الله وتوجيهاته، التي تصلح كلا” من الراعي والرعية، وتسلك بالجميع مسالك النجاة، وتحقق السعادة في الأولى والآخرة، وتعود بالخير والرفاهية على الجميع كما هو وعد الله الذي لا يتخلف للمؤمنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينهمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْد خَوْفهمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْد ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور: 55].
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم