عناصر الخطبة
1/ نعمة البيوت في الدنيا 2/ عناء البناء والعمار 3/ شقاء الناس في الدنيا في سبيل امتلاك بيت 4/ سرد الأعمال التي من ثوابها بناء بيت للعبد في الجنة.اقتباس
كل هذا العناء في تحصيل هذه البيوت وهي معرضة للبِلى والزوال، والحرق والهدم، والتشقق والتصدع، وإن سلمت هذه البيوت من ذلك كله فلن يسلم أصاحبها من الموت والبلى.. كم حملت هذه البيوتُ وعمارتُها أصحابَها من الهمومِ والغمومِ والأرقِ والقلقِ!! وكم سكبَ بعضُهم ماءَ وجهِه طالباً لقرضٍ!! أو حَمَّلَ نفسَه حمالَة الدينِ وهمه وذلة!!.. هذه بعض الأعمال الصالحة الميسورة وُعِدَ عاملها ببيت في الجنة، حري بنا عملها، وهي يسرة على مَن وفَّقه الله تعالى...
الخطبة الأولى:
إنّ الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِراً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد. أيها الإخوة: حُلُم كلِ رجلٍ في هذه الحياة: أن يمتلك بيتاً.. وربما سموه بيت العمر.. وكم يشقى طالبوه في هذه الحياة ليبنوه! بل وكم يخسرون من المال والجهد والفكر ليمتلكوه!!
ونعمة البيوت من نعم الله الكبيرة التي امتنَّ بها عليهم فقال –سبحانه- مذكّراً عباده بهذه النعمة، مستدعياً منهم شكرها والاعتراف بها: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) [النحل:80] في الدور والقصور ونحوها تكنُّكم من الحرِ والبردِ، وتستركم أنتم وأولادَكم وأمتعتكم، وتتخذون فيها الغرفَ والبيوتَ التي هي لأنواعِ منافعِكم ومصالحِكم، وفيها حفظٌ لأموالِكم وحُرَمِكم، وغيرِ ذلك من الفوائد المشاهدة..
أحبتي: هذه البيت الحلم لم يأتِ هكذا بل أضنى صاحبَه بناؤُه.. وبذل في بنائِه وتحسينه الفكر والمال، وأطبق الناس على أن بناء البيوت من أشق الأعمال، حتى جعلوه مثلاً في العناء والتعب فقال قائلهم: "العمار قطعة من نار"، وما أن يسكنه بانيه بعد هذا العناءِ والتعب، إلا ويطرأ عليه طارئُ التبديل والتغيير يقول: ليتني فتحت باباً هنا، وليتني أزحت هذا الجدار إلى هنا.. وغير ذلك كثير.
كل هذا العناء في تحصيل هذه البيوت وهي معرضة للبِلى والزوال، والحرق والهدم، والتشقق والتصدع، وإن سلمت هذه البيوت من ذلك كله فلن يسلم أصاحبها من الموت والبلى، قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].
كم حملت هذه البيوتُ وعمارتُها أصحابَها من الهمومِ والغمومِ والأرقِ والقلقِ!! وكم سكبَ بعضُهم ماءَ وجهِه طالباً لقرضٍ!! أو حَمَّلَ نفسَه حمالَة الدينِ وهمه وذلة!!
ومع ذلك كله مِن الناس مَن يولد ويموت ولم يملك بيتاً مع أنه عاش في هذه الدنيا عشراتِ السنين..
أيها الإخوة: لنقف هنا.. وننظر هناك.. لكم أن تقولوا أين.؟ أقول هناك في دارٍ غير دار الدنيا هناك في الآخرة.. هناك بيوتٌ أحسن اللهُ وصفَها وأثنى على مواد تشييدها تخيلوا بيتاً بُني ب"لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ -أي: طينها الذي يكون بين اللبنتين، أو ترابها الذي يخالطه الماء-، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ دَخَلَهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ لَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ" (رواه الترمذي وأحمد والطبراني في الكبير عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وقال الألباني: صحيح بشواهده).
يا الله هل يستطيع الفكر البشري أن يتصورها على الحقيقة؟.. لا أظن ذلك فالتصور غالباً ينتج من مخزون المشاهدات. ثم كيف نتخيلها ورَسُولُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "قًالَ اللَّهُ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة: 17]" (رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
ومع هذا المقام الرفيع والتخيل المستحيل يسر الله تعالى سُبلَ تحصيل بيوتها فلا قرض ولا دين ولا همّ ولا غمّ.. فقد أتاحها الله لجميعِ عبادِه امتلاكَها، وأبان لهم طُرُقَ الحصولِ عليها، وسهّلها حتى جعل الوصول إليها أحياناً بعمل يسيرٍ في جهدِه ووقتِه.. ولذلك المؤمن تسمو نفسه وتشتاق روحه ليبني له بيتاً وقصراً في الجنة.
أيها الإخوة: هذه بعض الأعمال الصالحة الميسورة وُعِدَ عاملها ببيت في الجنة، حري بنا عملها، وهي يسرة على مَن وفَّقه الله تعالى.
من ذلك بناء المساجد، أو المساهمة في بنائها، فعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ [أي: المسجد النبوي]، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ" (رواه مسلم).
ورغَّب رسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببناء المساجد والمساهمة بها مهما كانت المساهمة قليلة، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» [يعني المكان الذي تضع فيها القطاة بيضها] (رواه ابن حبان وغيره وصححه الألباني).
ومن الأعمال التي تكون سبباً في بناء البيوت في الجنة، ترك المِرَاء، وترك الكذب وحُسن الخلق.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَا زَعِيمٌ [ضامن] بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ [ما حولها] الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ [الجدال]، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ" (رواه أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه وحسنه الألباني).
لقد ضمن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيتاً في ربض الجنة لمن ترك الجدال وإن كان الحق معه، وبيتاً في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيتاً في أعلى الجنة لمن حسّن خلقه، فطوبي لمن حسن خلقه.
ومن ذلك صلاة اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة. فعن أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (رواه مسلم).
وكذا قال رواة الحديث.
وتفسير هذا الحديث ما رَوَته عَائِشَةُ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنَ السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ: أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الفَجْرِ" (رواه الترمذي وصححه الألباني).
ومن أسباب بناء البيوت في الجنة: صلاة الضحى أربعاً، وقبل الظهر أربعاً: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى الضُّحَى أَرْبَعًا، وَقَبْلَ الْأُولَى [صلاةُ الظهر فيما يبدو والله أعلم] أَرْبَعًا, بُنِيَ لَهُ بِهَا بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ" (رواه الطبراني عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه وحسنه الألباني).
ومن الأسباب كذلك دعاء السوق: قَالَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ حِينَ يَدْخُلُ السُّوقَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
اللهم وفقنا للحسنات، وجنبنا السيئات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد ببرهانه؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
ومن أسباب بناء البيوت في الجنة: الصبر على موت الولد، فعَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلَانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ؟ قُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ" (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
ومن الأسباب كذلك سدُّ الفُرجة في الصف في الصلاة: عَن عائِشَةَ -رَضيَ اللهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن سَدّ فُرجَةً بَنَى الله لَهُ بَيتًا فِي الجَنَّةِ، وَرَفَعَهُ بِها دَرَجَةً" (صححه الألباني).
اللهم ....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم