بلال بن رباح -رضي الله عنه-

ناصر بن محمد الأحمد

2013-02-02 - 1434/03/21
عناصر الخطبة
1/ نشأة بلال رقيقاً في مكة 2/ إسلام بلال وتجشمه المشاق والعذاب في سبيل الدين 3/ أبو بكر يعتق بلالاً 4/ بلال مؤذن النبي 5/ مواقف لبلال ومعه 6/ بلال على ظهر الكعبة 7/ موت النبي وحزن بلال عليه 8/ أذان بلال في بيت المقدس يوم الفتح 9/ وفاة بلال 10/ دروس وعبر في ترجمة بلال.

اقتباس

مَن مِن المسلمين لا يعرف بلالاً؟ لا نكون مبالغين إذا قلنا: بأنه منذ أن بدأ الإسلام إلى اليوم وإلى ما شاء الله من بين كل عشرةٍ من المسلمين سبعة على الأقل يعرفون بلالاً، وإنك لتسأل الطفل الذي لا يزال في سنوات دراسته الأولى في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا، أو في أقاصي الدنيا من بلال يا غلام؟ فيجيبك: إنه مؤذن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وحينما تبصر...

 

 

 

 

إن الحمد لله..

أما بعد: إن جيل الصحابة -رضي الله عنهم- خير جيل ظهر على وجه الأرض، هم الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكي يعلمهم ويوجههم، فتلقوا تلكم التربية النبوية الكريمة حتى خلت نفوسُهم من حظ نفوسِهم.

ومن بين الصحب الكرام صحابي جليل أحبه الله وأحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هو بلال بن رباح، اسم يحبه المؤمنون، وصوت تعشقه آذان الموحدين، ولا بد للمسلم أن يولد ميلادين، وأن يعيش حياتين، الميلاد الأول يوم ولدته أمه، والثاني يوم يولد في هذا الدين، وبلال -رضي الله عنه وأرضاه- ولد ميلادين وعاش حياتين، وُلد مولى وأُخذ إلى مكة، وعاش فيها عبداً ذليلاً، وفجأةً صدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحق، هناك من على الصفا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وذهب -عليه الصلاة والسلام- إلى سادات مكة يدعوهم للإسلام، فكفروا به، وكذبوه، وآذوه وشتموه، فأنزل الله تعالى عليه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [سورة الكهف: (28)].

بدأ -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى الله -عز وجل-، وكان بلال يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه ولا أمل له في غده، فبدأت أنباء الرسول -صلى الله عليه وسلم- تنادي سمعه حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها، فرأى بلال محمداً -عليه الصلاة والسلام- فأحبه، والسر الذي زرعه النبي -صلى الله عليه وسلم- في القلوب هو الحب، لقد فجر نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنهار الحب في قلوب أصحابه، فأحب بلال محمداً -عليه الصلاة والسلام- حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك بحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يأكل وشخص النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام عينيه، ويشرب والرسول -صلى الله عليه وسلم- ماثل أمامه، ولسان حاله يقول:
أحبك لا تسأل لمـاذا لأنني *** أحبك هذا الحب رأي ومذه

فلما أحبه -رضي الله عنه- شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فانتشر خبر إسلامه في فجاج مكة، فما أن ذاع خبر إسلامه حتى صارت الأرض تدور برؤوس أسياده، تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور، وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أمية بن خلف، فاجتمع عليه أهل الكفر، وأذاقوه أليم العذاب ليترك لا إله إلا الله، فأبى، ضربوه، قيدوه بالحبال، جروه من قدميه والحصى يأكل من لحمه وعظمه، ألقوه في الصحراء في حر الظهيرة، والشمس ملتهبة ليعود إلى الكفر، فأبى، وقالها كلمة خالدة أبدية: "أحدٌ أحد" لطموه على وجهه، فارتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً: "أحدٌ أحد" ضربوه بالسياط حتى تمزق جلده، وهو يقول: "أحدٌ أحد".

إنها إرادة ينثني لها الحديد، إنها المعجزة الكبرى التي أتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف حول هؤلاء الأعراب والموالي من أناس فقراء مستضعفين إلى كتائب تزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.

لقد أعطى بلال درساً بليغاً للذين في زمانه وفي كل زمان، درساً فحواه أن حرية الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهباً ولا بملئها عذاباً، لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة، فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عُريان، ثم يأتون بحجر متسعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقى به فوق جسده وصدره، ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم حتى رقت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة لا غير، تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره، ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة التي يستطيع أن يلقيها بلال من وراء قلبه، ويشتري بها حياته ونفسه دون أن يفقد إيمانه، حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة رفض بلال أن يقولها.

ويمر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أمام بلال وهو يعذب، فقال لسيده: أمية بن خلف أشتريه منك يا أمية، فقال أمية: خذه ولو بعشرة دنانير، قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته منك، فاشتراه الصديق -رضي الله عنه- وأعتقه لوجه الله، فأنزل الله قوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [سورة الليل: (17-21)].

أعتقه الصديق ثم ذهب به إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممزق الثياب يتساقط دمه ولحمه من شدة التعذيب، فأخذه -عليه الصلاة والسلام- واحتضنه كما تحتضن الأم طفلها، فصار بلال سابع سبعة في الإسلام، ثم بدأت قوافل المسلمين تهاجر إلى المدينة، فكان بلال -رضي الله عنه- ممن ترك مكة وهاجر إلى مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهناك في المدينة عيّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤذناً فأصبح بلال أولُ مؤذن في التاريخ، ويالها من وظيفة ما أشرفها! ومن منصب ما أكرمه! فانتشر ذكره في الآفاق منذ ذلك الوقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

مَن مِن المسلمين لا يعرف بلالاً؟ لا نكون مبالغين إذا قلنا: بأنه منذ أن بدأ الإسلام إلى اليوم وإلى ما شاء الله من بين كل عشرةٍ من المسلمين سبعة على الأقل يعرفون بلالاً، وإنك لتسأل الطفل الذي لا يزال في سنوات دراسته الأولى في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا، أو في أقاصي الدنيا من بلال يا غلام؟ فيجيبك: إنه مؤذن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الإسلام بلالاً، فاعلم أنه -رضي الله عنه- لم يكن قبل الإسلام أكثر من عبد رقيق يرعى إبل سيده على حفنات من التمر، وكان من المحتوم عليه لولا الإسلام أن يظل عبداً تائهاً في الزحام حتى يطويه الموت، ويطوّح به إلى أعماق النسيان، لكنه عظمة هذا الدين الذي آمن به بوأه في حياته، بل وفي تاريخه مكاناً عالياً بين عظماء الإسلام.

إن كثيرين من علية البشر وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلالٌ -رضي الله عنه-، وكان كلما سمع كلمات المدح والثناء تُوجّه إليه حنى رأسه وغض طرفه، وقال: "إنما أنا حبشي كنت بالأمس عبداً" إنه بلال بن رباح مؤذن الرسول والإسلام، إحدى معجزات الإسلام العظيم، فكان كلما حان وقت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر الله أكبر، فتنتفض أجساد المؤمنين من صوته، وكان كلما أهمّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرٌ، أو أصابه كربٌ نادى بلال: «أرحنا بها يا بلال» فيؤذن بلال للصلاة، وكان -رضي الله عنه- يأتي للرسول -صلى الله عليه وسلم- بماء الوُضوء، وكان يأخذ حذاءه ويرى أن ذلك شرف لا يعدله شرف، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحبه ويدنيه منه، وسرى هذا الحب في قلب بلال فعوضه عن كل شيء، عن أهله في الحبشة، وعن أقربائه وجيرانه، بل وتاريخه كله هناك.

وفي ذات يوم قال -عليه الصلاة والسلام- لبلال: «حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دُف نعليك في الجنة» الله أكبر، أي جائزة أعظم من أن يعرف الإنسان أنه من أهل الجنة؟ وهو لازال يعيش في هذه الدنيا؟ فيجيب بلال ويقول: "ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي"، وكّله النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة من الغزوات بحراسة الجيش، وقال: «من يوقظنا للصلاة؟» قال بلال: أنا يا رسول الله، فنام الجيش وقام بلال يصلي طيلة الليل، فلما كان قبيل الفجر حدّث نفسه بأن يضطجع قليلاً ليستريح فاضطجع فغلبته عيناه فنام، وأتت الصلاة والرسول -صلى الله عليه وسلم- نائم والجيش نائم، وبلال نائم، حتى طلعت الشمس.

وكان أول من استيقظ بعد طلوع الشمس أبو بكر -رضي الله عنه-، فرأى هذه المأساة التي حدثت لأول مرة، ولكن في ذلك حكمة وهي عذر من غلبته عيناه فلم يستيقظ حتى طلعت عليه الشمس، ويستيقظ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ويقترب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويستحي أن يقول له: قم للصلاة، فأخذ عمر يقول: الله أكبر الله أكبر، ويعيد التكبير حتى استيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعا مؤذنه بلالاً، وأجلسه أمامه، وقال له: "ما أيقظتنا؟" قال: "يا رسول الله أخذ بعيني الذي أخذ بعينك" فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أمره أن يؤذن بعد طلوع الشمس، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه.

ومرّة كان الصحابة -رضي الله عنهم- في مجلسٍ فإذا أبو ذر -رضي الله عنه- يعيّر بلالاً بأمه، قال له: يا ابن السوداء! كلمة غريبة خرجت من أبي ذر -رضي الله عنه- ليست من الإسلام في شيء، وهل في شريعة الإسلام أحمر وأسود وأبيض؟ من هو الكريم عندنا؟ ومن هو المعظّم في هذه الملة؟ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [سورة الحجرات (13)] إننا لا نُعرف بألواننا، ولا بأجناسنا، ولا بلغاتنا، ولا ببلداننا، إنما نُعرف بلا إله إلا الله، وبمقدار عبوديتنا لله -عز وجل-، سمع بلال هذه الكلمة من أبي ذر: يا ابن السوداء، فغضب -رضي الله عنه- وقال له: والله لأرفعنّك إلى خليلي -صلى الله عليه وسلم-، ورفع أمره إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فغضب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- غضباً شديداً، وقال لأبي ذر: «أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية».

وتمضي الأيام ولم يزدد بلال إلا رفعةً ومحبةً عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، يصلي العيد ثم يتكئ على بلال، ويذهب فيخطب في النساء، وفي اليوم المشهود يوم فتح مكة يدخلها النبي -صلى الله عليه وسلم- في عشرة آلاف من أصحابه، يدخل فاتحاً منتصراً فيرى الأصنام التي كانت تعبد من دون الله فيشير إليها بعصاه فتتناثر وتتساقط وهو يردد قول الله تعالى: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [سورة الإسراء: (81)] وتحين صلاة الظهر ويجلس الناس جميعاً في صرح الكعبة، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أين بلال؟» قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «اصعد الكعبة وأذن فوقها».

فيا سبحان الله! أليس هذا انتصاراً للضعفاء؟ أليس هذا عدلاً بالمساكين؟ أليس هذا رفعاً لرؤوس المستضعفين؟ أليس هذا هو العدل بعينه أن يقوم من كان يعذب قبل فترة في هذا المكان، وأمام صناديد قريش أن يعتلي بيت الله بأقدامه ليهتف بنداء الحق؟ أين أبو جهل؟ في النار، أين أبو لهب؟ في النار، أين أبو طالب؟ في النار، وصعد بلال واستوى على الكعبة ليخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بلال بكى الناس، ومن الذي لا يرى هذا المشهد ويرى هذه الصورة، ويسمع هذا الصوت، ويعيش هذه التفاصيل ثم لا يبكي، عجيب يوم الفتح الأكبر، الفاتح رسول الله، والدين الإسلام، والمؤذن بلال، ومن بلال؟ المولى الضعيف، الذي كان عبداً رقيقاً قبل فترة قصيرة في عمر الزمن، وأين يؤذن؟ على سطح الكعبة المشرفة.

لقد بكى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أذّن بلال، سالت دموعه لأنه تذكر المعاناة، وتذكر الأيام العصيبة التي عاشتها هذه الطائفة المؤمنة، وتذكر فضل الله عليه وإنعامه بهذا النصر المبين، (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) [سورة النصر: (2)].

لقد انتصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وها هو بلال الذي كان معذباً مهاناً أصبح المؤذن الأول في التاريخ، وها هو صوت بلال -رضي الله عنه- يجلجل في هضبات مكة وأوديتها، يزلزل الدنيا بلا إله إلا الله، يرجع الصحابة بعد الفتح إلى المدينة، وتمضي الأيام ويموت النبي -صلى الله عليه وسلم-، يموت الإمام ويحزن عليه المؤذن حزناً شديداً، ولك أن تتصور رجلين متحابين، إمام ومؤذنه عاشا الحياة حلوها ومرها، يسرها وعسرها، ليلها ونهارها، وفجأةً يموت الإمام -عليه الصلاة والسلام- تحقيقاً لقول الله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [سورة الزمر: (30)].

لقد أظلمت الدنيا في عين بلال -رضي الله عنه- أمات النبي؟ نعم، إلاّ أن دينه لم يمت، وعلى المؤذن أن يستكمل الطريق، ومع بزوغ الفجر قام بلال ليؤذن، قام ليؤدي مهمته التي كلفه بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبدأ بلال في الآذان، الله أكبر الله أكبر، ثم ينظر إلى المحراب فيجده خالياً من الإمام، فيلتفت إلى بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخرج منه للصلاة، ولكنه ليس فيه، أصبح بلال وحيداً لا شيخٌ ولا إمام، فكيف يستطيع أن يكمل أذانه؟ وبأية عبارة يؤديه؟ أين قلبه؟ أين كيانه؟ أين روحه؟ ثم تحامل على نفسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أتته قاصمة الظهر، أتت المعضلة التي لا يستطيع بعدها أن يتكلم ولو بكلمة واحدة، قال: أشهد أن محمداً ولم يستطع أن يكمل، فبكى بكاءً شديداً، وبكى الناس جميعاً في بيوتهم في المدينة، بكى المؤذن، اختنق صوته، ارتفع نشيجه، لم يستطع أن يكمل فنـزل ورمى بجسمه على الأرض، وحضر الصحابة -رضي الله عنهم- ليشاهدوا ذلك المنظر، منظر المؤذن وهو ملقاً على الأرض، يبكي بكاء الثكلى، ما لك يا بلال؟ قال: لا أؤذن، أتاه أبو بكر خليفة رسول الله فقال: مالك يا بلال؟ قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا سبحان الله من يؤذن لنا؟! قال: اختاروا لكم مؤذناً، وحمل إلى بيته -رضي الله عنه-.

بنتُم وبنّا فمـا ابتلت جوانحنا *** شـوقاً إليكـم ولا جفـت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنـا *** يقضـي علينا الأسى لولا تأسّينـا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء *** ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا

ثم جاء بلال إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فقال له: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله» فقال أبو بكر: فما تشاء يا بلال؟ قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى الموت، قال أبو بكر: بل أريدك معي في المدينة، فقال بلال: أأعتقتني لله أو لنفسك؟ قال أبو بكر: بل لله، قال: فائذن لي في الغزو، فأذن له، فذهب بلال إلى الشام والتحق هناك بجيوش المسلمين.

بارك الله لي...

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، أما بعد: أعفى أبو بكر -رضي الله عنه- بلالاً من الأذان، وانطلق بلال إلى أرض الشام، ونذر نفسه للجهاد في سبيل الله، فاتحاً مقاتلاً يجاهد المشركين، ويعلم الناس دينهم، وينتظر المنية حتى يلحق بحبيبه -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.

وتمر الأيام، وتمضي السنين، ويموت أبو بكر -رضي الله عنه-، ويتولى الخلافة من بعده عمر، وبلال ما يزال مرابطاً في أرض الشام مع جيوش المسلمين، ويفتح الله على المسلمين بيت المقدس، ويأتي الفاروق عمر بن الخطاب خليفة المسلمين من المدينة بدابته ومعه مولاه ليستلم مفاتيح بيت المقدس، فيدخلها بثوبه المرقع، ولكنه يحمل الدنيا في يديه، ويجتمع عدد من كبار الصحابة من أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان أساتذة الدنيا كلها، جاءوا لحضور هذا اليوم المشهود، وتحين صلاة الظهر، فيتذكر عمر -رضي الله عنه- تلك الأيام الخوالي التي عاشوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول عمر لبلال: أسألك بالله يا بلال أن تؤذن لنا؟ فقال بلال: اعفني يا أمير المؤمنين، فقال الصحابة: اتق الله يا بلال، سألك أمير المؤمنين، فقام بلال يتحامل على جسمه، فقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته بالأذان، فإذا بصوت عمر -رضي الله عنه- يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة، وبكى الجيش كله، وارتج المسجد الأقصى بالبكاء.

إن بلالاً -رضي الله عنه- ذكرهم شيئاً، ذكرهم تاريخاً، ذكرهم معلماً وقائداً، أحبهم وأحبوه، فما أعظم الذكريات، وما أجمل تلك الأيام التي عاشها أولئك المؤمنون يتمتعون برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتلقون عنه الوحي من السماء، وعاد بلال إلى الشام، ليكمل طريقه الذي أخذه على نفسه، الجهاد في سبيل الله، وانقطع عن المدينة، وأصبح شيخاً كبيراً، وفي ليلة من الليالي وبينما هو نائم، إذا به يرى حبيبه ونبيه -صلى الله عليه وسلم- في المنام، رأى المؤذن إمامه بصورته، رآه بنوره، رآه ببشاشته وهو يعاتبه: هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة؟ ما أعظمها من كلمات، هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة؟ استيقظ بلال وسط الليل وتوضأ وصلى ركعتين ثم أسرج راحلته، وركبها قبل الفجر، وذهب إلى المدينة ليزور مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مشى وسط الصحاري والقفار عدة أيام، وصل إلى المدينة ليلاً فوجد الناس نياماً، فأول ما بدأ به المسجد، وأتى الروضة الشريفة، ثم توجه إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فسلم وبكى، وعاش في عالم من الذكريات، فحان أذان الفجر، ولحكمة يعلمها الله تأخر مؤذن المدينة ذلك اليوم، فصعد بلال المنارة وأذن للصلاة، حتى إذا وصل إلى محمد رسول الله انفجر بالبكاء، وقام الناس في المدينة على صوته، أهذا صوت بلال؟ نعم إنه بلال بن رباح، فأخذ الناس يبكون مع بكاء بلال -رضي الله عنه-.

وتتكرر المشاهد ويتلاقى الأحبة، ويأتي بلال من جديد يعانق أصحابه وأحبابه ويعانقونه في مشهد عظيم من مشاهد الحب والوفاء، انتهت مهمة بلال في المدينة، وعاد إلى الشام ليكمل طريقه وهناك وفي أرض الشام أتته المنية -رضي الله عنه-، وعندما حضرته الوفاة صار يقول وهو يحتضر: "غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه" هذا هو الذي غلب عليه وهو يحتضر، وهذا الذي كان يسيطر على مشاعره بعد أن فارق حبيبه -صلى الله عليه وسلم- فاشتاق إلى لقائه، لقد اشتاق المؤذنُ إلى الإمام، "غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه" فصرخت امرأته وكانت بالقرب منه: واويلاه، تقول ذلك لمصيبتها بفراق زوجها، وهو يقول: وافَرحاه، وافَرحاه، إنه فرح حقيقي بقدوم الموت، إنه اشتياق حقيقي للقاء الأحبة، ولقاء الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، ونفسه تغرغر وهو يقول: "غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه".

لقد مات بلال سنة (20) من الهجرة، أي بعد إمامه بتسع سنوات، تسع سنوات على فراق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وحرارة الشوق لم تبرد، بقي طوال هذه المدة وحياته اليومية على السنّة التي تعلمها من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُغيّر قيد أنملة، ولهذا كان ذلك الاشتياق، مات بلال -رضي الله عنه- في بلاد الشام مرابطاً في سبيل الله كما أراد، وهناك وتحت ثرى دمشق رُفات رجل من أعظم رجالات هذا الدين (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [سورة الفجر: (27-30)].

أيها المسلمون: وفي قصة مؤذن الإسلام دروس وعبر:
أولاً: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [سورة الحجرات: (13)] لا فرق لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، فالقرشي الذي عارض الرسالة في النار، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ثانياً: أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة هم رؤوس الأولياء، وصفوة الأتقياء، وقدوة المؤمنين، وأسوة المسلمين، وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين، شرّفهم الله بمشاهدة خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم- وصُحبته في السراء والضراء، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- حتى صاروا خِيَرة الخِيَرة، وأفضل القرون بشهادة المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وما بلال -رضي الله عنه- إلاّ نموذج واحد من آلاف النماذج، فهم خير الأمم سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم، هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم، وشادوا قصور الدين برماحهم، واستباحوا الممالك الكسروية، وأطفأوا الملة النصرانية والمجوسية، وقطعوا حبائل الشرك من الطوائف المشركة العربية والعجمية، وأوصلوا دين الله إلى أطراف المعمورة شرقها وغربها ويمينها وشمالها.

أولئك قوم شيّد الله فخرهم*** فما فوقه فخر وإن عظم الفخر

ثالثاً: إن هذا الدين لا ينتصر بكثرة العدد، ولا يعتمد على أصحاب المناصب والهيئات والأموال، ولكنه يبقى مكانه ويأتي إليه من يحبه، يقول أبو جهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم وهو عبد حبشي؟(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) [سورة الأحقاف (11)] والجواب: (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [سورة الأنعام (124)].

رابعاً: تظهر من قصة بلال -رضي الله عنه- وغيرها من قصص الصحابة -رضوان الله عليهم- حنكة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفته بالفروق الذاتية لكل إنسان واختلاف المواهب الشخصية، والاستعدادات النفسية بين صحابي وآخر، فقد أعطى الأذان لبلال لأنه الأصلح لذلك، وأعطى الراية لخالد لأنه سيف الله المسلول، وأعطى الخلافة لأبي بكر، والقافية والأدب لحسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لزيد، والقضاء وهيئة الاستشارة لعلي (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) [سورة البقرة(60)] وهذا الأمر قد يفوت بعض المربين والدعاة والمعلمين.

خامساً: أن من أراد أن يهدي الناس فليزرع في قلوبهم الحب أولاً، فإذا استطاع ذلك ملك زمام القلوب فليفعل بها ما يشاء، وإن من يتصور أنه سوف يهدي الناس بالغليظ من القول فقد أخطأ سواء السبيل، وقد أفلت الناس من يديه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [سورة آل عمران (159)] إن سر نجاح دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه جعل الناس يحبونه حباً تتقطع له القلوب، وتنقاد له الأجساد، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- أباً لليتامى، ومعيناً للأرامل والمساكين، فأحبته القلوب، وعشقته الأفئدة، وانقادت له الأبدان.

عباد الله: صلوا على الإمام وترحموا على المؤذن. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد... اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين...
 

 

 

 

 

المرفقات

بن رباح -رضي الله عنه-

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات