بلاد الأفراح

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-17 - 1436/02/25
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/أهمية الحديث عن الجنة 2/أبواب الجنة 3/طعام وشراب أهل الجنة 4/صور متفرقة من نعيم أهل الجنة 5/وصف الجنة 6/أعظم نعيم أهل الجنة 7/من هم أهل الجنة؟

اقتباس

إن سألت عن أرضها؛ فتربتها هي المسك والزعفران. وإن سألت عن أنهارها؛ فأَنْهَارٌ: (مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى)[محمد:15]. وإن سألت عن طعامهم؛ ففاكهة: (مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ)[الواقعة: 20- 21]. وإن سألت عن شرابهم؛ فـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله:

 

أما بعد:

 

ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومصداق ذلك في كتاب الله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:17].

 

أيها المسلمون: إن الحديث عن النعيم المقيم، والإيمان الراسخ بالنُزُل الكريم من الغفور الرحيم، هو سلوة الأحزان، وحياة القلوب، وحادي النفوس ومهيجها إلى ابتغاء القرب من ربها ومولاها.

 

الحديث عن الجنة والرضوان لا يسأمه الجليس، ولا يمله الأنيس.

 

فلنتأمل قليلاً في هذا الحديث العظيم: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

 

وليسرح الفكر في شيء من نعيم الجنة من خلال كلام ربنا، وكلام رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، راجياً من الله -جل وتعالى- أن يكون محفزاً للمزيد من العمل والإخلاص.

 

كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن نكون من أهل الجنة بفضله وكرمه، لا بأعمالنا وعباداتنا القاصرة الضعيفة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)[الكهف: 107].

 

وقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن:46].

 

أيها المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم- بأن للجنة ثمانية أبواب، كل باب منها مخصص لصنف من المؤمنين يُدْعون للدخول فيه.

 

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر -رضي الله عنه- بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال نعم وأرجو أن تكون منهم".

 

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-:

 

أبوابها حقٌ ثمانيةٌ أتت *** في النص وهي لصاحب الإحسان

باب الجهاد وذاك أعلاها وبابُ ***  الصوم، يدعى الباب بالريان

ولكل سعىٍ صالحٍ بابٌ ورَبُ *** السعي منه داخلٌ بأمان

ولسوف يدعى المرء من أبوابها *** جمعاً إذا وافى حُلَى الإيمان

منهم أبو بكرٍ هو الصدّيق ذاك *** خليفة المبعوث بالقرآن

 

وأما عن طعام أهل الجنة وشرابهم، فاعلموا أن الناس في الجنة يأكلون ويشربون مما تشتهي أنفسهم؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[المرسلات: 41 - 43].

 

وقال عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[الطور: 17].

 

وهم في تحصيل أكلهم وشرابهم لا يتعبون ولا ينصبون، بل يأتيهم رزقهم وهم جالسون مستريحون، قال الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الحاقة: 19- 24].

 

وقال سبحانه: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ)[الواقعة: 27- 33].

 

ولأهل الجنة خدم لا يؤثر فيهم الزمن، ولا تغيرهم السنون، فهم مخلدون في سن الصبا والوضاءة، كأنهم اللؤلؤ المنثور يطوفون عليهم بأكواب من فضة يملؤونها من عيون الجنة الصافية الطيبة؛ كما قال تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا)[الإنسان: 15- 22].

 

روى مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يتمخطون، ولا يبولون، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير، كما يُلهمون النفس".

 

وعن حكيم بن معاوية جد نهر بن حكيم -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجنة؛ بحر العسل، وبحر الخمر، وبحر اللبن، وبحر الماء، ثم تنشق الأنهار بعد"[أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح"].

 

ونظير هذا من القرآن قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ)[محمد: 15].

 

قال ابن القيم -رحمه الله-:

 

وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم *** ولحوم طير ناعم وسمان

وفواكهٌ شتى بحسب مناهم *** يا شبعة كملت لذى الإيمان

لحمٌ وخمرٌ والنسا وفواكهٌ *** والطيب مع روح ومع ريحان

وشرابهم من سلسبيل مزجه *** الكافور ذاك شرابُ ذي الإحسان

مزج الشراب لهم كما مزجوا هم *** أعمال ذاك المزج بالميزان

 

عباد الله: وأما عن ملابس أهل الجنة، فيقول الله -جل وعلا-: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ).

 

وذكر بعده حليهم، فقال: (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ)[الإنسان: 21].

 

وفي سورة فاطر يقول جل وعلا: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)[فاطر: 33].

 

وقال في الآية الأخرى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ)[الدخان: 51- 54].

 

وقال عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 30- 31].

 

وأما نساء أهل الجنة، فاعلموا -رحمكم الله- أن الله -سبحانه وتعالى- قد وعد عباده المؤمنين بزوجات في الجنة باهرات الجمال، حسنات الخلق، قال تعالى: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)[الرحمن: 70].

 

فالله -سبحانه وتعالى- قد وصفهن بالحسن، وإذا وصف خالق الحسن شيئاً بالحسن، فتصور كيف يكون، وقال تعالى في وصفهن: (وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ)[الواقعة: 22- 23].

 

والمرأة الحوراء، هي: البيضاء.

 

والأعين الحور، هي: الأعين النقيات البياض الشديدات سواد الحدق.

 

واللؤلؤ المكنون، أي الذي لم تسمه الأيدي، ولم يقع عليه الغبار، فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا.

 

فانظر كيف جمالهن ونقائهن وصفائهن؟

 

وقال جل وعلا: (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ)[الواقعة: 35- 38].

 

روى البخاري في صحيحه من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غدوة في سبيل الله أو روحة، خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم، أو موضع قدمٍ من الجنة، خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة –وهذا هو الشاهد من الحديث– ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينها، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها –أي خمارها– على رأسها خير من الدنيا وما فيها".

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً"[متفق عليه].

 

إنها الجنة -يا عباد الله- رياضها مجمع المتحابين، وحدائقها نزهة المشتاقين، وخيامها اللؤلؤية على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين.

 

عرش الرحمن سقفها، والمسك والزعفران تربتها، واللؤلؤ والياقوت والجوهر حصباؤها، والذهب والفضة لبناتها.

 

غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الأنهار .

 

عاليات الدرجات، في عاليات المقامات، بهيجة المتاع، قصر مشيد، وأنوار تتلألأ، وسندس وإستبرق، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، هم فيها على الأرائك متكئوُن.

 

ظلها ممدود، وطيرها غير محدود، فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون.

 

قطوفها دانية للآكلين، وطعمها لذة للطاعمين.

 

قد ذللت قطوفها تذليلا.

 

يناديهم المنادي: لكم النعيم سرمدا، تحيون ولا تموتون أبدا، وتَصِحّون ولا تمرضون أبدا، وتشبون ولا تهرمون أبدا، وتنعمون ولا تبأسون أبدا، يحل عليكم رضوان ربكم فلا يسخط عليكم أبدا.

 

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[الزمر: 73- 74].

 

فنسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجعلنا من أهل الجنة، الذين هم أهله وخاصته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ، والذكر الحكيم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133].

 

إنها دعوة مهيبة ورسالة كريمة إلى حيث الراحة والاطمئنان، والأمن والأمان، والروح والريحان. دعوة من الله -جل جلاله- لسكنى دار الخلد، وجنة المأوى.

 

صحتك فيها لا تقل ولا تفنى، وثيابك فيها لا تبلى، ووجهك فيها كالنجم في السماء، أو هو أصفى.

 

وسنك فيه الثلاثة والثلاثين لا يتعدى، والجمال والكمال عليك فيها قد استولى.

 

حياتك فيها حياة رضية، وعيشك فيها سعادة أبدية، وأوقاتك فيها أوقات هنية.

 

إنها دعوة تطير النفس في أجوائها، وتحلق الروح في سمائها، ويستروح القلب في قسماتها.

 

أيها المسلمون: إن ما ذكر ما هو إلا جزء يسير جداً من نعيم الجنة، والتي لا نستطيع، بل يستحيل أن نقدر قدرها، وكيف يُقدر قدر دارٍ غرسها الرحمن بيده وجعلها مقراً لأحبائه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير؟!.

 

ولهذا كانت الجنة قرة عيون المحبين، ومحط أشواق قلوب العارفين، أسهروا ليلهم في سبيلها، وأظمأوا نهارهم من أجهلها، وبذلوا كل غالٍ ونفيس مهراً لها، وعربوناً لدخولها.

 

فالطريق إذاً إلى هذه الجنة يحتاج إلى زادٍ من التقوى، وعمل متواصل من الخير، وجهد مبذول في سبيل الدين، وجهاد دؤوب للشيطان، وعِراك مستمر مع النفس والهوى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حفت الجنة بالمكاره".

 

فاجتهد -أخي المسلم-: لقد سبق السابقون، وفاز الفائزون، وتأخر عنها الغافلون النائمون.

 

شيء من العمل، يصحبه إخلاص وتقوى، مع توفيق الله -عز وجل- ورحمته ومغفرته، تكون من أهل نعيم سرمدي لا ينقطع، وتدخل جنة، فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

فإن سألت عن أرضها؛ فتربتها هي المسك والزعفران.

 

وإن سألت عن أنهارها؛ فأنهار: (مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى)[محمد: 15].

 

وإن سألت عن طعامهم؛ ففاكهة: (مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ)[الواقعة: 20- 21].

 

وإن سألت عن شرابهم؛ فهو التسنيم والزنجبيل والكافور.

 

وإن سألت عن آنيتهم؛ فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.

 

وإن سألت عن سقفها؛ فهو عرش الرحمن.

 

وإن سألت عن حصبائها؛ فهو اللؤلؤ والجوهر.

 

وإن سألت عن بنائها؛ فلبنة من فضة ولبنة من ذهب.

 

وإن سألت عن أشجارها؛ فشجر الجنة ساقها من ذهب وفضة.

 

وإن سألت عن ثمارها؛ فأمثال القلال، ألين من الزبد، وأحلى من العسل.

 

وإن سألت عن ورقها؛ فأحسن ما يكون من رقائق الحُلل.

 

وإن سألت عن سعة أبوابها؛ فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عليه يوم، وهو كظيظ من الزحام.

 

وإن سألت عن ظلها؛ ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجدّ السريع في ظلها مائة عام، لا يقطعها.

 

وإن سألت عن سعتها؛ فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي عام.

 

وإن سألت عن خيامها وقبابها؛ فالخيمة الواحدة من درةٍ مجوفة طولها ستون ميلاً من جملة الخيام.

 

وإن سألت عن علاليها وقصورها؛ فهي: (غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)[الزمر: 20].

 

وإن سألت عن ارتفاعها؛ فانظر إلى الكوكب الطالع، أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.

 

وإن سألت عن لباس أهلها؛ فهو الحرير والذهب.

 

وإن سألت عن فرشها؛ فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب.

 

وإن سألت عن أرائكها؛ فهي الأسرة مزررة بأزرار الذهب.

 

وإن سألت عن أسنانهم؛ فأبناء ثلاثة وثلاثين على صورة آدم -عليه السلام- أبي البشر.

 

وإن سألت عن وجوه أهلها وحسنِهم؛ فعلى صورة القمر.

 

وإن سألت عن سماعهم؛ فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيّين، وأعلى منهما سماع خطاب ربَّ العالمين.

 

وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها؛ فنجائبٌ أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان.

 

وإن سألت عن حليهم وشاراتهم؛ فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.

 

وإن سألت عن غلمانهم؛ فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون.

 

وإن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنـزه عن التمثيل والتشبيه، فكما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر؛ كما تواتر بذلك الخبر عن الصادق المصدوق فاستمع يوم ينادي المنادي: "يا أهل الجنة، إن ربَّكم -تبارك وتعالى- يستزيركم، فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدتْ لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جُعل لهم موعداً. وجُمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب -تبارك وتعالى- بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجدٍ، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم -وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء– جلس أدناهم على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرتْ بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يبيضْ وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟

 

فبينما هم كذلك، إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار -جل جلاله، وتقدست أسماؤه-، قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة: سلام عليكم، فلا تُردّ هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلامُ، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.

 

فيتجلى لهم الرب -تبارك وتعالى- يضحكُ إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكونُ أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني، فهذا يومُ المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن قد رضينا، فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فسلوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف الرب -جل جلاله- الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله -سبحانه وتعالى- قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا.

 

فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ)[القيامة: 22].

 

فهم في روضات الجنة يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون، وبالحور العين يتمتعون، وبأنواع الثمار يتفكهون.

 

أيها الأخ الحبيب: هؤلاء هم أصحاب الجنة، هؤلاء هم أصحاب الحسنى وزيادة، هل تريد أن تكون منهم؟ هل تريد أن تعرف أوصافهم؟

 

(كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17- 18].

 

(وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[المعارج: 24- 25].

 

يصلون بالليل والناس نيام، يصومون وغيرهم يأكل، وينفقون وغيرهم يبخل، ويقاتلون وغيرهم يتقاعس ويجبن.

 

أولئك هم عباد الله، حفظوا وصية الله، ورعوا عهده، بربهم يؤمنون، وبربهم لا يشركون، وهم من خشيته مشفقون، استجابوا لربهم.

 

(وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) [فاطر: 29].

 

(يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60].

 

(يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)[الشورى:37].

 

(إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2]ٍ.

 

عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)[المؤمنون: 6].

 

(لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[المؤمنون: 8].

 

طالما تعبت أجسادهم من الجوع والسهر، واستعدوا من الزاد بما يكفي لطويل السفر.

 

كثر استغفارهم، فحطت خطاياهم، وكل ما طلبوا من ربهم أعطاهم.

 

فسبحان من اختارهم واصطفاهم!.

 

إنهم عباد الله المخلَصون، فيهم الشهيد المحتسب، والعفيف المتعفف، والضعيف المتواضع، ذو الطمرين، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.

 

أقوام يقطرون نزاهة، أفئدتهم مثل أفئدة الطير، فيهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.

 

متحابون في جلال الله، فيهم صاحب القرآن يقرأ ويرتل ويرتقي.

 

وفيهم تارك المراء ولو كان محقا، وتارك الكذب ولو كان مازحا.

 

فيهم من أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام.

 

(خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)[النازعات: 40].

 

جنة ربي لكل أواب حفيظ: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)[ق: 33].

 

عيون تبكي من خشية الله، وعيون تحرس في سبيل الله، يخافون من ربهم: (يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الإنسان: 10- 12].

 

أيها المسلمون: هذه هي الجنة، وهذا هو سبيلها، فهل رأيتم أشد غبنا ممن يبيع الجنان العالية بحياة أشبه بأضغاث أحلام، يبيع الفردوس بدنياً قصيرة، وأحوال زهيدة، مشوبة بالنقص، ممزوجة بالغصص.

 

حياة حقيرة، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت أياما، أحزنت دهورا.

 

أي سفه ممن يبيع مساكن طيبة في جنات عدن بأعطان ضيقة، وخراب بور؟.

 

فيا حسرة هذا المتخلف حين يعاين كرامة الله لأوليائه، وما أخفى لهم من قرة أعين، فلسوف يعلم أي بضاعة أضاع.

 

فاتقوا الله -رحمكم الله- وبادروا وشمروا، واعملوا وأحسنوا وأبشروا.

 

أيها المؤمنون الموحدون: لقد نودي على الجنة في سوق الكساد، فما قَلّب السلعة ولا سام، إلا أفراد من العباد.

 

فوا عجباً لها كيف نام طالبها؟! وكيف لم يسمع بمهرها خاطبها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! وكيف قر للمشتاق القرار، دون معانقة أبكارها؟! وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟! وكيف صُرفت عنها قلوب أكثر العالمين؟! وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟!

 

فإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها *** ولم يك فيها منـزلٌ لك يُعلمُ

فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم

وأقدم ولا تقنع بعيش منغصٍ *** فما فاز باللذات من ليس يُقدم

ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلّم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى *** وشطت به أوطانه فهو مُغرَم

وأي اغتراب فوق غربتنا التي *** لها أضحت الأعداء فينا تَحكّمُ

وحيَّ على يوم المزيد الذي به *** زيارة رب العرش فاليوم موسم

فيا بائعاً هذا ببخسٍ معجلٍ *** كأنك لا تدري، بلى سوف تعلم

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

 

اللهم إنا نسألك الجنة أن لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.

 

 

 

المرفقات

الأفراح

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات