عناصر الخطبة
1/فضائل الأم وبعض معاناتها 2/قصص رائعة في بر الأبناء لأمهاتهم 3/فضل الأب وتحمله للمشاق 4/بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهمااقتباس
أيها الابن الكريم: قف معي قليلاً نتصور ما تقاسيه الأم من شدة وتعب أثناء حملها؛ فكم تقاسي المسكينة وهي تحمل ولدها في بطنها، فيزداد نموه يوماً بعد يوم في ذلك البطن الصغير، فتقاسي حرارة الوحام والأمراض في بداية حملها حتى يبدأ بالحركة فيجول في بطنها ليلاً ونهاراً، يجتمع في ناحية من البطن، فيضغط عليها كأنما يحاول تمزيق أحشائها، ثم يتحول إلى ناحية أخرى. وهكذا، دأبه لا يدعها تستريح لحظة واحدة، بل...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-.
أيها المسلمون: امتداداً للخطبة الماضية، والتي كانت عبارة عن سرد قضايا ووقائع صدرت من بعض المتمردين على آبائهم من بنين وبنات.
وفي هذه الخطبة أسوق قضية شاب تمادى في غيه وضلاله، حتى وصل إلى أعلى مرحلة من مراحل المخدرات، وهي مرحلة تعاطي الهروين، فأودى به هذا المخدر إلى نسيان جميل الأم، والتسلط عليها، وإيذائها بغية الحصول على دريهمات يستعين بهن على شراء هذه المادة، فرفضت الأم طلبه حفاظاً عليه ومحبة له، فما كان منه إلا أن رفع في وجهها السكين، فأخذت ثوباً قريباً منها، فوضعته فوق رأسها، ثم أسرعت مهرولة إلى الشارع مستنجدة بمن تراه من الرجال، وما زالت الأم إلى اليوم وهي تعاني منه، وتتجرع غصصه، ومرارة أفعاله.
فللقضايا السابقة، ولهذه القضية وغيرها كثير؛ فإني أرى أن الموضوع يحتاج إلى تركيز قوي، وترشيد عظيم لإعادة مكان الوالد والوالدة في نفوس أبنائهم، ولترسية أواصر المحبة في نفوس الأبناء لآبائهم، فإني أصل هذا الموضوع بالموضوع الأول متحدثاً عن فضائل الآباء والأمهات، وعن مكانتهم في الإسلام؛ فإن فضلهم على الأولاد لا ينكر، ومعروفهم الذي شب عليه اللحم والعظم لا ينسى، فلقد كنا في الصغر ماء عيونهم، ومهج أرواحهم، وريحان قلوبهم، وملء أفئدتهم، وزينة حياتهم، يسهرون الليل إذا اشتكينا، ويرخصون المال إذا مرضنا، ويضحون بكل شيء في سبيل سلامتنا، من بذرتهم خلقنا، ومن رحيقهم شربنا، وفي حجورهم نشأنا، ومن غذائهم دب الصبا ودم الفتوة في عروقنا، فكما يمتص الفرخ كل غذاء في البيضة، فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيقٍ وعافية، وكل جهد واهتمام من الوالدين، حتى يكونا شيخوخة فانية.
أيها الابن الكريم: قف معي وتذكر قليلاً فضائل أمك عليك، علك أن تعفو عن زلاتها، وتتجاوز عن أخطائها، وتتحمل بعض هفواتها، فالأم حملتك في أحشائها تسعة أشهر وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، فنموك في بطنها لا يزيدها إلا ثقلاً وضعفاً، رأت الموت بعينيها عند وضعها، لكنها لما أبصرت بك إلى جانبها نسيت جميع آلامها، وعلقت فيك آمالها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، فانشغلت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، فطعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها، وصدرها وظهرها تحيطك وترعاك، تجوع الأم لتشبع أنت، وتسهر الأم لتنام أنت؛ فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها، تحسب أن الخير عندها وبيديها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها، أو لحظتك بعينها.
أيها الابن الكريم: قف معي قليلاً نتصور ما تقاسيه الأم من شدة وتعب أثناء حملها؛ فكم تقاسي المسكينة وهي تحمل ولدها في بطنها، فيزداد نموه يوماً بعد يوم في ذلك البطن الصغير، فتقاسي حرارة الوحام والأمراض في بداية حملها حتى يبدأ بالحركة فيجول في بطنها ليلاً ونهاراً، يجتمع في ناحية من البطن، فيضغط عليها كأنما يحاول تمزيق أحشائها، ثم يتحول إلى ناحية أخرى.
وهكذا، دأبه لا يدعها تستريح لحظة واحدة، بل إنه إذا هدأ فترة عن الحركة ارتابها القلق والخوف خشية عليه من الموت.
ثم تصور -أُخي-: تصور ذلك الوليد وهو ينبت جسمه على حساب جسمها، فلا يدع الجنين أمه تهنأ في طعام أو نوم وهو جزء عالق بها، ثم تصور تلك الشدة التي تعانيها الأم أثناء خروج الجنين، وهي شدة لا تطاق، فالولد لا يخرج في أكثر الأحيان إلا قسراً وإرغاماً، فيتمزق اللحم، أو يبقر البطن، وكثيراً ما يسبق الروح فتموت الأم ويحيا هو، وإذا كان لها فسحة من العمر، وأفاقت بعد تلك المعركة اللهيبة، نظرت إلى الطفل بجانبها، فابتسمت لذلك الطفل وكأنه لم يتسبب لها بشيء.. تصور معي كيف تضحك الأم وتأنس وتغني أحياناً فرحاً وطرباً، وهي تتعامل مع أقذر شيء فيك، وهي تنظف وليدها من القاذورات والأوساخ، فلا تتأفف ولا تشمئز، فسبحان من صبرها! وسبحان من سخرها.
أخي الكريم: الأم فعلت بك ذلك كله، فبالله عليك لو مرضت أمك، فهل تبقى بجانب سريرها شهراً كما جلست هي بجانبك السنوات الطوال؟
لا أخالك تقدر على ذلك، ولو قدرت لفعلت وأنت متضجر، ولذلك فإن شاباً قال لعمر بن الخطاب: "إن لي أماً بلغ منها الكبر، لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، فهل أديت حقها، قال: لا، قال: ولم؟
قال عمر -رضي الله عنه-: "لأنها كانت تصنع بك ذلك كله، وهي تتمنى لك البقاء، وأنت تصنعه وتتمنى لها الفراق"[الجامع في الحديث (1/150)، المستطرف (2/20)].
ومن هذا المنطلق حث الإسلام، بل وأمر الإنسان أن يعترف بهذا الجميل، ويوليه رعاية واحتراماً وتقديراً، حتى إن شاباً قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! إني حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة، لو ألقيت فيها لحمة لنضجت؛ فهل أديت شكرها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لعله يكون لطلقة واحدة"[المعجم الصغير (1/163)، رقم (255)، وقال:" لم يروه عن علقمة بن مرثد إلا ليث، ولا عن ليث إلا الحسن بن أبي جعفر، تفرد به عمرو بن يوسف "، وقال في مجمع الزوائد (8/137):"رواه الطبراني في الصغير، وفيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف من غير كذب، وليث بن أبي سليم مدلس"].
ولقد أجاد أحد الشعراء عندما قال:
لأمك حق لو علمت كبير *** كثيرك هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي *** لها من جواها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة *** فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها *** ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها *** حنواً وإشفاقاً وأنت صغير
فضيعتها لما أَسنت جهالة *** وطال عليك الأمر وهو قصير
فآهاً لذي عقل ويتبع الهوى *** وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لما تدعو إليه فقير
وحول البيت الأخير؛ فإن القاضي إياس -رحمه الله- لما أدرك ذلك، وأنه فقير إلى دعاء أمه بكى أشد البكاء على موتها، فقيل له في ذلك فقال: "كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأغلق أحدهما"[تهذيب الكمال (3/436)، وتاريخ مدينة دمشق (10/33)، وتاريخ الإسلام (8/45)].
وقد كان معروفاً -رحمه الله-، معروفاً بشدة البر حتى إنه تأخر يوماً على أصحابه فسألوه، فقال: "كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات"[قال في كشف الخفاء(1/401) عن حديث: "الجنة تحت أقدام الأمهات" قال:"أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن معاوية بن جاهمة السلمي إن جاهمة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: "فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها" قال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقب بالاضطراب، وأخرجه ابن ماجة أيضا عن معاوية بن جاهمة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فارجع فبرها، ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: "ويحك أحية أمك؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: فارجع فبرها، ثم أتيته من أمامه، قلت: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: "ويحك أحية أمك؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ويحك الزم رجلها فثم الجنة" وفي الباب أيضا ما أخرجه الخطيب في جامعه والقضاعي في مسنده عن أنس -رضي الله عنه- رفعه: "الجنة تحت أقدام الأمهات" وفيه منصور بن المهاجر وأبو النضر الأبار لا يعرفان، وذكره الخطيب أيضاً عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وضعفه، قال في المقاصد: "وقد عزاه الديلمي لمسلم عن أنس فلينظر" ومثله في الدرر.
والمعنى: أن التواضع للأمهات وإطاعتهن في خدمتهن وعدم مخالفتهن إلا فيما حظره الشرع سبب لدخول الجنة"].
فالذين عرفوا قدر الأم، وقدروا لها جهودها، بلغت بهم المنزلة إلى أن كتب الله لهم قبول الدعاء، فلا يرفعون إلى الله دعوة إلا ويكون جوابها: وجبت، كما حصل ذلك لأويس بن عامر، يقول أسير بن جابر: "كان عمر -رضي الله عنه وأرضاه- إذا أتى عليه أمراء اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى عليه، فقال: " أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد، ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم.
قال عمر -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ، إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره؛ فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل".
يقول عمر لـأويس: "فاستغفر لي"[مسلم: باب من فضائل أويس القرني (4/1969)، رقم (2542)].
إن العمل الذي قام به أويس عمل عظيم، جعل الله جزاءه أعظم؛ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
فبمعرفته لجميل أمه، وببره بها جعل الله له دعوة مستجابة، تجلب إليه الخير، وتحجب عنه الشر، وإذا كان هذا الفضل للأم؛ فإن الأب له فضل آخر، وقد ناله ما نال الأم من التعب والعنت، إلا أنهما لا يستويان؛ كما قال الشاعر -رحمه الله-:
لئن كان بر الوالدين مقدماً *** فما يستوي في بره الأب والأم
وهل يستوي الوضعان وضع مشقة *** ووضع التذاذ ذاك برئ وذا سقم
إن الأب بكده وسعيه، ودفعه عنك صنوف الأذى، وتنقله أحياناً في الأسفار، يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثاً عن لقمة العيش لك، وبنفقته عليك، وتربيته إياك، وتعلق قلبك بك، وتعلق قلبه بك، فمن الذي رباك بعد الله سواه؟ ومن الذي غذاك بعد الله سواه؟
فالأب تعب، واجتهد، وربما تحمل ديوناً أطارت النوم من عينيه، وأقلقت فكره، وأزالت راحته، وجعلته يعيش حياة خوف وذل من جراء الديون التي أجبر على أخذها من أجلك، ناهيك عن قلقه عليك، وشدة السعي فيما يصلح أمور دينك ودنياك.
ولقد بلغ الوالد فيما قدمه لأبنائه منزلة جعلت الإسلام يحكم على الابن بأنه وما ملكه لأبيه، فقد جاء رجل فقال: "يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يحتاج مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسبكم؛ فكلوا من كسب أولادكم"[أبو داود: بَاب في الرَّجُلِ يَأْكُلُ من مَالِ وَلَدِهِ (3/289)، رقم (3530)، والنسائي: باب الحث على الكسب(7/241)، رقم (4450)، وابن ماجة: باب ما للرجل من مال ولده (2/769)، رقم (2292)، وأحمد (2/214)، رقم (7001)].
أيها الإخوة في الله: إن من تمام نعمة الله، وجزيل شكره وامتنانه أن جعل للبر جزاء ومكافأة، مع أن الأصل في البر أنه رد لجميل قام به الوالدان، فكان من الواجب أن يعترف الابن بذلك الجميل فيقابله بالإحسان، إلا أن رحمة الله الواسعة، وكرمه العظيم الشامل نال الابن على رده للجميل، ومعرفته للحقوق، يقول أنس -رضي الله عنه وأرضاه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يمد في عمره، ويزاد في رزقه؛ فليبر والديه، وليصل رحمه"[أحمد (3/266)، رقم (13838)، وقال في مجمع الزوائد (8/136):" هو في الصحيح خلا بر الولدين، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وقال في ذخيرة الحفاظ (4/2176)، رقم (5049):" حديث من أحب أن يمدّ الله في عمره، ويزيد في رزقه؛ فليبر والديه، وليصل رحمه" رواه ميمون بن سياه عن أنس وميمون ضعيف، قال المؤلف: والمتن صحيح من غير هذا الطريق، وأورده في ترجمة حفص بن عمر قاضي حلب الكندي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقال: وهذا الحديث قد روي أيضاً عن هشام بن يوسف الصنعاني عن معمر عن أبي إسحاق، وأورده في ترجمة رشدين بن سعد عن قرة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب عن أنس، ورشدين ضعيف، والحديث مخرج في الصحيح من حديث الزهري عن أنس من غير رواية رشدين عن قرة"].
ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"[البخاري: بَاب فَضْلِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا (1/197)، رقم (504)، ومسلم: بَاب قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ الثَّلَاثَةِ وَالتَّوَسُّلِ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ (4/2101)، رقم (2743)].
وروى ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد"[موارد الظمآن للهيثمي (ص496)، رقم (2026)، ومرقاة المفاتيح (9/146)].
وفي قصة النفر الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة فسدت عليهم الغار، قالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال أحدهم: "اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً؛ فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما؛ فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر فاستيقظا، فشربا غبوقهما.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج معه"[البخاري: بَاب إذا اشْتَرَى شيئا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ (2/771)، رقم (2102)، ومسلم: بَاب بَيَانِ كَوْنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ (1/90)، رقم (85)، واللفظ له].
الحديث طويل، والشاهد منه هذا البر العظيم الذي كان سبباً في إزاحة صخرة عظيمة وحجارة صماء بقدرة الله -تعالى-.
أيها الأحبة: لا أعتقد أنكم بحاجة إلى زيادة في الإقناع، وإقامة الحجة بشأن البر بالوالدين؛ فالحجة الآن قائمة على كل من حضر وسمع، وما بقي الآن إلا أن يستعيذ بالله من شيطان الهوى والجن، ويُحَسن سيرته ومنهجه دون النظر في أخطائهما، وأما من فاته أوان البر بوفاتهما وهو في صباه أو صبوته وجهله، فهناك جهل للتعويض بعد التوبة الصادقة، ألا وهي البر بهما بعد موتهما أيضاً، وذلك بالدعاء والاستغفار لهما، وإكرام صديقهما، فقد جاء رجل من بني سلمة إلى رسول الله، فقال: "يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما" [أبو داود: باب في بر الوالدين (4/336)، رقم (5142)، وابن ماجة: بَاب صِلْ من كان أَبُوكَ يَصِلُ (2/1208)، رقم (3664)، وأحمد بنحوه (3/497)، رقم (16103)، وابن حبان: ذكر وصف بر الوالدين لمن توفى أبواه في حياته (2/162)، رقم (418)].
وقد لقي أعرابي عبد الله بن عمر -رضي الله عنه وأرضاه-، فسلم عليه، فحمله عبد الله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله! إنهم الأعراب، ويرضون باليسير، فقال عبد الله -رضي الله عنه وأرضاه-: إن أبا هذا كان صديقاً لأبي، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أبر البر صلة الولد أهل وُد أبيه"[مسلم: بَاب فَضْلِ صِلَةِ أَصْدِقَاءِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمَا (4/1979)، رقم (2552)].
وختاماً: أسأل الله أن يعيننا على البر بآبائنا وأمهاتنا، وأن يسهل لنا ذلك، ثم إني أشكر الإخوة الذين قدموا مشاكلهم مع آبائهم وإن كانوا قلة، وأنا ما زلت عند وعدي لهم بتقديمها بعد حلها، وسيكون ذلك إن شاء الله في الجمعة القادمة، ولكن نظراً لحساسية الموضوع؛ فإني رأيت عدم الاكتفاء بخطبة واحدة للأبوين، بل وإني ما زلت أرى أن الخطبتين يسيرتين بالنسبة لحقوقهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23-24].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، وتوبوا إليه واستغفروه.
عباد الله: صلوا وسلموا على خير عباد الله، فقد أمركم الله بذلك، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اجعلهم آمرين بالمعروف فاعلين له، ناهين عن المنكر مجتنبين له، محافظين على حدودك قائمين بطاعتك يا رب العالمين.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم رد ضالهم إليك رداً جميلاً، اللهم رد ضالهم إليك رداً جميلاً.
اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين يا رب العالمين.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم