عناصر الخطبة
1/ الحياة لا تدوم على حال 2/ أحوال العبد المؤمن في السراء والضراء 3/ رحمات تحت ظلال البلايا 4/ كم من مِحَن حملت منحًا ! 5/ فوائد منسية في المحن والشدائد 6/ ماذا علمتنا الأزمات؟اقتباس
ومِن إحسانِ الظنِّ به –سبحانَه-: أنْ نُدرِكَ ما تجنيه الأمَّةُ مِن فوائدَ في أزماتِها ومصائبِها إنها فوائدُ مَنْسِيَّةٌ، وَسَطَ أحداثٍ مأساويَّةٍ، فوائدُ تستحقُّ أنْ نُسَلِّطَ عليها الضوءَ، وأنْ نَلْفِتَ إليها الذِّهْنَ، في وقتٍ دَبَّ فيه الأسى إلى النفوسِ وغَلَب! موقنين أنّ للهِ في خَلْقِهِ وتدبيرِه وحُكْمِه حِكَماً وعِبَراً، ومدركين أنّ عقولَنا قاصرةٌ عن الإحاطةِ بكلِّ الحِكَمِ والأسرارِ مِن تتابُعِ الأحداثِ، وقد قالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: لا تبقى الحياةُ في سيرِها على حالٍ، ولا يَقَرُّ لها قرارٌ، ولا يَهدأُ لها بالٌ. والناسُ فيها يتقلَّبون، وبأجوائها يمرُّون، ولأحوالها معايشون. ولكنَّ المؤمنين عن غيرِهم يتميَّزون، كما جاءَ في الحديثِ عن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ، لا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ شَيْئًا إِلا كَانَ خَيْرًا لَهُ" (رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-).
فهم في خيرٍ وإلى خيرٍ، إنْ أصابَتِ المؤمنَ سرَّاءُ شَكَرَ فكانَ خيراً له، وإنْ أصابته ضرَّاءُ صَبَرَ فكانَ خيراً له، وليس ذلك لغيرِ المؤمن.
مَا أصابَ مؤمِناً مِن بلاءٍ إلا كانَ له في ذلك أجرٌ وثوابٌ، وحُطَّتْ عنه أوزارٌ وسيئاتٌ، وليس للمؤمنِ في دنياه خيرٌ مِن نيل مثل هذا العَطَاءِ، فإنّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاءٍ، والكُلُّ فيها يسعى لتحصيلِ الأجرِ والثوابِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أنّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذىً وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" (رواه البخاري ومسلم).
وقد ذَكَرَ اللهُ –سبحانه- في سورةِ العنكبوتِ أجْرَ المؤمنين بينَ آياتِ الابتلاءِ، فقالَ عَزَّ مِن قائلٍ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون) [العنكبوت: 7].
وكثيراً ما تكونُ الشدائدُ والأزَمَاتُ سَبَبَاً في عَودةِ فئامٍ مِنَ الناسِ إلى دينِهم، وزيادةِ صلتِهم بربِّهم، لأنه لا كاشِفَ للبلاءِ إلا اللهُ، وقد كانَ المشركون يلجؤون حالَ الشدائدِ إلى اللهِ وحدَه، ولنْ يكونَ حالُهم خيراً مِن حَالِ المؤمنين.
وما الحياةُ إلا كتابٌ يُسجِّل الناسُ فيه أعمالَهم، ويدوِّنون فيه مآثرَهم، والسعيدُ مَن كان عملُه صالحاً، وبذلُه نافِعاً ودائماً. وقد جَعَلَ اللهُ الحياةَ ميداناً للتسابقِ والتنافسِ، وخَلَقَ الموتَ والحياةَ ليبلوَنا أيُّنا أحسنُ عملاً. وربُّنا لم يخلقْنا عَبَثاً، ولم يتركْنا هَمَلاً، بل هو القائلُ سبحانَه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون) [المؤمنون: 115]، مِن أجلِ ذلك كانَ ابتلاءُ المؤمنِ بالخيرِ والشرِّ، والحُزنِ والسُّرورِ: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون) [الأنبياء: 35].
أيها المسلمون: وأحداثُ الحياةِ وإنْ حَمَلَتْ في ظاهرِها شرَّاً، فإنها لا تكونُ شَرَّاً مَحْضَاً، بل ربما حَمَلَ ذلك من الخيرِ أضعافاً وأمثالاً، وقد قيل: "إنّ في الشرِّ خِياراً".
لقد كانتْ حادثةُ الإفكِ التي تَوَلى كِبْرَها رأسُ المنافقين، ولاكَتْها الألْسُنُ، حادثةً آلمتْ نفسَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ونفسَ زوجِه أمِّ المؤمنين عائشةَ -رضي الله عنها-، وقَضَّتْ مَضْجَعَهُما لياليَ طِوالاً، فلما جاءتْ براءتُها قرآناً يُتلى إلى يومِ القيامةِ، قال اللهُ -جَلَّ شأنُه-: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيم) [النور: 11].
وقبلَ غزوةِ بدرٍ، كَرِهَ بعضُ المؤمنين الخروجَ لقتالِ عدوٍّ أكثرَ منهم أعداداً، وأحسنَ منهم إعداداً، وودُّوا أنْ ينالوا الغنيمةَ دونَ شدَّةٍ وقتالٍ، ولكنَّ الحكيمَ العليمَ أخرجَهم من بيوتِهم ليقضيَ أمرَه، ويُعِزَّ دينَه، ويُذِلَّ أعداءه: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُون) [الأنفال: 5-8]، فكانَ في خروجِهم الذي كَرِهَه بعضُهم نصرٌ لهم وتمكينٌ.
قال شريح القاضي -رحمه الله-: "إني لأُصابُ المصيبةَ، فأحمَدُ اللهَ عليها أربعَ مَرَّاتٍ: أحْمَدُ إذْ لم يكُنْ أعْظَمُ منها، وأحْمَدُ إذْ رَزَقَني الصَّبْرَ عليها، وأحْمَدُ إذْ وَفَّقَني للاسترجاعِ لما أرجو مِنَ الثّوابِ، وأحْمَدُ إذْ لم يجعَلْها في ديني".
مَن أدرَكَ هذه الحقائقَ كان لِزاماً عليه أنْ يُحسِنَ ظنَّه بربِّه –سبحانَه-، وقد قالَ اللهُ في الحديثِ القدسيِّ: "أنا عندَ ظَنِّ عَبْدِي بي" (رواه الشيخان).
وإنّ من إحسانِ الظنِّ به تبارك وتعالى: أنْ يعلمَ المؤمنُ عظيمَ فضلِ اللهِ عليه، وأنَّ ما دَفَعَ عنه من السوءِ والبلاءِ أعظمُ مما أصابَه.
ومِن إحسانِ الظنِّ به –سبحانَه-: أنْ نُدرِكَ ما تجنيه الأمَّةُ مِن فوائدَ في أزماتِها ومصائبِها إنها فوائدُ مَنْسِيَّةٌ، وَسَطَ أحداثٍ مأساويَّةٍ، فوائدُ تستحقُّ أنْ نُسَلِّطَ عليها الضوءَ، وأنْ نَلْفِتَ إليها الذِّهْنَ، في وقتٍ دَبَّ فيه الأسى إلى النفوسِ وغَلَب! موقنين أنّ للهِ في خَلْقِهِ وتدبيرِه وحُكْمِه حِكَماً وعِبَراً، ومدركين أنّ عقولَنا قاصرةٌ عن الإحاطةِ بكلِّ الحِكَمِ والأسرارِ مِن تتابُعِ الأحداثِ، وقد قالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ" (رواه البخاري).
مَا أشبهَ هذه الفوائدَ التي نجنيها مِن مِثلِ هذه الأحداثِ، ابتداءً من أحداث القدس وفلسطين، ومروراً بأحداث سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن وأفغانستان، وغيرها وغيرها من الأحداث الضخمة التي تمر بها الأمة اليوم، مَا أشبهَ هذه الفوائدَ التي نجنيها مِن مِثلِ هذه الأحداثِ بالدُّرَرِ والجواهرِ التي لا تُنالُ إلا بالغوصِ في أعماقِ البحرِ، وتَحَمُّلِ المشاقِّ والمخاطرِ من أجلِها.
أيها المسلمون: علَّمتنا هذه الأزماتُ أنَّ المُثُلَ والقِيَمَ كلامٌ لا وزنَ له ما لم يرافقْها العَمَلُ، وأنّ الأخلاقَ الفاضلةَ جميلةٌ مطلوبةٌ، ولكنَّ الأحسنَ والأجملَ أنْ تصيرَ هذه الأخلاقُ رِجَالاً وفِعَالاً. وما يحفظُه المرءُ قد يحفظُه مئاتٌ غيرُه، ولكنَّ التميَّزَ في مقدارِ العملِ بما يُحفَظُ ويُعلَمُ، فخيرُ القولِ ما صَدَّقَه الفِعْلُ.
والشدائدُ ميدانٌ، وفي الميدانِ يكونُ المِرَانُ، وقد قِيلَ: "عِندَ الطِّعَانِ يَتَبيَّنُ الرِّجالُ"، و "التجرِبةُ خيرُ بُرهانٍ". وصُعُوبةُ المُلِمَّاتِ والشَّدائدِ مَحَكٌّ تَظهرُ فيها الصِّفَاتُ والخلائقُ، وتنكَشِفُ فيها القُدْراتُ والموَاهِبُ، فالشدَّةُ تُظهِرُ العِلَّةَ، والأمَّةُ تَتَعَلَّمُ في المُلِمَّةِ، ومَا وَعَظَ امْرأً مثلُ تجارِبِه. والناجحون في الحياةِ هم الذين واجهوها، وتعامَلوا معها، واعتادُوا شرَّها وخيرَها.
إنّ هذه الأزماتِ عبارةٌ عن خِبْرَاتٍ يكتسِبُها الأفرادُ، كما تكتسِبُها الأمَّةُ والمجتمعاتُ، خِبراتٌ في مواجهَةِ الأعداءِ، والتصرُّفِ حينَ يَفجَأُ ويَفجَعُ البلاءُ.
فالمِحَنُ تدريبٌ عَمَلِيٌّ، وميدانٌ تطبيقيٌّ وتجريبيٌّ، ومِن خلالِها تَتَّضِحُ القُدراتُ والمواهِبُ، وتُطبَّقُ المعلوماتُ والمعارِفُ. مَن أرادَ أنْ يُدَرِّبَ أفراداً بَحَثَ عن مثالٍ قريبٍ مما يدرِّبُهم عليه، فكيف لو جاءَ الحالُ الذي كانَ من أجلِه ذا التدريبُ؟! وقديماً قِيلَ: "لا تَغْزُ إلا بِغُلامٍ قد غَزَا".
في الشدائدِ يتميَّزُ المؤمنُ عن المنافقِ، والصادقُ عن الكاذبِ، ويقفُ المرءُ على حقيقةِ إيمانِه، ومدى عُمقِه ورُسُوخِه، فحاشا لله سبحانَه أنْ يُعَذِّبَ عبادَه بالابتلاءِ، ولكنه الإعدادُ الحقيقيُّ لتَحَمُّلِ الأمانةِ، وقد قالَ سبحانَه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِين) [العنكبوت: 10-11]، وقالَ تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم) [محمد: 31].
نبَّهتنا الأزمات إلى أخطاء في الأنظمةِ والعقائدِ، ولهذا دور مهمٌّ في علاجِها، وتفادي آثارِها.
لقد ظَهَرَ خلالَ أزماتٍ متعاقبةٍ أنّ الأمَّةَ مُغَيَّبَةٌ عن قراراتِها المصيريّةِ، وأنّ أعداءها يسيّرونها وَفْقَ رغباتِهم وأطماعِهم، وأنّ المصالحَ الدنيويَّةَ الآنيَّةَ مُقَدَّمَةٌ على غيرِها مِنَ المصالحِ الدينية أو الشرعيَّةِ أو الأخْرَويَّةِ.
كما نبَّهتنا هذه الأزمات إلى أخطاء في أصولٍ اعتقاديةٍ مهمَّةٍ، فظَهَرَ أنّ ولاءَ بعضِ أفرادِها ليس لله، واضطَرَبَ في نفوسِهم التوكُّلُ على الله، واختَلَّ لديهم الخوفُ والرَّجاءُ.
أسأل الله أن يبصرنا بواقعنا، وأن نتعلم مما تبصرنا، وأن نعمل بما تعلمنا..
بارك الله..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: عَلَّمَتْنا الأزمات أنّ الأمَمَ الضعيفَةَ لا يُؤبَهُ بها، وأنّ الأمَمَ الحيَّةَ القويَّةَ تُسْمَعُ كلِمتُها، ويُحسَبُ لها حسابُها، وأنّ العالَمَ اليومَ تحكمُه شريعةُ الغابِ، ولا مكانَ فيه للضعفاءِ، وبينما يقومُ القويُّ بالعملِ يكتفي الضَّعيفُ بالأماني والأمَلِ.
تَعْدُو الذِّئابُ على مَن لا كِلابَ له *** وتَتَّقي صَوْلَةَ المُسْتَأسِدِ الضَّاري
لما اسْتَتَبَّ أمرُ الإسلامِ والمسلمين واستقرَّ بدأَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بإرسالِ رسائلِه إلى الملوكِ والأمراءِ، ولم ينتظرْ حتى يُفَكِّرَ هؤلاءِ في حربِهِ أو يبدؤوا بها. وهكذا كانت الدُّوَلُ الإسلاميةُ القويةُ في التاريخِ تتخِذُ زِمَامَ المبادَرَةِ، وتَصِلُ إلى أعدائها قبلَ أنْ يَصِلُوا إليها، وكانتْ طَلائعُ الجهادِ قدِ انطَلَقَتْ مُشَرِّقَةً ومُغَرِّبَةً، مما أدَّى إلى اختلالِ ميزانِ القُوَى في العالَمِ آنذاك، وصارتْ القوَّةُ الإسلاميةُ ظاهرةً في الأرضِ ومَهِيبَةً.
ميَّزت هذه الأزمات عَدوَّنا مِن صديقِنا، وكَشَّرَ كُلُّ ذي نَابٍ عَن نابِه، وبَانَ لنا ما وَرَاءَ الأكَمَةِ، وعِندَ النازِلَةِ تَعرِفُ أخاك. لقد كَانَ الأعداءُ يمكرون ويخطِّطون مِن وراءِ سِتَارٍ، فصاروا يُنَفِّذون عَلَناً أمامَ الأنظارِ، فزَالَتِ الغِشَاوَةُ عَنِ البصائرِ والأبصارِ. إنَّ أمْرَ عَدُوٍّ ظَاهِرٍ أيسَرُ مِن أمْرِ عدوٍّ مُخْتَفٍ وكامِنٍ، ومُواجَهةُ خُصُومٍ تعرفُهم أيسَرُ مِن مُواجهةِ خصْمٍ لا تعرِفُهُ.
لقد كانَ بعضُ الناس مخدوعين بمعسول الكلامِ، وزائفِ الوعودِ والآمالِ، وكانوا يظنُّون بأعدائهم خيراً، ويشكُّون في كُلِّ مَن أشارَ إليهم شَزَرَاً. كانوا يظنُّون في العدوِّ العدلَ والرَّحمَةَ، ويرون فيه أنموذجاً لتحرِّي الحقِّ والحريةِ، ويَعُدُّونَه مِثَالاً يُحتذى في الحياةِ الآمِنَةِ والمستقِرَّةِ، وإذا هذا المثالُ يَتَهَاوَى، فيصبحُ الأمرُ واضِحاً لا لُبْسَ فيه، وظاهراً لا غُمُوضَ فيه، وأصبحتْ أطماعُهُ ومآرِبُهُ فينا وفي ثرواتِنا وأراضينا لا تحتاجُ إلى شرحٍ وبَيَانٍ.
جَزَى اللهُ الشدائدَ كُلَّ خَيرٍ *** عَرَفْتُ بها عَدَوِّي مِن صَدِيقِي
لقد فَضَحَتْ الأزمات زَعَامَاتٍ وقِيَادَاتٍ، وأسْقَطَتِ الأقنعةَ عن ادّعاءاتٍ وشِعَارَاتٍ، إنَّها شِعَارَاتٌ قامَتْ على القومِيَّةِ والحِزبيَّةِ، وارتَضَتْ شعاراتٍ جاهليّةً، وكان قادتُها مميّزين في خُطَبٍ رنَّانَةٍ، وألفاظٍ بَرَّاقَةٍ، تَخدَعُ البُسَطَاءَ، وتستهوي الخُبَثَاءَ، ولكنَّهم مُمَيَّزون أيضاً فيما جَرُّوه على الأمَّةِ مِن مَصَائبَ ووَيلاتٍ، حتى ظَهَرَ أنهم دُمَىً بأيدي غيرِهم مِنَ الأعداءِ!.
إنّ كُلَّ أزمَةٍ يَمُرُّ بها العالَمُ الإسلامِيُّ تُظهِر أنَّ الإسلامَ هو خيرُ رايةٍ يمكنُ أنْ يُعليَها ويقاتِلَ في سبيلِها أبناؤه في كلِّ مَكَانٍ، إنها رايةٌ ارتضاها لنا الخالِقُ العليمُ سبحانَه فلِمَ لا نَرتضِيهَا لأنفسِنا وهي الرايةُ التي أثبتَتِ الأحداثُ التاريخيةُ أنها رايةٌ ظافِرَةٌ مُنتصِرَةٌ، وأنَّ قُوَّةً مَهما بَلَغَتْ لا يمكِنُ أنْ تقِفَ في وَجْهِ حَمَلَةٍ صادقين لها؟! إنها رايةٌ يَغْلِبُ مائة صابرون مِن أتباعِها مئتين مِنَ الكافرين.
وهي الرَّايةُ التي يَجِبُ أنْ تقومَ عليها علاقَاتُ الأمَّةِ، لأنها رايةٌ لا تَتَغيَّرُ، وأفكارُها ودَعَوَاتُها لا تَتَبَدَّلُ: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُون) [المائدة: 55- 56].
علَّمتنا الأزمات أنَّ الأمَّةَ حينَ تُربِّي أبناءها وَفْقَ شرعِ ربِّها، وحينَ تبني في نفوسِهم صَرْحَ الإيمانِ، وحينَ تغرِسُ في قلوبِهم نبتةَ الإخلاصِ للهِ ولدينِه فإنَّ قُوى الأرضِ وإنْ هزمتْهم في وقتٍ ظاهراً لن تهزمَهم في بواطنِهم، ولن تفلحَ في تركيعِهم، ولن تنالَ من عزَّتِهم، ولن تقوى على تغييرِ مبادئهم.
وأمَّا غيرُ ذلك من الشعاراتِ والمبادئ وإنْ عَلا في وقتٍ صوتُها، وهبَّ ريحُها، ولَمعَ بريقُها فإنها سحابةُ صيفٍ توشِكُ أنْ تنقشعَ، وفُقاعةُ صابونٍ توشكُ على نفسِها أنْ تنفجرَ، إنها شعاراتٌ وتربياتٌ قامتْ على غيرِ هَدْيِ اللهِ، وكلُّ ما كانَ كذلك فهو عُرْضَةٌ للتبديلِ والزَّوالِ، بل والانقلابِ عليه من أقربِ الأعوانِ والأتباعِ.
ماذا يُنتظرُ من أبناءِ الأمَّةِ حينَ تُغرسُ في نفوسِهم مناهجُ الأعداءِ وقيمُهم؟ كيف يُتصوَّرُ أنّ هؤلاء يمكنُ أنْ يكونوا في يومٍ نِدَّاً أو خَصْماً لعدوٍّ أشربوا حُبَّه ومنهجَه وقيمَه؟ إنّ هؤلاء سينضمّون إلى العدوّ شئنا أم أبينا، وسينتمون إليه انتماءً فكريّاً ومنهجياً أو انتماءً فعلياً وعسكرياً، وقد يكون ذلك على حينِ غِرَّة، والأمة في أشدِّ أوقاتها حاجةً إلى أبنائها.
إنَّ الطُّغَاةَ ينسون أمامَ قوَّتِهم الماديةِ كثيراً من الحقائقِ، فينسون أنّ الأيّامَ دُوَلٌ، ومَا حَلَّ بغيرِهِم مِن الأفرادِ والأمَمِ، وينسون أنَّ الظلمَ أسرعُ شيءٍ إلى تَعْجِيلِ نِقْمَةٍ، وتبديلِ نعمةٍ، وينسون أنّ للهِ فوقَ تدبيرِهم تدبيراً، وأنّ الريحَ قد يواجِهُ إعْصَاراً، وينسون أنه إنما تَنْدَمِلُ مِنَ المظلومِ جِرَاحُه، إذا انكَسَرَ مِنَ الظالِمِ جَنَاحُه، وأنه على الباغي تدورُ الدوائرُ.
ويغيبُ عن أذهانِهم في زَحمة الأطْمَاعِ والشّهَوَاتِ أنّ عدلَهم يجعلُ الناسَ على مختلَفِ طبقاتِهم حَرَسَاً لهم وتَبَعَاً، وأنه لا شيءَ كالعدلِ والإحسانِ يشيدُ الدُّوَلَ، ويُقيمُ الممالِكَ الحَضَاراتِ.
اللهم..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم