عناصر الخطبة
1/ خطر اللسان 2/المقصود ببذاءة اللسان 3/نهي القرآن عن البذاءة 4/البذاءة من صفات المنافقين 5/من صور البذاءة 6/كنايات القرآن 7/الوصية بعفة اللساناقتباس
ومن صور البذاءة التي نراها منتشرة في واقعنا بذاءة اللسان في التكلم بالأقوال القبيحة والألفاظ الواطية، واستخدام الكلمات البذيئة، وهذا تجده عند بعض الناس لا يتكلم إلا بالكلام الساقط المهين، والكلمات الصريحة في البذاءة والقبح. وإن استخدام الكلمات السوقية الصريحة أمر يجب على الإنسان العاقل أن يترفع عنه ولا يستخدمه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العلمين القائل: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : 18]، والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد بن عبدالله القائل: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" [أبوداود ( 561 )].وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله في كل شؤوننا عموماً، وفيما نقول ونتكلم خصوصاً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب 70: 71].
أما بعد:
عباد الله: عضوان في الإنسان هما أخطر الأعضاء وأشدهما على الإنسان، ومنهما يأتي الشر كله، وهما مصدران لكل فتنة ومنكر، إنهما الفرج واللسان. روى الترمذي عن أبي هُريرة -رضيَ اللَّه عنه- قَالَ: "سُئِلَ رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكثرِ مَا يُدْخلُ النَّاس الجَنَّةَ؟ قَالَ: "تَقْوى اللَّهِ وَحُسنُ الخُلُق, وَسُئِلَ عَنْ أَكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: الفَمُ وَالفَرْجُ" [الترمذي (2004)].
وحديثنا اليوم عن خطر من أخطار اللسان، ونوع من أنواع شرورها ومخاطرها، إنه موضوع بذاءة اللسان.
عباد الله: إن المقصود ببذاءة اللسان هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وما يصحب ذلك من فحش في الكلام، وقبح في المنطق، وإن كان الكلام صدقا وواقعاً.
وهي صفة ذميمة وعادة قبيحة، لا يتصف بها إلا من تدنت نفسه، وهانت عليه قيمه وأخلاقه، وسقطت نفسيته في مستنقعات الخزي وقلة الحياء، ومن قل حياؤه صنع ما شاء وقال ما أحب.
ورب قبيحة ما حال بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهب الحياء فلا دواء
يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء : 148]. إن هذه الآية العظيمة فيها نهي صريح عن الجهر بالسوء من القول، فإن الله -سبحانه وتعالى- يبغض ذلك ويمقته، ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب والقذع ونحو ذلك، فإن ذلك كله من البذاءة المنهي عنها، والتي يبغضها الله ويحذر منها ويأمر بضدها من حسن القول، وطيب الذكر، وحسن الكلام.
ويقول -سبحانه وتعالى- محذراً أيضاً من بذاءة اللسان وتبذذها (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور 15: 16]. وهذه الآية -كما تعلمون- نزلت فيمن تكلم في أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه وأرضاها- ورماها بالسوء والبهتان، وتكلم عليها بالكلام البذيء الفاحش الذي لا يليق بمن هو أقل منها من النساء المسلمات، فضلاً عن سيدة الطاهرات، وأكمل العالمات، وأم المؤمنين والمؤمنات، الطاهرة المطهرة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-.
أيها المسلمون: إن بذاءة اللسان صفة لا يتصف بها إلا من كان في قلبه مرض ونفاق، وأما المؤمنون فإنهم أهل دين ومروءة وحياء، وحياؤهم يمنعهم من بذاءة اللسان والجهر بالسوء من القول، ولهذا ذكر الله في أكثر من آية في كتابه العظيم أن من صفات أهل النفاق حدة ألسنتهم وبذاءتها.
يقول الله -جل وعلا-: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [الأحزاب : 19]. ومعنى "سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة حداد" أي: خاطبوكم وتكلموا معكم بكلام قوي بذيء حديد، وادعوا فيكم دعاوى غير صحيحة.
ويقول -سبحانه وتعالى- عنهم: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : 2].أي: إنهم يبسطون ألسنتهم فيكم بكل ما يسوء من القول كالسباب والشتائم، وكل ما يستقبح ويستاء من ذكره الإنسان العاقل اللبيب. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ" [ أحمد (22312)].
أيها الناس: لو نظرنا اليوم في واقعنا لرأينا أن هذه الصفة المستقبحة -صفة بذاءة اللسان- منتشرة في واقعنا بكثرة، وموجودة في مجتمعنا بقوة، فكم من الناس لا تسمع منهم إلا أبشع الكلمات، وأشنع العبارات، وأقبح الألفاظ. بل يكاد أن يكون كلامهم كله سيئاً، وكله ذميماً قبيحاً، حتى من يتخاطب معه باللين وحسن القول يرد عليه بالقبح والعنف، ومن ينصحه بالرفق والطيب يجيبه بالبذاءة والفحش والله المستعان.
عباد الله: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" [الترمذي (1977)]. ويقول -عليه الصلاة والسلام- "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء" [الترمذي (2002)]. ويقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان : 63].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 17 - 18] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: ومن صور البذاءة التي نراها منتشرة في واقعنا بذاءة اللسان في التكلم بالأقوال القبيحة والألفاظ الواطية، واستخدام الكلمات البذيئة، وهذا تجده عند بعض الناس لا يتكلم إلا بالكلام الساقط المهين، والكلمات الصريحة في البذاءة والقبح. وإن استخدام الكلمات السوقية الصريحة أمر يجب على الإنسان العاقل أن يترفع عنه ولا يستخدمه، لأن فيه دليل على قلة الحياء، وغياب المروءة، وضعف الأدب.
عباد الله: إن القرآن الكريم يعلمنا الأخلاق والأدب في اختيار الألفاظ وانتقاء الكلمات التي نعبر بها عن مثل هذه المواضيع، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة:223] انظروا إلى هذا التعبير القرآني وما فيه من بيان بليغ وكلمات منتقاة، فهو تعبير عن الجماع ولكن بكلمات نقية معبرة.
وقال -سبحانه وتعالى-: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة:187] وعائشة -رضي الله عنها- تقول: "ما رأى مني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ولا رأيت منه" [الأنوار في شمائل النبي المختار (1060)] فانظروا إلى ألفاظها -رضي الله عنها وأرضاها-! لم تأت بالألفاظ الأخرى, ولم تستخدم الألفاظ الجارحة الفاضحة، وهكذا يكون المسلم, لا يقول إلا طيبا؛ لأنه طيب, والمؤمن لا يخرج من لسانه إلا الطيب.
فإياك والكلماتِ الفاضحةَ غيرَ المهذّبة؛ فهذه فحشاءُ لا يحب المؤمن إشاعتَها، ولا ينبغي له أن يتكلم بها، لأن في الكناياتِ مخرج، فغلِّف كلامَك بغلافِ الأدبِ، وسياج الحشمة، وألفاظ الجمال والوقار.
وانظر إلى تعبير قرآننا العظيمِ يقول الله: (فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) [البقرة: 222]، وقال: (وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة: 237]فهذه الآيات كلها فيها كنايات عن مسائل يستحي الناس من ذكرها، ويتعفف العقلاء من التصريح بها.
بل إن العرب كانوا لا يستخدمون في كثير من المواطن غير اللائقة إلا الكنايات، ومن كناياتِ العرب يقولون: لسانه طويل "لبذيء اللسان"، ويقولون نشر غسيله "لمن فضح نفسه"، ويقال: نؤوم الضحى "للمُنعَّمَة المترَفة"، وأوانيه نظيفة "للبخيل"، و قلبه في جناحي طائر "للخائف" ،ونقية الثوب "للعفيفة".
وذهبت إحداهن تشكو فقرها للخليفة، فقالت: "أشكو إليك قلّة الجرذان في بيتي" بمعنى أنه لا يوجد في البيت ما يؤكل فغابت الجرذان عن بيتنا واختفت من دارنا، فعرف مقصودها باختيار كلماتها.
يقول العلماء: إن من أسباب الكناية في القرآن: أن يذكر بالكناية ما يفحش ذكره في السمع، فيكني عنه بما لا ينبو عنه الطبع، وقد قال الله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) [الفرقان:72] ومما قيل في تفسيرها: أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته.
وقد قال تعالى: (وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً) [البقرة:235] فكنى عن الجماع بالسر، وقال: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) [البقرة:187] فكنى عن الجماع بالمباشرة لما فيها من التقاء البشرتين، وقال: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) [النساء:43] بدلاً من الجماع، إذ لا يخلو الجماع من ملامسة، وقال كذلك في الجماع: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ)[الأعراف:189].
وكنى عما يخرج من الإنسان من الفضلة في قصة مريم وابنها، (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) [المائدة:75] قال بعض أهل العلم بالتفسير: أراد أيضاً مع الأكل البول والغائط، فأخبر بالمسبب إذ لابد للإنسان من البول والغائط، لكن لما كان مما يستقبح كنى عنه بذلك، وأراد أن يقول: إن مريم وابنها يأكلان الطعام ويخرجان الفضلات، ولا يمكن لأحدهما أن يكون إلهاً، فإن الله تعالى منزه عن ذلك.
وقال -عز وجل-: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) [المائدة:6] والمقصود بالغائط قسيم البول، ولكن قال: الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض، لأن العرب كانوا إذا أرادوا قضاء حاجاتهم أبعدوا عن العيون إلى مكان منخفض من الأرض، حتى إذا نزل أحدهم فيه ليقضي حاجته لا يرى، فكني عنه بالغائط، فانظر إلى لطيف اللفظ، وكيف يعلمنا الله الأدب في التعبير عن هذه الأشياء.
عباد الله : وفي الأخير أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، والبعد عن بذاءة اللسان، وأوصيكم بالعفة في الكلام، وتجنب الألفاظ القبيحة، والكلمات المستقذرة، والعبارات الجارحة، فإن هذا كله يعد من بذاءة اللسان الذي حذرنا الله منه وحذرنا منه رسولنا -صلى الله عليه وسلم-. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شانَهُ، ومَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ" [أحمد (12689)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارزقنا حلاوة المنطق وحسن الكلام والقول الحسن.
اللهم إنا نعوذ بك من الفحش والتفحش وبذاءة اللسان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم