عناصر الخطبة
1/ الجهل والتقليد أعظم أسباب انتشار البدع 2/ ارتكاب البدع أعظم المحرمات 3/ عدم ثبوت نص في فضل رجب منفردًا 4/ شروط قبول الأعمال 5/ من بدع شهر رجباقتباس
جعل الله تعالى في السنة أربعةَ أشهر حرمًا، وشدد على العبد أن يرتكب فيها المحرمات، وإن من أعظم المحرمات على العبد ارتكاب البدع، فالبدعة في الجملة أشد حرمة وأعظم إثمًا من المعصية، بل من الكبيرة. وهذه الشهور هي ذو القَعدة وذو الحجة ومحرمٌ ورجب، ونحن في هذا الشهر شهر رجب، نلحظ أن هناك بدعًا كثيرة يقع فيها الناس وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أنهم على هدى وأنهم مأجورون على ذلك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أمرنا باتباع الكتاب والسنة، ونهانا عن الابتداع والفتنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ترك أمته على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على نهجه وتمسكوا بسنته ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد". وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". فكل عمل ليس بأمر الشارع فهو مردودٌ على صاحبه غيرُ مقبول منه.
فلهذا كان لزامًا على كل مسلم أن يسعى جاهدًا في معرفة دينه، ومعرفة السنة من البدعة حتى لا يقع فيها وهو لا يشعر، قال -جل وعلا-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
عباد الله: إن من أعظم أسباب انتشار البدع وما لا أصل له بين المسلمين الجهلُ والتقليد الأعمى؛ يقول الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
فلقد جعل الله تعالى في السنة أربعةَ أشهر حرمًا، وشدد على العبد أن يرتكب فيها المحرمات، وإن من أعظم المحرمات على العبد ارتكاب البدع، فالبدعة في الجملة أشد حرمة وأعظم إثمًا من المعصية، بل من الكبيرة.
وهذه الشهور هي ذو القَعدة وذو الحجة ومحرمٌ ورجب، ونحن في هذا الشهر شهر رجب، نلحظ أن هناك بدعًا كثيرة يقع فيها الناس وهم لا يشعرون، بل يعتقدون أنهم على هدى وأنهم مأجورون على ذلك.
وقد بيّن الإمام ابن حجر -رحمة الله عليه- في رسالته (تبين العجب في فضل رجب) أنه لم يثبت عن النبي في فضل شهر رجب حديث، وكل ما جاء فيه فهو إما ضعيف أو موضوع.
معاشر المسلمين: قبل البدء في تعداد ما يفعل في هذا الشهر من البدع ينبغي أن نبيّن أصلين عظيمين، لا تقبل أعمال العباد إلا بهما، وهما: الإخلاصُ لله في العمل، والمتابعةُ للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مشروعية العمل، فإن اختل أحدهما لم يقبلِ العمل كما قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، فقوله: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً): يعني متابعًا فيه الرسول حتى لا يكون من البدع، كما جاء في تعريف الرسول: "وأن لا يعبدَ اللهُ إلا بما شرع".
وقوله: (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي أن يكون مقصد العبد في عمله هو وجه الله تعالى.
إذا اتضح هذا، فكل عمل يتقرب العبد فيه لربه خصوصًا في هذا الشهر، فلا بد من معرفة مدى شرعية هذا العمل ونحن نجمل لك القول فنقول: إنه لم يصحَّ عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في فضل شهر رجب حديثٌ غيَر أنه من الأشهر الحرم، وهذا لا يقتضي إحداثَ أعمال فيه لم يأت بها الشارع الحكيم.
عباد الله: إن المسلم الطالب للخير والثواب يبحث عنه في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: "إني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله"، وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7].
وليعلم العبد المسلم أنه إن أراد الخير والتمسك بالطاعات، فليتعلم السنة وما ورد عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حتى يعبد الله على بصيرة، فمن فعل ذلك فقد ضُمن له الفوزُ والفلاح في الدنيا والآخرة؛ يقول ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق".
فعلينا ألا نزيد في دين الله ما ليس منه، وعلينا أن نتمسك بسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛ قال بعض أهل العلم: السنة سفينة نوح، من ركب فيها نجا. فماذا يريد المسلم إلا النجاة؟!
معاشر المسلمين: إن مما ابتدعه الناس من أنفسهم ولم يرد به الشرع، صيامُ شهرِ رجب أو بعضِه اعتقادًا أن للصيام فيه مزيةً على غيره، ولم يصحَّ في صوم شهر رجب بخصوصه حديث، ولكن من كان له عادةُ صومٍ يصومها فليفعل. بل لم يكن -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهراً كاملاً سوى رمضان؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقولَ: لا يفطر، ويفطر حتى نقولَ: لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان". ورُوي عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام ويقول: "ما رجب؟! إن رجباً كان يعظمه أهل الجاهلية فلما كان الإسلام ترك". وفي رواية: "كره أن يكون صيامه سُنَّة".
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- أنه رأى أهله يتهيؤون لصيام رجب فقال لهم: أجعلتم رجباً كرمضان، وألقى السِلال وكسر الكيزان.
اللهم أعذنا من البدع والضلالات، واجعلنا من أهل السنة العاملين بها والمتمسكين بها حتى الممات.
?الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: ومن البدع المحدثة في رجب: إحياءُ أولِ ليلة جمعة من رجب، وصيامُ نهارها، وهي التي يسمونها صلاةَ الرغائب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أول خميس من رجب وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة، وروي فيه حديثٌ موضوع باتفاق العلماء، مضمونه فضيلةُ صيام ذلك اليوم وفعلُ هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب، وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم، وهو الصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهيُ عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن هذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيمٌ لهذا اليوم من صَنعةِ الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك، حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام، وحتى لا يكون له مزية أصل". اهـ.
ومما يفعل في شهر رجب التقرب لله بالذبح، وقد كانوا في الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمونها العتيرة، فجاء الإسلام وأبطلها، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا فرع ولا عتيرة".
ومن ذلك أيضًا: صلاةُ أم داود، تفعل في يومٍ في وسط رجب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود؛ فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلاً". اهـ.
ومنها كذلك العمرة في رجب، وإن قال بعض أهل العلم بفضلها فيه إلا أن الصوابَ عدمُ الدليل على فضل العمرة فيه، بل لم يعتمرِ النبيُ -صلى الله عليه وآله وسلم- فيه ولم يأمر، وأما ما روي عن ابن عمر أنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- اعتمر في رجب فقد وهّمه أهل العلم في ذلك. أخرج البخاري ومسلم عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة، قلنا له: كم اعتمر رسول الله؟! قال: أربعًا: إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه، قال: وسمعنا استنانَ عائشةَ أمِ المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا أمه أو يا أم المؤمنين: ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن!! قالت: ما يقول؟! قال: يقول: إن رسول الله اعتمر أربع عمر إحداهن في رجب، قالت: "يرحم الله أبا عبد الرحمن؛ ما اعتمر عمرة قط إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجبٍ قط". وكذلك قال أنس وابن عباس: إن عُمَرَهُ كلَّها كانت في ذي القَعدة.
قال ابن القيم: "من قال إنه اعتمر في رجب فهذا غلط، فإن عمره مضبوطة محفوظة، لم يخرج في رجب إلى شيء منها البتة". اهـ.
فبهذا يظهر لنا أن من خص شهرَ رجب بالعمرة فيه معتقدًا أن لها مزيدَ فضل على غيرها من الشهور فقد أحدث في الدين، وعمله مردود عليه كما صحت به السنة، وأما من وافقت عمرته شهر رجب من غير قصد فلا يدخل في ذلك.
ومما أحدثه الناس في شهر رجب الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، ويزعمون أنها ليلةُ الخامس والعشرين من رجب، وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- لم يحتفلوا بها ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها أمرًا مشروعًا لبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمة، إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشْتُهر ولنقله الصحابة -رضي الله عنهم- إلينا، فقد نقلوا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم السابقون إلى كل خير، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعًا لكانوا أسبق الناس إليه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو أنصح الناس للناس، وقد بلّغ الرسالة غاية البلاغ.
عباد الله: إن البدع التي أحدثها الناس كثيرة وللأسف، ولكن ما أحسنَ الثباتَ على السنة! وأن لا يعملَ المسلم أيَّ عبادةٍ يتقرب بها إلى الله حتى يعلمَ دليلَها أو يسأل عنها أهل العلم، ليكون على بصيرة من دينه: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ).
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شح نفوسنا، اللهم جمل بواطننا بالإخلاص لك، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اجعل عواقب أمرنا إلى خير، وردّ عنا كيد الفجار.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم