عناصر الخطبة
1/ عِظَم مكانة العلماء 2/ فضل العلم والتعلم 3/ الفرق بين لفظتي العام والسنة 4/ نصيحة في بداية العام الدراسي الجديد 5/ صفات العلم النافع 6/ سمات المعلمين الصالحين 7/ صفات ثلاثة كفيلة بإخراج التعليم من أزماته 8/ تاريخ مشرف للمسلمين في العلم والتعليم 9/ أين المسلمين اليوم من العلم والتعليم؟ 10/ أعظم مقوّم من مقومات نهضة الأمة 11/ ما العلم الذي يطلبه الإسلام ويشيد به القرآن؟ 12/ أهم امتحان نعلمه لأبنائنا.اقتباس
أدرك أعداء الأمة أن التعليم هو أساس كل نهضة، ومن ثم حاولوا أن يفصلوا المسلمين عن كتابهم الذي هو أصل العلم ومنبع الحكمة، ويفصلوهم كذلك عن السنة التي هي تفسير عملي لكتاب المنزل.. إن الربانية في التعليم هي العلم والحكمة والحلم، وهذه الثلاثة إذا اجتمعنا في معلم كان قدوة بحق، وأعظم مشكلات الأمة اليوم في جميع القطاعات: عدم وجود القدوة، إلا من رحم الله، فمعلم بلا علم سيخرّج أجيالاً من الجاهلين، ومعلم بلا حكمة سيخرج أجيالاً من المتعنتين، ومعلم بلا حلم سيخرج أجيالاً من المرضى النفسيين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: إذا الأصول راسية؛ والفروع سامية؛ والهمم عالية؛ والقيم غالية؛ والنفوس تقية؛ والصدور نقية؛ والعِصم قوية، والذمم وفية؛ والمقامات والتوالد والطوارف كريمة، والمقامات والمواقف عظيمة، أوفت المحاسن بتكاثرها وجلت المفاخر بتكاملها، وطال ميدان الثناء فلم يقصر وانطلق لسان المديح فلم يحصر، وحكم التمييز والتفضيل في مقام التطبيق والتنزيل، فإن الناس فوضى فيما اشتركوا فيه من الخلق، وشتى فيما اختصوا فيه به السبق، لا جرم أن أحكامهم متنافية غير متساوية، ومنازلهم متفاوتة غير متناسبة، فالفاضل مقدم مرفوع والمفضول مرفوض مدفوع والعالم مكرم موقر، والجاهل مهان مؤخر.
وما شيء طلبت الاستزادة منه في الكتاب إلا العلم دلالة على عظيم شرفه: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه: 114]، وما فئة نالت المدحة في الكتاب كفئة العلماء: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[فاطر: 28]، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ)[الزمر: 9].
ولما كان العلم بهذه المنزلة وجب الاهتمام بسببه وهو التعلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما العلم بالتعلم".
ويقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وعالما أو متعلما" (رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي)
وهذا الحديث يبين أن أزكى ما في الدنيا وأعظم: ذكر الله، وما تعلق به، والعلم والتعلم.
أيها الأحباب: وانطلق العام الدراسي، وأنا أقول العام بدل السنة، أقولها تفاؤلاً؛ لأن كلمة عام في القرآن ارتبطت بالخصب والغيث، وكلمة سنة ارتبطت بالقحط والجدب، قال أبو علي الفارسي "السنة على معنيين: السنة يراد بها الحول والعام، والآخر يراد به الجدب وهو خلاف الخصب".
وقال الفيروز: "يعبر عن الجدب بالسنة، وعما فيه رخاء بالعام"، وجاء في تفسير الدر المصون "وقد غلبت السنة على زمان الجدب، والعام على زمان الخصب حتى صار كالعلم بالغلبة".
ولذلك اشتقوا من لفظ السنة فقالوا: "أسنة القوم" أي: أصابهم القحط، قال حاتم الطائي:
وإنا نهين المال في غير ظنّة *** وما يشتكينا في السنين ضريرها
قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ)[الأعراف: 130]، أي: بالقحط، وقال تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف:49].
قلنا: إن كلمة العام ارتبطت بمعاني الغيث، وما أحوجنا إلى الغيث في العام الدراسي الجديد، وفي كل الأعوام الدراسية؛ فإن الأمة اليوم في أشد الحاجة إلى غيث يعم مناهج تعليمها، وغيث يشمل المدرسين والدارسين.
لأن الأمة في الحقيقة عانت ولا تزال من جفاف أو قل -إن شئت-: تجفيف لكل منابع الخير التي من شأنها أن ترقي أحوال التعليم في بلاد المسلمين، فإن أعداء الأمة أدركوا أن التعليم هو أساس كل نهضة، ومن ثم حاولوا أن يفصلوا المسلمين عن كتابهم الذي هو أصل العلم ومنبع الحكمة، ويفصلوهم كذلك عن السنة التي هي تفسير عملي لكتاب المنزل، قال تعالى (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)[النساء: 113]، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ –وظائف النبوة- وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[الجمعة: 2].
إذاً الغاية من التعليم التزكية، ووسائل هذا التعليم الكتاب والحكمة، والحكمة هنا السنة، قال تعالى (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)[الأحزاب: 34]، والمعلم هنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن هنا تظهر مكانة التعليم وشرف المعلمين ولكن أي تعليم وأي معلمين؟
التعليم الذي أساسه الكتاب والحكمة، والمعلمون الذين هم على آثار المعلم الأعظم محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ما هي صفاتهم: أن يكونوا ربانيين، ينبغي لكل من اتصل بهذا العالم الشريف النبيل عالم التعليم أن يكون رباني، قال تعالى (كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)[آل عمران: 79]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو حبر الأمة وبحرها وربحها قال: "ربانيين أي: علماء حكماء حلماء".
وأقسم بالله العظيم صادقًا هذه الصفات الثلاثة كفيلة بإخراج التعليم من أزماته: العلم، والحكمة، والحلم، يندرج تحت العلم التمكن والتخصص وسعة المدارك، ينبغي لمن تخصص في تدريس مادة من المواد أن يكون عالمًا فيها متخصصًا محيطًا بها، لا أن يكون متطفلاً على المادة، هدفه فقط المادة –يعني: المال- ويندرج تحت الحكمة وسيلة تبليغ هذا العلم الشدة في محلها، والرفق في محله، ومسايرة العصر والبحث العلمي، والقدرة على التعامل مع الوقائع والأحداث، ويندرج تحت الحلم الصبر على التعليم، والرفق بالمتعلمين، وألا يكون الهدف استنزاف الجيوب والصبر على الجاهل حتى يتعلم والرفق بقليل الفهم حتى يفهم.
قلنا: إن الربانية في التعليم هي العلم والحكمة والحلم، وهذه الثلاثة إذا اجتمعنا في معلم كان قدوة بحق، وأعظم مشكلات الأمة اليوم في جميع القطاعات: عدم وجود القدوة، إلا من رحم الله، فمعلم بلا علم سيخرّج أجيالاً من الجاهلين، ومعلم بلا حكمة سيخرج أجيالاً من المتعنتين، ومعلم بلا حلم سيخرج أجيالاً من المرضى النفسيين.
ومن هنا تظهر ضرورة الربانية في التصدر للتعليم ويظهر كذلك الجانب التعبدي في قضية التعليم فالرباني هو المنتسب للرب ومن ثم فإن المعلم الرباني هو الذي يخلص نيته لربه ويعتبر فيه من تعلم المسلمين عبادة وجهاد يبتغي به القرب من الله (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ) استعمل هنا كلمة نفر والنفير يكون في الجهاد.
أيها الأحباب: إن الناظر في تاريخنا المجيد ليعجب أشد العجب لهذا التراجع الذي حصل بعد أن كنا سادة في العلوم والفهوم تشد الرحال إلى علمائنا والأمثلة كثيرة، وأقربها إلينا زمانًا ومكانًا الأندلس، ففي أوائل القرن الثالث عشر الميلادي كانت الدولة الإسلامية قد بلغت القمة السامقة في العلم والثقافة، مما دعا الملك جورج آنذاك أن يتوسل إلى خليفة المسلمين ليقبل وفادة بعثة من نبلاء إنجلترا لتلقي العلم في مدارس الأندلس..
وكتب ملك إنجلترا للخليفة يقول: "من جورج ملك انجلترا إلى خليفة المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث، الجليل المقام، بعد التعظيم والتوقير، نفيدكم أننا عرفنا الرقيّ العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة".
واستجاب الخليفة، وحقق رغبته فأمر بتعليم البنات على نفقة بيت المسلمين.
هكذا كنا تُشد إلينا الرحال، وننشر العلم في كل مجال، هؤلاء أجدادنا فأين نحن؟!
ولله در معروف الرصافي حين يقول:
فدعني والفخارَ بمجد قوم *** مضى الزمن القديم بهم حميدا
وقد عهدوا لنا بتراث ملك*** أضعنا في رعايته العهودا
وعاشوا سادة في كل أرض *** وعشنا في مواطننا عبيدا
إذا ما الجهل خيّم في بلاد *** رأيت أسودها مُسخت قرودا
ويقول كذلك:
وهل إن كان حاضرنا شقيا *** نسود بكون ماضينا سعيدا
نعم ماضينا مشرق ماضينا ملهم، لكن أيدٍ خافية حالت بيننا وبين ماضينا، في صورة من صور المسخ والتشويه حتى انقلبت الصورة فتراجعنا وتقدموا واستسلامنا وتسلموا، ولا شك أن من نتائج الضعف التبعية والاستسلام، وهذا ما حصل في أغلب بلاد الإسلام.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي حث على العلم ورفع قدر العلماء وجعلهم الصفوة من عباده والنجباء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل من لحق وسبق الذي أنزل عليه ربه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)[العلق: 1]، فكانت أول خطاب إلهي للمسلمين، صلى الله عليه وعلى آله العلماء وأصحابه النجباء ومن صار على نهجهم إلى يوم اللقاء.
معاشر الفضلاء: أين المسلمين اليوم من العلم والتعليم؟
إن الناظر اللبيب في أحوال التعليم في أمتنا ليقف على الواقع المؤسف والقطيعة الحاصلة بين ماضي الإشراف وواقع الاسترقاق، الاسترقاق العلمي والفكر والأدبي والمنهجي والسلوكي.
إن أعظم مقوّم من مقومات نهضة أي أمة هي اللغة، فما مكانة لغتنا العربية اليوم؟ إن لغتنا العربية تكاد تكون خالية من علوم الطب والصيدلة والأحياء، وأغلب فروع الهندسة والكيمياء وعلوم الفضاء والإلكترونيات، وغيرها من العلوم.
أفبهذا الفراغ نحمي ديننا ونحرس إيماننا، ونرد أعدائنا، ونطور ذاتنا، ونصون حمانا؟! أين العلم الذي يسعفنا ويقيم لنا صناعة مستقلة، أين العلم الذي يصون عقائدنا، ويجعل يدنا هي العليا، أين العلم الذي يمكننا من أن تُثِيرُ الأرض، ونعمرها كما فعل غيرنا، أين العلم الذي يحكم علاقتنا بكتابنا، وينقلنا إلى جوه الممدود بين السماء والأرض.
إن واقع تعليمنا اليوم أقرب إلى الاستسلام منه إلى أخذ الذمام، إن الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وعلوم الذرة وعلوم الطاقة وغيرها علوم يحتاج إليها المسلمون، ومع هذا لم تعطَ حقها.
إن العزلة عن الكون وعلومه جريمة في حق الإسلام وأهله، فالعبادة كما تكون مناجاة لله في صلاة خاشعة تكون كذلك مدارسة لعلمه الجليل في كونه الكبير.
إن العلم الذي يطلبه الإسلام ويشيد به القرآن، ويحث عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو العلم النافع الذي يدل الإنسان على الله، ويهديه إليه، ويربطه به، وهذا العلم الذي يحض عليه الإسلام هو علم الدنيا والآخرة.
العلم الذي يزكي النفس ويسمو بالروح ويعرف المسلم حق الله عليه ثم العلم الذي يجعل من الدنيا مكانا طيبا للحياة عن طريق المعرفة والحضارة وقد جمع الله تعالى كثيرا من علوم الكون في آيتين وهو بذلك ينبّه عليها، ويحث على طلبها وتحصيلها، ويجعلها طريقًا إلى معرفته وخشيته.
وهذان الآيتان هما قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 27- 28].
ففي ذكر إنزال الماء من السماء إشارة إلى علم الفلك، وارتباط السماء والأرض، وفي ذكر الثمرات مختلفة الألوان إشارة إلى علم النبات، وفي ذكر الجبال إشارة إلى علم الجيولوجيا، وفي ذكر الناس والدواب والأنعام واختلاف كلا منهم إشارة إلى ما يسمى بعلم الجيولوجيا، ومن هذا التركيب العجيب نستطيع أن نلمح أن الله –تعالى- يأمر الناس بدراسة الكون، ويحضهم على ذلك، ويجعل العارفين منهم بدقائقه وأسراره هم أهل معرفته وخشيته.
إن دائرة العلم في الإسلام أوسع من أن تحد، وأشمل من أن تُحصر بنوع أو اتجاه، فالمسلم يتعلم كل ما ينفعه، وكل ما يحتاجه، وكل ما يطمح له، لكن المسلم يعلم أن العلم لا خير فيه، ولا أثر له إن لم يهدِ إلى الحقيقة الأولى، وهي معرفة الله -سبحانه وتعالى- وإلا فما الفائدة أن يعلم الإنسان من خصائص الكون وطبائع الأشياء ما يعلم، ثم يغفل عن الخالق الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
إن العلم في هذه الحالة لم يقم بدوره، ولم يهدِ الإنسان إلى غاية وجوده، وحقيقة مهمته في هذه الحياة، فأي علم لا يؤدي إلى الاهتداء إلى الله –تعالى- ولا يقوم على إدراك فضل الله في تعليم الإنسان ما لم يعلم، وفي منحه القدرة على الإدراك، وفي تسخير النواميس الكونية له، أيّ علم لا يقوم على هذه الأسس هو علم ضالّ مضلّ، وليس هو العلم الذي تقصده الآيات القرآنية وتثني عليه.
ولذلك كان من دعاء سيد العلماء -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" أي: لا يوصل العبد إلى مولاه، ولا يوصله إلى مسألة الاستعداد للقاء الله.
إن علمًا لا يثمر خوفًا لا يعتبر علمًا في ميزان القرآن، تأمل في ثناء الله على الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض وتأمل فيما وصل به إليه هذا التفكر (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190- 191].
الخشية والخوف غاية كل علم هو إجلال الله، هو الخوف من الله، وعندما ترى تعليما يخرج قوافل من المنقطعين عن دينهم المتحللين من أخلاقهم، فاعلم أنه تعليم لا يستند على أساس، وليس له اعتبار في ميزان الله.
وجاءت في سورة الذاريات الدعوة إلى العلم علم الكون وعلم النفس وعلم الطب فقال تعالى (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات: 7]، وهنا مبحث عظيم ومجال خصب للبحث والعلم إلى أن قال (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].
ثم تواصل سورة الحديد والدعوة إلى البحث في أرجاء هذا الكون الفسيح (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات:46- 49].
وفي ختام السورة يتحدث عن الغاية من هذا كله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56- 58].
إن الإسلام لم يقف يومًا في وجه التقدم العلمي، بل إنه يقدر الجهود الفكرية في الإنسان إلى درجة يرفعه فيها إلى مقام عظيم، هذا ولقد حاول أعداء الإسلام أن يصوروا رأي الإسلام بالنسبة الحديث، وأوهموا الناس كذبًا، وزوّرا أن الإسلام عدو التقدم العلمي والحضاري، وأن الرجوع إلى الإسلام رجوع إلى عصور التخلف، وشر العيش، ومع الأسف هناك من أبناء الإسلام من ساهموا في هذا التصور وأعطى صورة سلبية عن الدين وقيمه ورقيه وحضاريته وعظمته وسموه.
قلت: حاولوا أعداء الإسلام أن يصوّروا للعالم أن الإسلام عدو التقدم والتحضر، وهذا خداع خبيث فالمسألة ليست كذلك أبداً، فالمنهج الإلهي ليس عدوًّا للإبداع الإنساني إنما هو دافع له، وموجه له الوجهة الصحيحة كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض هذا المقام الذي منحه الله له وأقدره عليه، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه.
ولله در الرصافي حين يقول:
يقولون في الإسلام ظلماً بأنه *** يَصُدّ ذويه عن طريق التقدم
فإن كان ذا حقّاً فكيف تقدّمت *** أوائله في عهدها المتقدم
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله *** فماذا على الإسلام من جهل مسلم
هل العلم في الإسلام إلاّ فريضة *** وهل أمة سادت بغير التعلُّم
لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلا *** بصائر أقوام عن المجد نُوَّم
وحلّت له الأيام عند قيامه *** حُباها وأبدت منظر المتبسّم
فأشرق نور العلم من حَجَراته *** على وجه عصر بالجهالة مظلم
ودّك حصون الجاهلية بالهدى *** وقَوّض أطناب الضلال المخيّم
وأنشط بالعلم العزائم وابتنى *** لأهليه مجداً ليس بالمتهدّم
وأطلق أذهان الورى من قيودها *** فطارت بأفكار على المجد حُوَّم
وفَكّ أسار القوم حتى تحفّزوا *** نهوضاً إلى العلياء من كل مَجْثَم
أيها الأحباب: لا شك أن التعليم هو إمداد وإعداد، ثم امتحان بعد ذلك، فهل أعددنا الأجيال لأعظم وأول امتحان ينبني عليه مصير الإنسان وهو الامتحان الذي بلغتنا أسألته امتحان القبر، من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
هذا الامتحان العظيم ينبغي أن يكون المحور في تعليمنا في كل مراحله، ينبغي أن نعلم أبناءنا العقيدة الصافية الصحيحة، وأن نعلمهم الشريعة النقية، وأن نعرفهم على السيرة الذكية سيرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير البرية.
ولو كان الأمر كذلك لو كنا على هذه الشاكلة لما رأينا أجيالاً من الشباب مع الأسف لا همّ لهم إلا الشهوات واللهو، وما رأينا مشاهد التبرج الفاضح في أسوأ صوره، وما رأينا ممارسات أبناءنا وبناتنا على أبواب المدارس من تدخين ومخدرات وأشياء وأشياء إلا من رحمه الله.
إننا في أمس الحاجة أيها الكرام إلى إعادة النظر في مجال التعليم وفي المناهج التي يتلقاها أبناؤنا وفي المعدين الذين يعدون الأجيال يجب أن تعود للتعليم هيبته ومكانته، ولا بد أن تتعاون في ذلك كل الجهات؛ لأن المسئولية عظيمة، وأول من يجب عليه أن يتعاون في هذا الباب الإعلام؛ لأن الإعلام إما إعداد وإلهام وإما إفساد وإعدام.
يجب أن نحمي أبناءنا من أنفسهم، تأملوا هذا الكلام، يجب أن نحمي أبناءنا من أنفسهم وذلك بالعلم والحلم والحكمة، وتلك هي الربانية وكل إصلاح لا ينطلق من الكتاب من القرآن فلا يسمى إصلاحا ولا يثمر نجاحا ولا يؤتي فلاحا، قال تعالى (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم