عناصر الخطبة
1/ رهبة موقف الامتحانات والوقوف بين يدي الله 2/ وقفات تربوية مع الامتحانات 3/ يوم الامتحان الأكبر 4/ لماذا يدرس الأبناء ويتعلمون؟! 5/ الغش في الامتحانات 6/ مسؤولية الآباء تجاه الأبناء 7/ الجدية في التعامل مع الأمور كافة 8/ الوصية بتقوى الله تعالى 9/ التحذير من الغفلةاقتباس
كل عام يتكرر هذا الموفق، وهذا المشهد، مشهد دخول الطلاب والطالبات إلى قاعات الامتحانات، هذا المشهد لابد من الوقوف معه وقفات تربوية، علّها تحث على بذل الجهد، وتشجع على التحصيل، وتثمر عند الحصاد...
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: تُظلنا في هذه الأيام استعدادات لألوف من الطلاب والطالبات الذين يتهيؤون لدخول اختبارات نهاية العام، بعد شهور من العمل والجد والاجتهاد، فتجدون الكل ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد، فالاختبار فيه شيء من الرهبة، وهو يحدد مصير صاحبه، فتغمره الفرحة بالنجاح، ويسود وجهه أو يعلوه الاكتئاب بالفشل والرسوب إن كان عنده كسل أو تقصير.
نعم أيها الإخوة المؤمنون، نعم -أيها الآباء والأبناء- إن الموقف رهيب، وإن المسؤولية عظيمة وكبيرة، ولكنها مهما كانت كبيرة ومهما كانت عظيمة، ومهما كان الموقف رهيبًا، يبقى ذلك كله أهون وأسهل من الموقف العظيم بين يدي الله، ومن المسؤولية والاختبار الذي يكون بين يدي الله تعالى.
الكل سيسافر سفرًا بعيدًا، بل سفرًا نهائيًا يودع فيه هذه الحياة، ويترك فيها كل مكان يؤمله ويحبه ويسعى من أجله، ليقف بين يدي رب العزة -تبارك وتعالى- وقد أُخرج له كتاب يلقاه منشورًا (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء: 14]، يقف للاختبار الرهيب حقًا والموقف العظيم حقًا، عند أحكم الحاكمين الذي يضع الموازين القسط ليوم القيامة ولا يظلم ربك أحدًا.
فهل ترون -أيها المسلمون- أن استعدادنا لذلك الامتحان كان متناسبًا مع أهميته وعظمته وقد خلقنا الله تعالى من أجله حيث قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وقال -عزّ وجل-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: 14].
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بما لا يُحصى من النعم والخيرات والمواهب والملكات، حتى قال سبحانه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وأعطاه كل ما يساعده على اجتياز الامتحان بنجاح، وعندئذ اختلف الناس، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، منهم من اتقى وأطاع ومنهم من فجر وعصى، منهم من حقق النجاح ومنهم من كُتب عليه الشقاوة والفشل.
أيها المسلمون: كل عام يتكرر هذا الموفق، وهذا المشهد، مشهد دخول الطلاب والطالبات إلى قاعات الامتحانات، هذا المشهد لابد من الوقوف معه وقفات تربوية، علّها تحث على بذل الجهد، وتشجع على التحصيل، وتثمر عند الحصاد.
الوقفة الأولى: أبناؤنا غدًا تفتح لهم أبواب قاعات الامتحانات، ويجلس الواحد منهم يُسأل وحيدًا فريدًا لا معين له ولا مُسدد إلا الله على ما بذله من جهد في الاستذكار، غدًا الامتحانات، يُسأل فيه التلميذ عما حصله في عامه الدراسي وحاله في وجل واضطراب، عما تخفيه له ورقة النتيجة من مفاجآت ربما لم يكن متوقعًا لها، يخاف من عدم النجاح، من الفضيحة بين أقاربه وأهله، يخاف من العقوبة لو لم ينجح في الامتحان، يخاف من ذل الخسارة، وليس بملوم في كل ذلك، ولكنني أبشر كل طالب اجتهد وثابر، وترك الراحة والكسل من أجل النجاح أبشره بالفوز، أبشره بالسرور في يوم إعلان النتائج، واستلام صحائف الدرجات.
أيها المسلمون: ما أشبه اليوم بغد، أتدرون أي غدٍ أعني؟! إنه يوم الامتحان الأكبر، يوم السؤال عن الصغيرة والكبيرة، السائل رب العزة والجلال، والمسؤول هو أنت، ومحل السؤال كل ما عملته في حياتك، من صغيرة أو كبيرة، فيا له من امتحان! ويا له من سؤال! ويا له من يوم يجعل الولدان شيبًا، فعند الإمام مسلم -رحمه الله- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّم، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّم، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِه، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".
الوقفة الثانية: سؤال مهم: لماذا ندرس؟! ولماذا نُمتحن؟! لماذا كل هذا العناء؟! أليس الذي جعل الشوارع نزهته، والأرصفة مَسْمَرَهُ، والطرب منتهى أحلامه؟! أليس في راحة وهدوء بال؟! إذن فلم كل هذا العناء؟! دراسة وجهد وسهر ثم امتحان ثم ماذا؟! هل الهدف من الدراسة هي مجرد تلك الشهادة لتعلق على الجدار؟! أم أن الهدف أن يفتخر المرء بأنه درس وتفوق؟! أم أن الأمر مجرد ملء للفراغ وإشغال للوقت؟! أم أن الهدف وظيفة مرموقة، وكرسي دوّار وثير؟! أم أنه منصب نسعى له، فنلبس العباءة المزركشة بالذهب، ونشرِّف الحفلات؟! يا ترى ما هو الهدف؟! إنني لأتساءل: يا ترى ما هي الأهداف التي نبتغيها من دراسة أبنائنا وتفوقهم، والتي نزرعها في أفئدتهم طيلة سنواتهم الدراسية؟!
أيها المسلمون: إن الواجب على كل أب أن يزرع في ابنه حب التفوق؛ لأنه لبنة بناء في مجد الأمة، لأنه مصدر إنتاج في كيان الأمة، لأنه مشعل تستضيء به الأمة في هذا الظلام الدامس الذي انتابها في هذه العهود، نعم، كيف نبني؟! وكيف نصنع؟! وكيف نعلم ونطبب ونهندس؟! وكيف نخطط وننتج؟! بل كيف نستغني عن الاستعانة بالخبير الأجنبي الذي ليس همَّه إسلامٌ ولا أمةٌ، بل همه تدمير الأمة ورجالاتها، إذا لم يتربَّ أبناؤنا على حمل هم المجتمع، بل الأمة كلها منذ نعومة أظافرهم، حتى حملهم للشهادة التي يبتغي هم و أسرهم، نعم علينا أن نحيي في نفوس أبنائنا أنهم بناة المجد، وهامة العلو، والقوة التي ننتظرها، والحصن الحصين الذي تتحصن به أمتهم، ليس الهدف مجرد شهادة ووظيفة وراتب عالٍ ومنصب، بل الهدف أشد رفعة من سمو الجبال الراسخة.
إذن ندرس من أجل الإنتاج، ندرس من أجل أن يكون الواحد منا بنَّاءً لمجد أمة الإسلام، لا يكن هم الواحد منا من الآباء والطلاب مجرد تحصيل الدنيا ونيل أجرها ونعيمها، فإن الله قد تكفل بالرزق، فعند الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ".
الوقفة الثالثة: روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا". ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من خادع الله يخدعه الله". نعم إن الغش في الامتحان تزوير ممقوت، وخُلُق سمج، وتطبع إجرامي، بل إن الغش جريمة في حق المجتمع؛ لأننا نخرج طلابًا زورًا وبهتانًا، ولأننا سنخرج أطباء مزورين، ومهندسين مزورين، بل ومعلمين مزورين، فيموت الإبداع في كل مجال، ويولى الأمر إلى غير أهله، فتشيع الخيانة، وينتشر الضعف في كل مجال، فيُعلى علينا ولا نعلو، ونُهزم ولا ننتصر؛ لأن مراكز العلو، ومراكز الإنتاج قد تولاها غشاشون مزوِّرون لا كفاءة لديهم ولا إبداع، نعم، هذا هو مآل التزوير والغش في الامتحان، لا تحسبوه هينًا فإنه عظيم جَدُ عظيم، وإن من يكشف غاشًا في قاعة الامتحان، أحسبه أنجد الأمة من مِعْوَل هدم سيهدم بناءها في المستقبل القريب بجهله وكسله وتفريطه، ثم بغشه وتزويره.
الوقفة الرابعة: نقف فيها مع ذلك الأب الرحيم، وتلك الأم الرحيمة، الذي أجهد كل واحد منهما نفسه، كأنه هو الذي سيُمتحن غدًا ليس ابنه، فلا يرتاح له بال حتى يغادر ابنه إلى قاعة الامتحان، ويا للهول لو نام الابن عن الامتحان، مصيبة عظيمة وذنب لا يمكن اغتفاره، وهو فعلاً كذلك، ولكن السؤال هنا: هل عملت مع ولدك لامتحان الآخرة ما تعمله الآن معه لامتحان الدنيا؟! هل سعيت لإنقاذه من فشل امتحان الآخرة، كما تسعى الآن لإنقاذه من فشل امتحان الدنيا؟! هل بذلت جهدك المتواصل في تعليمه وتفهيمه ما يعينه على امتحان الآخرة، كما تفعل ذلك لامتحان الدنيا؟!
اسأل نفسك: هل توقظ ابنك لصلاة الفجر وهو شاب بالغ عاقل، بنفس الحرص الذي توقظه به لحضور الامتحان؟! هل تعتني بتوجيهه وإرشاده إذا أخطأ في أمر شرعي، كما تعتني بتوجيهه وتصحيح خطئه في مذاكرته؟!
بل اسأل نفسك: هل أنت حريص على أن ينال ابنك الفوز في الآخرة، بنفس الحرص والحماس الذي تسعى له في نجاح ابنك في الامتحانات الدراسية؟!
يا عبد الله: تذكر أنك مسؤول عن هؤلاء الأبناء، ليس فقط من أجل نجاحهم في امتحان الدنيا، بل أنت مسؤول حتى عن نجاحهم في الآخرة، وفي الحديث المتفق عليه عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِه، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولة عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ومَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
الوقفة الخامسة: كثيرًا ما تطلب من إنسان أن ينجز بعض الأعمال ويقوم ببعض المهمات فيعتذر إليك بأن هذا فوق طاقته، وبأن هذا من المستحيل الذي لا يمكن تحقيقه و(لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)، فحين ترجو منه أن يقرأ كتابًا يزعم أنه لا يستطيع أن يقرأ أكثر من عشر صفحات، وحين تريده أن يسهر قليلاً لعمل خير يقول: لا يمكن أن أجاوز العاشرة، وحين ترغب منه أن يبذل جهدًا في صلاة أو عبادة أو عمل صالح يحتج بأن قوته وإمكاناته تقعد به عن ذلك، وحين ترغّبه في حفظ القرآن يشكو إليك أنه لا يكاد يحفظ.
نعم، وتجيء الامتحانات وإذا بهذا الشخص يقرأ في اليوم الواحد مئات الصفحات، ويسهر إلى الفجر، ويحفظ عشرات المعلومات، وينجز أشق المهمات، فهل يتغير الإنسان وتزداد طاقاته وتعظم مواهبه في أيام الاختبارات؟!
الجواب: لا، كل ما في الأمر أنه في أيام الاختبارات يستثير همته الكامنة، ويُبرز مواهبه المدفونة، ويُخرج طاقاته التي غطاها ركام الكسل والفتور والتواني، نعم -يا أخي- إن عندك من الطاقات والمواهب والملكات والقدرات ما لا يمكن الاستهانة به، وما تستطيع به لو استثمرته أن تحقق أقصى درجات النجاح، ولكن المشكلة أننا نكسل ونتوانى ونفتر.
لقد كشفت بعض الدراسات الحديثة أن الإنسان لا يستغل أكثر من 30% من طاقته، وأن نحوًا من ثلث عمره يذهب في النوم، أي أنه لو عاش ستين عامًا لكان نصيب النوم منها عشرين سنة، فتصور -يا أخي- لو أنك بذلت في حياتك كلها مثل الجهد الذي تبذله في الاختبارات أو حتى نصفه، إلى أين كنت ستصل؟! أما كنت سترتقي ذُرى المجد وتُحقق من الطموحات ما لعلك تعده الآن من قبيل الخيال؟!
إننا نعرف أناسًا تفوقوا في أعمالهم، وتميزوا في عباداتهم، ونجحوا في حياتهم، وبرعوا في العلم، وبرزوا في العمل، وحازوا أطراف الخير، وجمعوا خلال البر، فمن أين لهم هذا؟! هل هم مخلوقون من طينة غير طينتنا؟! أم أن الله خلقهم خلقًا خاصًا؟! لا والله، ما هو إلا استثمار الطاقات، وإحياء المواهب.
الوقفة السادسة: من الملاحظ دائمًا أن الطلبة ما يكادون يخرجون من قاعة الامتحان حتى ينسوا كل ما درسوه، ولا يكاد يبقى في أذهانهم منه شيء البتة، فما سر هذا؟! لعل مرد هذا إلى أن هذه المعلومات جاءت جملة وبسرعة، فهي كلها من محفوظات ليلة الامتحان، وهكذا كل ما لم ينل حظه من الإتقان والوقت يذهب هباءً، وحين لا يُعطي الإنسان العلم حظه من المراجعة والإعادة فإنه سرعان ما يتفلت منه.
الوقفة السابعة: أوصيكم -أيها الطلاب- بتقوى الله -عز وجل-، فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وجعل العسير يسيرًا وآتاه خيرًا كثيرًا.
خذوا -أيها الطلاب- بأسباب النجاح وأسباب الصلاح والتوفيق والفلاح، استذكروا واجتهدوا فإن تعبتم اليوم فغدًا راحة كبيرة عندما يحزن الكسلاء لكسلهم، ويفرح حينها الفائزون بفوزهم، عندها وكأنه لم يكن هناك تعب ولا نصب، ألا واعلموا أن أفضل أسباب النجاح وأجمعها وأصلحها: أن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، ثم التوكل على الله وتفويض الأمور كلها له سبحانه، فلا تعتمدوا على الذكاء والحفظ ولا على النبوغ والفهم فقط، بل فوضوا مع ذلك أموركم لله، والتجئوا إليه، واعلموا أن الذكي لا غنى له عن ربه، وأن الذكاء وحده ليس سببًا للنجاح بل إرادة الله وتوفيقه أولاً، لقد أوصى النبي –صلى الله عليه وسلم- ابنته فاطمة أن تقول: "يَا حَيّ يَا قَيُّوم: بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن".
إذا أراد الله بعبده التوفيق جعله مفوضًا الأمور إليه، فوفقه وسدده لكي يعتمد على حول الله وقوته، لا على حوله وقوته، وإذا وكل الله العبد إلى نفسه وكلَه إلى الضعف والخور.
فنسأل الله -جل وعلا- أن يكلأنا برعايته، وأن يحفظنا بحفظه، إنه سميع قريب مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
فاتقوا الله -معاشر المسلمين- وتذكروا على الدوام ما ينتظركم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1، 2].
أيها المسلمون: وتظل مساحة الغفلة عند كثير من المسلمين أكبر من مساحة اليقظة، رغم النوازل والنذر، وكفى بالقرآن واعظًا، وكفى بالقرآن على أعمال العباد حكمًا: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنبياء: 1-4].
ولئن تحدث القرآن وأزرى بغفلة الكافرين واستهزائهم، فكيف تسوغ الغفلة عند المسلمين، وهم يؤمنون بقوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].
حاسبوا أنفسكم -معاشر المسلمين- على الدوام قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأملوا في تتابع الليل والنهار، وتسارع الأيام والشهور والأعوام، واعلموا أن ذلك من أعماركم، وهي فرص للتأمل والنجوى مع أنفسكم، فمن أحسن ووفى فيما مضى فليستمر في الحسنى فيما يستقبل، ومن فرط أو سها فالفرصة لا تزال معه إذا ندم على ما مضى وعقد العزم على الجد فيما بقى، وربك أعلم بالمنتهى.
وإذا كانت الغفلة داءً واقعًا، فدواؤها باليقظة والتذكر، وذلك من علامات التقى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201]، وإذا كان نزغ الشيطان واردًا فالاستعاذة بالله خير عاصم: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 36].
عباد الله: لماذا نكره لقاء الله؟! لأنا لم نقدره حق قدره، ولماذا نكره الموت؟! لأننا لم نستعد لما بعده، رحم الله أقوامًا خافوا فأدلجوا، فعاشوا للآخرة فلم تفتنهم الدنيا، ومع استعدادهم وزهدهم وعدلهم فقد كان خوف الله حتى الممات ملازمًا لهم.
عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين حضرته الوفاة، قال له المغيرة بن شعبة: هنيئًا لك -يا أمير المؤمنين- الجنة، فقال: يا ابن أم المغيرة وما يدريك؟! والذي نفسي بيده لو كان لي ما بين المشرق إلى المغرب لافتديت به من هول المطلع.
كانوا ينظرون إلى الدنيا وما فيها على أنها فيء زائل، وإلى الآخرة على أنها المستودع الباقي، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، واسمعوا إلى أحدهم وهو يصف الدارين، يقول شداد بن أوس -رضي الله عنه-: إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه، ولن تروا من الشر إلا أسبابه، الخير كله بحذافيره في الجنة، والشر بحذافيره في النار، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر، ولكلٍ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
أيها المسلمون: وفي سبيل محاسبة أنفسكم هاكم هذه الوصية فاعقلوها، وأنصفوا أنفسكم من خلالها، وتناصحوا بينكم، فعن سفيان بن عيينة -رحمه الله- قال: كان الرجل من السلف يلقى الأخ من إخوانه فيقول: يا هذا: اتق الله، وإن استطعت أن لا تسيء إلى من تحب فافعل، فقال له رجل يومًا: وهل يسيء الإنسان إلى من يحب؟! قال: نعم، نفسك أعز الأنفسِ عليك، فإذا عصيت فقد أسأت إلى نفسك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 7-10].
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم