عناصر الخطبة
1/مشهد سوق الكافرين إلى جهنم 2/بعض أحوال أهل النار وعذابهم 3/خلود الكافرين في النار بعد خروج أهل الشفاعة منها 4/حال السلف عند تذكرهم للناراقتباس
ثمَّةَ مَشْهَدٌ آخَرُ لَا يَكْتَمِلُ الْحَدِيثُ عَنِ الْمَوْقِفِ إِلَّا بِهِ، إِنَّهُ مَشْهَدُ الْأَشْقِيَاءِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ، وَجَاءَتْهُمْ الدَّلَائِلُ وَالْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ، وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ الْآيَاتُ الْوَاضِحَةُ، فَفَرَّطُوا وَأَعْرَضُوا، وَسَوَّفُوا وَأَهْمَلُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكَهُ الْجُحُودُ وَالنُّكْرَانُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أمَّا بعدُ: نُفِخَ فِي الصُّورِ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَقَامَ الْخَلْقُ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، انْقَضَى مَوْقِفُ الْحَشْرِ بِالشَّفَاعَةِ، وَنُصِبَتِ الْمَوَازِينُ بِالْعَدَالَةِ؛ (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غافر:19].
السُّعَدَاءُ عَبَرُوا الصِّرَاطَ بِسَلَامٍ، وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ الرُّسُلُ بِحَفَاوَةٍ، وَقَدْ اقْتَرَبُوا مِنْ تَوْدِيعِ الْأَحْزَانِ، وَمُعَانَقَةِ الْأَفْرَاحِ فِي نَعِيمٍ لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةِ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ؛ (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر: 73]، هَذَا هُوَ الْمَشْهَدُ الْأَجْمَلُ مِنَ الْمَوْقِفِ.
وَلَكِنْ ثَمَّةَ مَشْهَدٌ آخَرُ لَا يَكْتَمِلُ الْحَدِيثُ عَنِ الْمَوْقِفِ إِلَّا بِهِ، إِنَّهُ مَشْهَدُ الْأَشْقِيَاءِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ، وَجَاءَتْهُمْ الدَّلَائِلُ وَالْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ، وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ الْآيَاتُ الْوَاضِحَةُ، فَفَرَّطُوا وَأَعْرَضُوا، وَسَوَّفُوا وَأَهْمَلُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكَهُ الْجُحُودُ وَالنُّكْرَانُ؛ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[النمل: 14]، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَعَ فِي مُنْحَدَرَاتِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَان؛ (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 126].
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)[مريم:85- 86]، تُبْصِرُهُمْ جَهَنَّم وَهُمْ إِلَيْهَا قَادِمُونَ؛ (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)[الفرقان:12-13]، يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُؤْتَى بجَهنَّمَ يَوْمئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا".
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا، وَتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَيَحِينُ وَقْتُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ؛ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[الزمر: 71-72].
إِيهٍ، يَا مَنْ مَبْدَؤُهُ النُّطْفَةُ، وَمُنْتَهَاهُ الْجِيفَةُ: هَلْ عَرَفْتَ الْيَوْمَ؟ مَا نَفَعَكَ الِاسْتِكْبَارُ! وَمَا أَغْنَى عَنْكَ الْجُحُودُ وَالْإِنْكَارُ! فَلْتَتَلَقَّ الْجَزَاءَ، وَلْتَسْتَعِدَّ لِلْمَصِيرِ؛ (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا)[الفرقان:13-14].
يَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ فَإِذَا الْجُلُودُ تَحْتَرِقُ؛ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء:56]، يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَإِنَّ غِلَظَ جِلْدِ الْكَافِرِ ثَنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَإِنَّ ضِرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ، وَإِنَّ مَجْلِسَهُ مِنْ جَهَنَّمَ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ".
وَتُقَطَّعُ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنَ النَّارِ، وَيُصَبُّ الْحَمِيمُ عَلَى رُؤوسِهِمْ؛ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحج: 19- 22]، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُؤوسِهِمْ، فَيَنْفُذُ الْحَمِيمُ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتُ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ -وَهُوَ الصَّهْرُ-، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ".
وَأَمَّا وُجُوهُهُمْ الَّتِي هِيَ أَكْرَمُ مَا عَلَيْهِمْ فَهِيَ مُسَوَّدَةٌ كَأَنَّمَا حَلَّ اللَّيْلُ فِيهَا؛ (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[يونس: 27]، وَتَغْشَاهَا يَوْمئِذٍ النَّارُ؛ (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)[الأنبياء: 39]، بَلْ يُسْحَبُونَ عَلَيْهَا فِي جَهَنَّمَ؛ (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)[القمر: 48].
وَأَمَّا طَعَامُهُمْ فَأَقْبَحُ طَعَامٍ؛ (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)[الغاشية:6- 7]، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ"، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا".
هَكَذَا تَكُونُ حَيَاتُهُمْ فِي شَقَاءٍ عَظِيمٍ، وَعِقَابٍ أَلِيمٍ، وَأَلْوَانٍ وَأَشْكَالٍ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ؛ (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا)[المزمل: 12-13]، ذَلِكَ هُوَ مَشْهَدُ الشَّقَاءِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَأَحْبَابَنَا مِنْهُ.
نَنْتَقِلُ الْآنَ إِلَى الْمَشْهَدِ الْآخَرِ، إِلَى رَكْبِ الْهُدَى، وَوَفْدِ الرَّحْمَنِ، أُولَئِكَ النَّاجُونَ يَتَفَقَّدُونَ بَعْضَ إِخْوَانِهِمْ فَلَا يَجِدُونَهُمْ، إِخْوَانُهُمْ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، مِمَّنْ شَارَكُوهُمْ فِي بَعْضِ الصَّالِحَاتِ، لَكِنَّهُمْ تَسَاقَطُوا فِي النَّارِ لِغَلَبَةِ الْكَبَائِرِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، يَصِفُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ، فَيَقُولُ: "وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا؛ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا"، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَؤُوا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)[النِّسَاء: 40].
ويُكْمِلُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُ: "فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا -يَعْنِي احْتَرَقُوا حَتَّى ظَهَرَتْ عِظَامُهُمْ- فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ، فَيَقُولُ: لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ! مَا أَغْدَرَكَ!، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ، فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَوَلَيِسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ!، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا، فَيَتَمَنَّى، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا، فَيَتَمَنَّى، حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الْأَمَانِيُّ، فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا لَكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ".
فَيَنْجُو الْمُوَحِّدُونَ، وَيَبْقَى أَهْلُ الْكُفْرِ خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فيَشرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فيَشرَئِبُّونَ فَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ لَا مَوْتٌ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ لَا مَوْتٌ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[مريم: 39]".
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[هود: 103-108].
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ: يُقَالُ فِي الْمَثَلِ الشَّعْبِيِّ: "مَنْ خَافَ سَلِمَ"، فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْمَهَالِكِ دُونَ الْحَذَرِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْمَخَاطِرِ، وَلَا مَهْلَكَةَ أَعْظَمُ مِنْ جَهَنَّمَ، فَيَنْبَغِي أَلَّا يَكُونُ فِي النَّفْسِ خَوْفٌ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَهَالِكِ أَعْظَمَ مِنَ الْخَوْفِ مِنْهَا، وَهَكَذَا كَانَ حَالُ الصَّالِحِينَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"، قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ".
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا سَمِعَ رجلاً يَتَهَجَّدُ فِي اللَّيْلِ، وَيَقْرَأُ سُورَةَ الطُّورِ، فَلِمَا بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)[الطور: 7-8]، قَالَ عُمْر: "قَسَمٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ حَقٌّ"، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَمَرِضَ شَهْرًا يَعُودُهُ النَّاسُ، لَا يَدْرُونَ مَا مَرَضُهُ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ الْأَخْرَمِ قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَمَرَّ بِالْحَدَّادِينَ، وَقَدْ أَخْرَجُوا حَدِيدًا مِنَ النَّارِ، فَقَامَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي"، وَكَانَ عُمَرُ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رُبَّمَا تُوقَدُ لَهُ النَّارُ، ثُمَّ يُدْنِي يَدَيْهِ مِنْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، هَلْ لَكَ عَلَى هَذَا صَبْرٌ؟"، وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَزِعًا، مَرْعُوبًا يُنَادِي: "النَّار، النَّار، شَغَلَنِي ذِكْرُ النَّارِ عَنِ النَّوْمِ وَالشَّهَوَاتِ"، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، وَيَقُولُ عَلَى أَثَرِ وَضَوْئِهِ: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَالِمٌ بِحَاجَتِي، غَيْرُ مُعَلَّمٍ بِمَا أَطْلُبُ، وَمَا أَطْلُبُ إِلَّا فَكَاكَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ".
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[آل عمران: 191-194].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم