عناصر الخطبة
1/ نعمة الإسلام 2/ الأمر بالطهارة 3/ عناية الإسلام بالطهارة والنظافة 4/ فضل الوضوء وأهميته 5/ مواضع يشرع فيها الوضوء 6/ فضل المحافظة على الوضوء 7/ الوضوء عبادة توقيفية 8/ نعمة الماء 9/ التحذير من الوسواس في الطهارةاقتباس
وإن من أوائل ما نزِّل على رسولنا صلى الله عليه وسلم من التشريعات قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، والمقصود من الطهارة هنا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق، فكما أن الكافر يوصف بالنجاسة فبعكسهم المؤمن، قال الله تعالى عن المشركين: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ..
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- بتقوى الله -سبحانه وتعالى-، فنعمت بضاعة المؤمن التقوى، وهي وصية الله للخلق أجمعين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
عباد الله: نعم الله على عباده لا تحصى، غير أن هناك نعمة هي أعظم النعم على المسلمين قاطبةً، إنها نعمة الإسلام ودين الحنيفية ملة إبراهيم، الإسلام الذي هو الاستسلام لله تعالى والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وما من عبادةٍ شرعها الله -عز وجل- إلا وهي داخلة في الإيمان، يزيد الإيمان بفعلها، وينقص بتركها أو التهاون بها.
وإن من أوائل ما نزِّل على رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من التشريعات قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر:4]، والمقصود من الطهارة هنا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق، فكما أن الكافر يوصف بالنجاسة فبعكسهم المؤمن، قال الله تعالى عن المشركين: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة:28]، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجاسات كلّها.
ولقد امتازت أمة الإسلام عن غيريها من الأمم بالطهارة والنظافة، حتى إن الطهارة من الأحداث تعادل نصف الإيمان، يقول أبو مالك الأشعري: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطهور شطر الإيمان". رواه مسلم.
عباد الله: الوضوء هو النظافة والطهارة، فإذا تنظّف المصلّي صار وضيئًا مشرقًا مقبلاً على الله.
والوضوء فريضة لازمة على كل مسلم، يقول الله تعالى في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة:6].
إن أعظم ما شرع له الوضوء هو الصلاة، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقبل الله صلاةً بغير طهور". رواه مسلم، وروى البخاري ومسلم أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ".
إن من رحمة الله تعالى بكم -أيها الناس- أن شرع لكم من العبادات ما يكون سببًا لتكفير السيئات، وإن الإنسان لا يمكن أن يصدر أيّ عملٍ إلا من أحد أربعة مواضع هي: الوجه واليدان والرأس والرجلان، فحواس الإنسان تجمَع في هذه المواضع، وقد جاء الوضوء ليكون مكفّرًا لكل ما يصدر من هذه الأعضاء، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب".
وروى مسلم أيضًا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره".
عباد الله: إذا جاء يوم القيامة واختلطت الأمم امتازت أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالوضوء، فعن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة: ما هذا الوضوء؟! فقال: يا بني فرّوخ: أنتم ها هنا؟! لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". رواه مسلم.
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك"، فقال رجل: يا رسول الله: كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟! قال: "هم غر محجَّلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعَى بين أيديهم ذرّيَّتهم". رواه الإمام أحمد وأصله في الصحيحين.
عباد الله: الوضوء سبب لتكفير الذنوب والخطايا، عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئٍ مسلمٍ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كله". رواه مسلم.
الصلاة مِفتاح الجنة، ومفتاح الصلاة الوضوء، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء". رواه أحمد والترمذي، بل الوضوء وحده -عبادَ الله- موجبٌ لانفتاح أبوابِ الجنة الثمانية يتخيَّر العبد أيّها شاء كما صحّ ذلك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم.
عبادَ الله: الشيطان خلقه الله من نارٍ، والنار إنما تطفأ بالماء، ولأجل ذا شرع الوضوء في المواضع التي يشعلها الشيطان أو يحضرها، فالوضوء يخمد ثوران النفس، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا غضب أحدكم فليتوضأ". رواه أحمد.
الإبل خُلقت من شياطين، ألم تروا إلى ما يصاحِب أصحابها من الخيلاء والأنفة والكبر، ولهذا أمر المصلي أن يتوضأ من لحوم الإبل.
إنّ شأن الوضوء أعظم من ذلك، هو طارد للشيطان، قاطعٌ لدابره، فإذا أراد النائم أن يرتاح في نومه فعليه أن يتوضّأ، يقول البراء بن عازب -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك...". إلى آخر الدعاء المتفق عليه. فإذا نام الإنسان على غير وضوء فإنّ نومه مجال للشيطان يلعب فيه ويشوش، فإن استيقظ النائم فبدأ بالوضوء أفسد على الشيطان كلّ ما صنع، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدةٍ يضرب: عليك ليل طويل، فإذا استيقظ فذكر الله -عز وجل- انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإن قام فصلى انحلت عقده الثلاث، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان". متفق عليه.
ولا غروَ -عباد الله- إن فرط النائم في هذه الأمور أن يبولَ الشيطان في أذنيه، ولما أخبِر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن رجل نام حتى أصبح قال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه".
عباد الله: الوضوء مشروع في مواضِع كثيرة، فلا يمسّ القرآن إلا طاهر، ولا يطوف بالبيت محدِث، وإذا كان الإنسان جنبًا فأراد أن يأكل فيسنّ له أن يتوضّأ، تقول عائشة -رضي الله عنها-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان جنبًا فأراد أن يأكلَ أو ينام توضأ للصلاة. رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ".
العين حقّ، ومن عان أخاه فليتوضّأ له. لما اغتسل سهل بن حنيف بالخرار، نزع جبةً كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، وكان سهل رجلاً أبيض حسنَ الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء!! فما تعدّى سهل مكانه حتى وعِك ومرض، فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برّكت عليه؟! إن العين حقّ، توضّأ له"، فتوضأ له عامر، فقام سهل ما به بأس. رواه مالك والموطأ.
فاتقوا الله -عباد الله-، وواظبوا على ما أمركم، تفوزوا وتفلحوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الله الذي ميّزنا على غيرنا بالطّهور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لله، جعل من الماء كل شيءٍ حيّ، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، كان دينه وسطًا بين الغلو والتفريط، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واجعلوها لكم شعارًا ودثارًا.
عباد الله: إن حديثًا عن الوضوء لا بد أن يشتمل على أربعة أمور:
أولها: أن من حافظ على هذا الوضوء في كل يوم وليلة فإنه جدير أن يتصف بالإيمان، ومن هنا نعلم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه ثوبان -رضي الله عنه- أنه قال: "استقيموا ولن تحصُوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". رواه مالك وأحمد وابن ماجه والدرامي. فما بالكم -عباد الله- بمن لا يحافظ على الصلاة؟! أترونه يحافظ على الوضوء؟!!
ثاني الأمور -عباد الله-: أن الوضوء عبادة، وكل عبادةٍ لا بد أن تؤخذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا الوضوء من نقص فيه عن صفة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد أخطأ، ومن زاد فقد تعدى؛ يقول عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر فتوضّؤوا وهم عِجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". رواه مسلم.
أيها الناس: توضأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغسل أعضاءه مرةً مرةً، وتوضأ أخرى فغسلها مرتين مرتين، وتوضأ ثالثة فغسل أعضاءه ثلاثًا ثلاثًا، فمن زاد عن الثلاث فقد خالف السنة، وجاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم". رواه النسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.
وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن المغفل -رضي الله عنه- أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بنيّ: سلِ الله الجنة وتعوّذ به من النار، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سيكون في أمتي قوم يعتدون في الطهور والدعاء".
ثالث الأمور -عباد الله-: أن هذا الوضوء الذي يتجدد على المرء في يومه وليلته يذكّرنا بنعمةٍ عظمى منَّ الله بها على عباده وهي نعمة الماء الطهور: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان:48]، (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30]، أنزل الماء ليكون رِيًّا للظمآن وإنباتًا للزرع وإدرارًا للضرع وتطهيرًا للأبدان وجمالاً للمنظر، ألم تروا أن البلدَ إذا أجدب من المطر والغيث ذهب عنه نوره وبهاؤه؟!
وإنّ الوضوء لم يكن ولن يكون أبدًا بابًا من أبواب الإسراف في الماء، فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتوضّأ بالمدّ ويغتسل بالصاع، وكان أوفر الناس شعرًا، فما أدري الآن ما منزلةُ الصاع من وضوء أحدِكم فكيف بغسله؟!
يقال في الحكمة: "مِن وَهنِ عِلم الرجل ولوعُه بالماء في الطهور"، وجاء في حديث في سنده ضعف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرّ على سعد وهو يتوضأ فقال: "ما هذا السرف يا سعد؟!"، قال: أفي الوضوءِ سرف يا رسول الله؟! قال: "نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ". رواه أحمد وابن ماجه.
عباد الله: خير ما يقال في هذا المقام: ما عرف قدر الماء من أسرف في الماء.
رابع الأمور المتعلقة بالوضوء: أنه كما أن الوضوء يطرد به الشياطين فإنّ الوضوء مرتَع خصب يجول الشيطان من خلاله على قلوبِ بني آدم، يقول إبراهيم بن أدهم: "يقال: إنّ أول ما يبتدئ الوسواس من قبل الطهور"، ويقول الحسن البصري: "إن شيطانًا يضحَك بالناس في الوضوء، يقال له: الولهان".
فترى أحدَهم إذا جاء للوضوء لعِب به الشيطان، فجعل يخلِط عليه نيّته، يقول: أرفع الحدث لا بل أستعدُّ للصلاة، لا بل أتطهَّر، إلى غير ذلك من ألفاظ يلبِّس بها الشيطان على أهل الوضوء، بل ربما فاتَ الإنسان وقت الصلاة وهو لا يزال في معركةِ وضوئه، يتوضّأ أحدهم بما يعادل القلّتين من الماء، ولا زال في نفسه: أبَلغَ الماء إلى جميع مواضع الوضوء أم لا؟!
ويؤثَر أنّ أحد المبتلَين رأى أبا الوفاء بن عقيل يتوضّأ، فتعجّب من قلة استعماله الماء، ثم قال: إني لأنغمس في النهر ثم أخرج منه وأشك: هل صحّ وضوئي أم لا؟! فقال له ابن عقيل: لقد سقطَت عنك الصلاة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رفع القلم عن ثلاثة"، وذكر منهم: "المجنون حتى يفيق"، وأنت هو.
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [سورة الناس].
اللهم صلّ على معلم الناس الخير محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وارض اللهمّ عن أصحابه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم