عناصر الخطبة
1/حقيقة شكر النعم وكفرها 2/ وجوب الشكر 3/ السير في الأرض للاعتبار من الجاحدين للنعم 4/ أثر الترف في كفر النعماقتباس
.. فما استولى الترف على أمة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فزين لهم ما كانوا يعملون، فصدهم عن سبيل الرشاد، وأوقعهم في شرك الغي والبغي والفساد، وثبطهم عن فرائض الطاعات، وأغراهم بتعدي الحدود وانتهاك المحرمات، وأولعهم بالمحرم من الشهوات، حتى عظمت ذنوبهم ..
الحمد لله الذين خصنا بمزيد من النعم، ووالى علينا ألواناً من الجود والكرم، أحمده سبحانه، يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، والكل مبتلى لينظر سبحانه كيف يعملون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:68-70].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي المصطفى والرسول المجتبى، المبعوث بالرحمة والهدى لعلهم يتذكرون، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصره واتبعوا النور الذي أُنزل معه، أولئك هم المفلحون.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في سركم وجهركم واحذروه، فإنه سبحانه قد أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وآتاكم من كل ما سألتموه، فاشكروه تعالى على جزيل نعمه، وجودوا مما آتاكم من فضله وكرمه، واستغفروه من تقصيركم في أداء حقه مع عظمه وتحتمه، واذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.
أيها الناس: لا يخفى أن نعم الله -تعالى- لا تحصى كثرة، فاشكروه -سبحانه- واحذروا غيره؛ فإن الله -سبحانه- ينعم على عباده فيكثر ليتميز منهم من يشكر ممن يكفر (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40].
فكونوا من الذاكرين الشاكرين، ولا تكونوا من الجاحدين الكافرين؛ فإن الله تعالى قد وعد الشاكرين بالمزيد، وتوعد الكافرين بالعذاب الشديد (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
عباد الله: إن شكر نعم الله تعالى يتحقق من العبد باعترافه بقلبه بأنها من الله تعالى فضلاً، وأن يتحدث بها -تذكيراً لنفسه وقومه- بين الملأ، وأن يستعملها فيما يقربه إلى ربه جل وعلا، وأن يجود بفضل ما آتاه الله على عباد الله عن طيب نفس وحسن نية وشفقة عليهم، وبذلك تحفظ النعم الحاصلة، وتستجلب النعم الواصلة، وربكم لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
وأما كفر النعم؛ فمنه أن يدعي المرء أن ما به من نعمة فمن سببه ومآثر نسبه، كأن يقول: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:78]. أو يقول: " هذا مالي ورثته كابراً عن كابر "، ومن ذلك أن يستعملها في معاصي الله تعالى، والصد عن سبيله (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:47].
قالوا: لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزور، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العرب بمكاننا فيها، فعاجلهم الله بشديد العقوبة، وكتب عليهم القتل والهزيمة، وانقلبوا صاغرين مهانين أذلاء أشقياء في عذاب سرمدي أبدي، وهكذا كل من كفر نعم الله فإنها تنقلب عليه شؤماً وتصير له عذاباً.
أيها المسلمون: سيروا في الأرض، وانظروا كم من أصناف الخلق من القرون الغابرة والأمم المعاصرة ممن ابتلاهم الله بالنعم فكفروها فعاجلهم الله بالنقم؛ إذ اغتروا بعاجل المتاع، وأظهروا لؤم الطباع، وجعلوا نعم الله عليهم وسيلة للكفر والتكبر والطغيان والتجبر، وسلماً للفساد، وسبباً للإفساد، فاستباحوا المحرمات وارتكبوا عظائم الموبقات، وكذبوا المرسلين وكفروا بالرسالات (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود:116].
وردوا دعوة المرسلين قائلين: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ:34-35]. فكانوا جديرين بالعقوبة مستحقين للعذاب (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) [الأنبياء:11-15]. فعوقبوا بكفرهم للنعم وأخزوا بين الأمم (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود:102-103].
أيها المسلمون: وكم في القرآن من قصص المترفين الغابرين الذين كفروا بالنعم، فعاجلهم الله بالعقوبة، وجعلهم عبرة للأمم (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سبأ:19-20].
فما استولى الترف على أمة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فزين لهم ما كانوا يعملون، فصدهم عن سبيل الرشاد، وأوقعهم في شرك الغي والبغي والفساد، وثبطهم عن فرائض الطاعات، وأغراهم بتعدي الحدود وانتهاك المحرمات، وأولعهم بالمحرم من الشهوات، حتى عظمت ذنوبهم، وقست قلوبهم؛ فردوا الحق، وظلموا الخلق، وجانبوا الصدق، وصدوا عن الهدى، واتبعوا الهوى؛ فأصابهم الله بالقوارع، وحلّت بهم المثلات، وجعلهم الله لمن بعدهم من الأمم من أكبر العبر وأعظم العظات (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [النحل:112-113].
وهكذا كل من غره الترف فارتكب المناهي، وغرق في الملاهي، وكفر النعمة، وأمن النقمة، فأضاع الصلوات واتبع الشهوات، وجانب الآداب الشرعية، وأخذ بخلال أهل الجاهلية، وكان ذلك إيذاناً بقرب هلاكه وبعد فكاكه (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء:16-17].
فسيروا النظر في الأوطان، واعتبروا بكثير من حال أهل الزمان ممن أخذ بسنن المترفين الغابرين، فعاقبهم الله بجنس عقوبتهم حتى صاروا أثراً بعد عين. فاتقوا الله وكونوا من الشاكرين الذاكرين، ولا تكونوا من المترفين المكذبين، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين؛ الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم